وزير العدل يثير جدلاً جديداً حول

مشاركة المرأة في القضاء

تقود السيارة أو لا تقود، تتولي القضاء أم لا، تخوض الانتخابات ناخبة ومرشّحة أم لا.. هذه وغيرها أسئلة مازالت تضخها ماكينة الجدل اليومي التي لم تنتج إجابات حاسمة، وقد لا تنتج عبر آليات قانونية ورسمية، وكما هي العادة

في مثل هذا البلد فإن الأمر الواقع يملي حقائقه على الدولة التي تميل الى التملّص من مسؤولياتها السيادية في مثل هذه الموضوعات لتدع الواقع الاجتماعي يضغط من أسفل لخلق بيئة تسويغية لاصدار قرارات غير مكلفة وفي الوقت ذاته مبرّرة.

على مدار الشهور الماضية، كانت حقوق المرأة في مركز الجدل الفكري والسياسي والفقهي، في ضوء تصاعد المطلب الانثوي نحو المشاركة في الحياة العامة، وحصول بعضهن على مواقع إدارية ذات طابع إقتصادي او فني إستشاري. ولأول مرة تبرز ظاهرة إجتماعية إعتراضية مسنودة من جهات في الدولة والمجتمع الديني السلفي تهدف الى كبح النشاط المطلبي النسائي الاصلاحي، في محاولة لاعادة العمل المطلبي الى نقطة البداية.

ومهما يكن، فإن حقوق المرأة في السعودية باتت تطرح بصورة شبه علنية مدفوعة بتحركات نسائية دؤوبة وطموحة تسعى لكسر التابوات الاجتماعية والسياسية والايديولوجية، وقد أثمرت تلك التحركات في اختراق بعض الدوائر المحظورة تقليدياً، حيث حصلت المرأة على حق الترشيح والانتخاب في الغرف التجارية، في خطوة لافتة تهيء لأفق نقاش جاد حول دور المرأة في الحياة العامة.

لقد أثارت تصريحات وزير العدل السعودي عبد الله بن محمد آل الشيخ في الرابع والعشرين من ديسمبر الماضي حول ولاية المرأة للقضاء جدلاً حول الخلفية الشرعية والقانونية لولاية المرأة. ينطلق آل الشيخ من رؤية تاريخية وفقهية تقليدية منفصلة عن بيروقراطية الدولة، وكل دولة هي بطبيعة الحال بيروقراطية، حيث تتمفصل وظائف الدولة على منظومة أجهزة معقعدة في تكوينها وأدائها. يستحضر آل الشيخ الموقف الفقهي للدولة في التاريخ الاسلامي، حيث تتمفصل الدولة على جهازين آساسيين: الحكم/الخلافة/السلطة والقضاء، حيث يمثل الاخير السلطة التشريعية ممثلاً في شخص القاضي للجهاز التنفيذي، ممثلاً في شخص الخليفة. ومن الناحية التاريخية، فإن القضاء لم يتخذ شكل مؤسسة بل كان مشغولاً بشخص القاضي الذي كان عالماً بالشريعة ومخوّلاً بصورة شبه كاملة بإصدار الاحكام. وفق هذه الرؤية التاريخية، يمكن وضع تصريح وزير العدل السعودي بأن (القضاء هو إحدى الولايات الشرعية التي لا تتناسب مع إمكانات وطاقات المرأة)، ويمكن، وفق هذه الرؤية أيضاً، فهم نفي توجه الوزارة (إلى تعيين قاضيات أو محاميات للعمل في سلك القضاء السعودي).

تبرير آل الشيخ للموقف الرافض من إشراك المرأة في القضة كما جاء في حواره مع صحيفة (اليوم) الصادرة في الدمام لم يكن جديداً، فهو إجترار للرؤية التقليدية الساكنة التي تقوم على إعتبار المرأة كائناً عاطفياً غير قادر على التجرّد من جبلته العاطفية لجهة تحكيم العقل. يأتي هذا التصريح في سياق المطالبة المتزايدة من قبل النساء القانونيات للحصول على رخص فتح مكاتب لممارسة مهنة المحاماة، وهو ملف مازال عالقاً داخل وزارة العدل.

