الإصلاح منبوذاً بالمطلق

مقصلة الخصوصية

منذ خمود فورة المناظرة المتقطعة حول إتجاه الاصلاح السياسي في ديارنا ومصدره، كان لابد من أن نقلع عن اللجهة المزيّقة في مقاربة موضوع لم يعد بإمكاننا خوض غماره قبل أن نحدد مستنداته، والادلة التي يتلفّع عليها. فقد تحوّل موضوع الاصلاح السياسي الى لعبة هابطة يُستدرج اليها المثقفون في محاولة لاستنزاف مجهودهم الذهني والنفسي في مجادلات غير مسؤولة وغير مثمرة.

ثمة غواية مقصودة في منطق المندفعين نحو مناصرة خيار الاصلاح من الداخل، لا نصيب له سوى التجييش المفتعل للدفاع عن قضية غير محصّنة بقدرة إستدلالية مقنعة، لا يراد منها سوى إبطال مفعول الخيار الآخر دون توليد بديل موازٍ له، أي بمعنى آخر إن وظيفة خيار الاصلاح من الداخل هي إفناء الخيارات الاخرى (اصلاح من الخارج، أو اصلاح تناغمي بين الداخل والخارج، أو إنضاج شروط الاصلاح الداخلية)، لا بمعنى وضع استراتيجية اصلاحية داخلية وإنما إعدام كافة الخيارات. لقد دمغت المجادلات العقيمة حول إتجاه الاصلاح من الداخل بواجبات التضامن الداخلي، وهذه الواجبات تتحين تفتتات الصف الاصلاحي العريض، على دوي المطالبات المتكررة لاثبات البراءة من جرم الدعوة للاصلاح الشامل والجوهري والمتناغم مع الخارج.

إن تطويق التيار الاصلاحي الوطني بسحابة إرتيابات في الولاء والانتماء يراد منه قطع أواصر الصلة بين هذا التيار ومحيطه الطبيعي، أي المجتمع الذي يواجه بحلقة ملتهبة من المساجلات حول النزاهة والوطنية كمفردات مألوفة في لغة الترهيب السلطوي. إن هذا التشويه لمنطلقات التيار الاصلاحي ونواياه ليس إذن مرتبطاً بأصل المطلب الاصلاحي بقدر إرتباطه بعملية تشويه لكافة متعلقاته بدءا من الفكرة وانتهاءً بأنصارها.

إن الأمر لا يدور فقط حول خصوصية ذات معنى محدد، تكون غطاءً لشكل الاصلاح الافتراضي، بل يتجاوز ذلك الى تقرير خصوصية من نوع يؤدي الى إبطال المفهوم الكلي للاصلاح بحيث يجعله أقرب الى معنى الافساد. فلا غرابة أن ينفر بعض خصوم الاصلاح من مفردة كهذه، لأنها تحمل في طياتها تهمة غير مباشرة بالفساد. وفي حقيقة الأمر، أن الخصومة هنا ليست مع مفردة الاصلاح سوى ما تمليه من إلزامات إخلاقية وسياسية ووطنية، أي أن المواجهة تتم مع مؤديات المفهوم لا مع المفهوم بحد ذاته.

نلفت هنا للضرورة الى أن ثمة تمييزاً بين خصوصية إيجابية وأخرى سلبية، ويقصد بالاولى خصوصية ثقافية وتميّز حضاري يكون مصدراً للفخر والاعتزاز، بحيث يحول دون التماهي في تجارب الاخرى والتلاشي فيه، فيسلب الذات القدرة على الاحتفاظ بهويتها وانتمائها، ولكنها خصوصية تسمح بالافادة من تجارب الامم من موقع الاحتفاظ باذات. أما الخصوصية السلبية، فيعبر عنها غالباً في تجاوز الحقوق المدنية المقررة في مجتمعات محددة، مثل رفض الاعتراف بمبدأ التعددية الزوجية واعتبار أبناء الزوجة الثانية غير شرعيين كما في الولايات المتحدة وغيرها.