يستعير آل الشيخ مكونات رؤيته الشرعية من التراث الفقهي السلفي ومن التاريخ السردي حيث تحتجب استقلالية التحليل كما يحتجب الواقع بكل الحقائق التي يقدّمها والمتناقضة مع هذه الرؤية الصارمة. فلا الاحتجاج بعاطفة المرأة كحائل عن آهلية التولي ولا الاحتجاج بانتقاص الكفاءة العلمية للمرأة يمكن له أن يغشي واقعاً قائماً، فقد اضطلعت المرأة بمناصب قيادية وغيّرت وجه تاريخ بلدانها قديماً وحديثاً، وقد أورد القرآن الكريم قصة ملكة سبأ في سياق إطرائي وذكر قصة المفاوضات بينها وبين الملك سليمان كما ذكر آية الاستشارة حيث لجأت الى أهل المشورة في قومها فاختارت أحسن الآراء. وقد أخبرنا سبحانه وتعالى عن ملكة سبأ وأن ملكها كان في غاية العظامة والفخامة، وشدة الأركان، وأن أمرها كان قائماً على الشورى: (قالت ياأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون) فالملأ هم علية القوم وأهل الرأي، وقولها: ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون هو أعظم مبادئ الشورى، وأن الملكة لم تقطع بأمر ما حتى أشهدت الجميع، وبعد أن أدلوا برأيهم فيه. فلم تلجأ الى خيار الحرب ضد نبي الله سليمان، حفاظاً على مجتمعها وإيماناً منها بخيار السلم. وفي التاريخ المعاصر، تولت المرأة القيادة السياسية بطريقة لافتة كما في بريطانيا والهند والفلبين وبنغلادش والباكستان واخيراً المانيا، وكان لهذه النماذج تأثيراتها العظمى في تاريخ هذه الدول.

وحتى الرؤية الفقهية التي يستند اليها آل الشيخ كانت خاضعة للجدل الفقهي والفكري على مدار عقود طويلة، بما في ذلك الاحتجاج الخاص بالتكوين النفسي للمرأة كمبرر لحظر بعض المناصب على المرأة. يجادل كثيرون حول نقطة الاحتجاج المركزية الواردة في تصريحات آل الشيخ، ويثيرون تساؤلات حول مشروعية الموقف الفقهي من المرأة، في غياب مسند صلب في الكتاب والسنة. فالاية الكريمة (أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين) والتي غالباً ما يحتج بها على انشغال المرأة بالزينة عن الدخول في عالم الخصومة لعدم آهليتها النفسية والذهنية، فإن ذلك ليس سوى توجيهاً مفتعلاً لموقف تاريخي واجتماعي، وقد اختلف المفسّرون حول المقصود في الآية. واما قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لطفاً بالقوارير) فلا يحمل في طياته موقفاً سلبياً من ولاية المرأة بقدر ماهو توجيه من المصطفى لتكريم المرأة ورعايتها في اشارة الى الجانب الفيسيولوجي.

كما أن الاحتجاج بحديث النبي صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة) يعود الى موقف تاريخي مرتبط بالفترة المبكرة من الاسلام والحروب التي كانت تقودها نساء في الجاهلية ضد الاسلام، وكان الموقف موجهاً بصورة محددة الى الى بنت كسرى. وقد ميّز بعض العلماء بين الموقف والحكم، فالموقف مرتبط ومحصور في حادثة معينة ولا يشكّل بالضرورة حكماً فقهياً ثابتاً ونهائياً، ولو كان لأتى النبي صلى الله عليه وسلم على ذكر ملكة سبأ أو لأفصح القرآن الكريم عن موقف واضح في قضية جدلية كهذه بالطريقة التي تثار حالياً.

وقد ذكر الشيخ القرضاوي بعد ذكره لهذا الحديث مايفيد بأن الحديث لا يؤخذ منه بمفرده حكم وأن نصوص القرآن والسنة قد جاءت على خلافه، وأنه مقيد بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما الآن فالحال مختلف وقد قال بخلافه ابن حزم، ورأى أنه تولى المرأة كل الولايات إلا الولاية العظمى، وأنه لا يقال هنا إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، لأن هذه القاعدة مختلف فيها. وأنه لا بأس أن تتولى المرأة ولاية أية دولة من دول المسلمين لأن هذه ليست هي الولاية العظمى، وإنما الولاية العظمى هي الخلافة التي ينضوي المسلمون جميعاً تحتها. وبخصوص الحديث المذكور فقد ذكر البعض بأنه حديث آحاد لم يروه إلا أبو بكرة فقط من الصحابة.

وإذا كان الحديث النبوي الشريف موجّهاً بحسب بعض الفقهاء الى الولاية العظمى أو الخلافة فإن الخلاف قائم دون ريب حول القضاء، وإن قال البعض بأن القضاء مندرج في باب الولايات، فيما لا دليل عليه سوى الصورة التاريخية التي تشكلت حول الدولة في تاريخ المسلمين والتي كان يمثّل فيها القاضي ـ الشخص الركن الثاني في الدولة.

غني عن القول بأن طائفة من أعلام الفقهاء وائمة المذاهب قد أجازت ولاية المرأة للقضاء، منها فتوى ابن جرير الطبري في صحة قضاء المرأة، وفتوى ابن القاسم من المالكية الذي رأى جواز قضاء المرأة، وكذا مذهب الامام أبي حنيفة القائل بجواز قضاء المرأة في ما تجوز فيه شهادتها، ومن الفقهاء المعاصرين فتوى لشيخ الازهر

محمد سيد طنطاوي حين قال: (لا توجد موانع شرعية أمام تولي المرأة مناصب قضائية) ، وأضاف: (إن تعيين النساء في هذا السلك يشكل خدمة لقضايا الاسرة) وقال أيضاً (لا يوجد نص في الكتاب والسنة يرفض ان تكون المرأة قاضية)، كما كتب كثير من الفقهاء المعاصرين أبحاثاً مؤصّلة شرعياً تؤكد على حق المرأة في ولاية القضاء.

أما الرأي الفقهي لدى المذهب الحنفي في عدم جواز شهادة المرأة في الدماء، فذلك مستند هو الآخر لصورة تاريخية كانت فيها المرأة غائبة عن الحروب، بما يلغي الموضوع لا الحكم. وفي هذا الزمن حيث تخوض المرأة مجالات شديدة التعقيد مثل الطب والقانون والتشريح وباقي العلوم جنباً الى جنب الرجال فإن الاحكام كما الصلاحيات تبدو متساوية، حيث لا مانع عقلي يحول دون اضطلاع المرأة بأشد المناصب تعقيداً، مع الالتفات الى ما ورد ذكره اعلاه حول مؤسسية الدولة، واختلافها الجوهري من حيث التركيب والوظائف عن الدولة في التاريخ الاسلامي، حيث تحل المؤسسة محل الفرد، وبذلك يتغير عنوان الموضوع وجوهره، حيث يجري الحديث عن كيانين منفصلين، كالفرق بين الإمرة التي يديرها أشخاص والدولة التي تدار من قبل مؤسسات، بما يلغي التجنيس المرتبط بالذكورة والانوثة، بل الأمر بات يتعلق بكفاءة علمية وخبرة معرفية تؤهل لادارة عمل مؤسسات تضم بداخلها مجموعة أفراد من ذوي الخبرة بصرف النظر عن جنسهم ونوعهم.

ويمكّن تفهم موقف المنكرين على المرأة دخولها الى الحياة العامة، حيث أن موجة الدعوات التي انطلقت في بداية القرن الماضي لتحرير المرأة وإحالتها الى سلعة في المزاد العلني، ومصدر لاشباع لذة الذكور قد أشاعت أجواء هلع من تفسخ المجتمع وانحلاله، الامر الذي دفع مشيخة الازهر الى إصدار فتوى سابقة لرفض مشاركة المرأة في القضاء، وهو ما يدفع البعض حالياَ الى تكرار ذات المواقف على وقع تلك الموجة الثقافية التغريبية. ولكن حين يتم فصل دعوة تحرير المرأة عن الرؤية التجريدية لدور المرأة بوصفها كائناً مستقلاً مؤهلاً ذهنياً وقانونياً للانخراط في الحياة العامة بقدر من الكفاءة والاقتدار فإن شعور الهلع يتبدد، وبالتالي يصبح حضور المرأة في الحياة العامة غير مستنكر بل وطبيعي.

وقد بات مألوفاً اليوم أن نرى المرأة قاضية ومضطلعة بأخطر الادوار في الفصل بين الخصومات، ففي السودان على سبيل المثال تشارك المرأة منذ زمن طويل في سلك القضاء، وقد أحصى أحدهم مايقرب من الستين قاضياً من النساء يعملون في المحاكم. كما تولت نساء من الحجاز القضاء وقد استمر الحال حتى المرحلة الاولى من تاريخ الدولة السعودية الحديثة، ولم يكن يمنع ذلك من قبول المجتمع بأحكام قضائية تصدر عن المرأة لتواضع المجتمع على آهليتها لهذا المنصب، مع إدراك المجتمع بأن المرأة لا تتولى بمفردها هذا المنصب وانما تستعين بأخرين وأخريات الى جانب سعة اطلاعها والمامها بالاحكام الشرعية.

ومع تطور حاجات المجتمع وتعقّد أحوالها باتت الحاجة كبيرة الى مشاركة المرأة في مجالات عمل ادارة المجتمع والدولة، حيث بات دور المرأة ليس شكلياً أو تزييناً لصورة الدولة بل هو دور ضروري محوري يتطلب إستثماره للمنفعة العامة ولا سبيل لتحقيق المنفعة الا بتسهيل مشاركة المرأة في الحياة العامة.

الصفحة السابقة