وعودة الى جدلية الخصوصية كمشجب لتعطيل مسيرة الاصلاح، وإشهار لواء خيار الداخل، فإننا نجد ان الاخير يموت بمجرد أن يُقضى على المطلب الاصلاحي الحقيقي. فحين يكف المناصرون للاصلاح بخياراته المفتوحة عن الحركة، تصاب عملية الاصلاح من الداخل بالشلل التام، لأنها عملية لم تنشأ في الأصل على قاعدة فعل حقيقي، ولم تتهيء في الاصل للقيام بفعل. قد نذهب بعيداً في إختبار كفاءة خيار الاصلاح من الداخل الى أنه عديم التصور والنظرة والتخطيط، فمهمته تقتصر على كبح وتعطيل وإعطاب الاصلاح بكافة أشكاله، وليس مبتنياً على نظرية أو إستراتيجية واضحة المعالم.

ولكن ما ليس عقلانياً لا يعني بالضرورة أنه يفتقر الى مسوغات ذهنية قد نتفق أو نختلف على صدقيتها وجدارتها، فدعاة خيار الاصلاح من الداخل قد يعدمون التبرير المنطقي والعقلاني ولكنهم بالتأكيد يختزنون في داخلهم ما يمكن وصفه بالخلفية النفسية المخبوئة التي لا يمكن أو بالاحرى لا يراد تلفيظها في كلمات وجمل تكشف عن أجندتهم الفعلية. ولذلك يواصل هذا الفريق تغذية جهازه المناعي عن طريق التوسل بأدلة تبدو منطقية أو مجردة من أجل إبقاء اللثام مشدوداً على الاجندة المستورة.. فحين يقال لنا بأن الاصلاح من الداخل يتناسب مع خصوصيتنا الثقافية والاجتماعية والتاريخية، فإننا نواجه تحديات من نوع آخر، تضع الجميع أمام محاكمة الانتماء والهوية والشعور الوطني والقومي. إن العزف على أوتار بالغة الحساسية تصدر دون ريب أنغاماً شديدة التأثير، وقد تلجيء البعض الى اعلان البراءة من خطيئة التلوّث بالغيرية، أي تبني أفكار الآخر غير المنسجمة مع مكوّنات الخصوصية المتخيّلة أو المزعومة.

ولكن قبل الاذعان لمنطق الخصوصية لابد من قطع مسافة إحترازية من أجل رؤية المشهد بوضوح قبل الافتتان بجاذبية إملاءاته غير الرصينة. فنحن نواجه رواية خرافية مبتورة لا يجب الاكتفاء بما تنطوي عليه من إشارات منذرة تستهدف غرس اللوم والشعور بالأثم. فالخصوصية تستمد قوتها من مصادر تفكير محددة، تجعل التوسل بها ممكناً:

إن إولى تلك المصادر هي الماضي، كمكوّن جوهري في الخصوصية، ويقصد بالماضي هو الميراث التاريخي والحضاري والثقافي للمجتمع والدولة الذي يحول دون إستيراد نموذج في الاصلاح غير مستمد أو غير منسجم مع ذلك الميرات. لسان حال دعاة الخصوصية والاصلاح من الداخل إن لنا ماضياً يختلف عن ماضي غيرنا. وترتبط بالماضي سلسلة من المفردات: الدين، التركيب الاجتماعي، العادات والتقاليد، التاريخ، المفاهيم الثقافية.

المصدر الآخر للخصوصية هو الايديولوجية، حيث يعاد (تعجين) المكوّنات الثقافية والدينية لجهة صياغة نمط من التفكير الخصوصياتي وتالياً وضع تفسيرات موجّهة لكل موقف يراد من الخصوصية إثباته كيما تكون حاضرة في عملية التجاذب الاصلاحي. يعضد هذا المصدر، القدرة التبريرية النشطة التي تنزع الى وضع إجابات حاسمة على الاسئلة الافتراضية المنبعثة على الجانب الآخر من المجابهة مع الاصلاح.

الى ماذا يقود ذلك؟ إنه بالتأكيد يقود الى تقديم إجابة تبريرية، وبخاصة حين يراد من أنصار الخصوصية تقديم تفسير للتأخر عن ركب الدول التي شهدت عمليات إصلاحية وتحوّل، فحينئذ تصبح الجملة المعتادة: إن لنا خصوصيتنا ولذلك تأخرنا، وكأن الخصوصية باتت تستعمل أيضاً كسلاح مضاد أو كآلة ذات أغراض متعددة. لقد مرّت على أسماعنا وأعيننا جملة بالغة الخطورة في السنتين الماضيتين، ولكن من المؤسف لم يتم التوقف عندها والتأمل في أبعادها. تلك الجملة تفيد بأن تفكير العائلة المالكة متقدم على تفكير المجتمع في موضوع الاصلاح، وأن المجتمع هو الكابح الأكبر لمسيرة الاصلاح. وكنا نأمل لو أن مزيداً من الجدل قد أعقب هذه الجملة كونها تمثّل جزءاً جوهرياً من الرأسمال التشغيلي لنظرية الخصوصية، وما توفّره من قاعدة تبريرية لخيار الاصلاح من الداخل.. ومن الغريب أن يجتمع عنصري التفوق في الذهنية الاصلاحية لدى العائلة المالكة مع منطق الخصوصية المناهض ضمنياً ومئالاً لعنصر التفوق، وهو المنطق الذي تستعمله العائلة المالكة!

ليس من باب الاغراق في هذيانات بعض أمراء العائلة المالكة الذين يراهنون على إعتماد التمويه لصناعة حقيقة أخرى تمحو الحقيقة الساطعة. إن سلسلة العرائض الصادرة من طيف واسع من القوى الاجتماعية والسياسية منذ الستينيات وحتى قبل عامين كانت كافية لازالة الغشاوة عن أنظار المراقبين في قياس منسوب الوعي الاصلاحي لدى القطاع الأكبر من المجتمع. المشكلة الحقيقية تكمن في الاختزالات المتعمدة التي ما فتأت تبتر الصورة الكلية لبلد يضم بداخله تنوعاً فكرياً وسياسياً واجتماعياً. تنبّه تلك الاختزالات الى التشوّهات التي أصابت عدداً كبيراً من الدراسات الاكاديمية حول المجتمع والدولة.

فكثير من هذه الدراسات وقع في مصيدة الصورة المفبركة التي رسمتها العائلة المالكة عن المجتمع والدولة فجاءت الدراسات الاكاديمية متطابقة مع تلك الصورة في المقاربات والنتائج. إن واحدة من المعطيات الكبرى التي تشكل نقطة إنطلاق لكثير من الدراسات الاجتماعية والسياسية أن المجتمع في المملكة يشكل وحدة إجتماعية منسجمة مع إستثناءات نادرة للغاية، إستناداً على تقسيمات لم تعد قائمة أو تقسيمات غير جوهرية مثل البداوة والتحضر أو التقسيم المذهبي سني وشيعي. فحتى وقت قريب كانت النظرة الى سكان المملكة على أنهم بدو وهابيون. إن مثل هذه الصفة الشوهاء للواقع هي المسؤولة عن الجهل المطبق بطبيعة التكوين بالغ التعقيد للمجتمع من حيث خلفيته الجغرافية والمذهبية والاثنية.

ما يمكن أن تؤول اليه تلك الاختزالات الشوهاء، أنها تجعل من دعوى تفوق مستوى التفكير الاصلاحي لدى العائلة المالكة على المجتمع مقبولاً، طالما أن الاخير بدوي ووهابي. ويمكن للذهن الاكاديمي أن يؤدي هو الآخر الى الوهم ذاته عندما تستحوذ عليه الصورة الشوهاء وتغيب عنه الاجزاء الاخرى من الصورة، أي بقية المعطيات الاجتماعية والسياسية والفكرية في هذا المجتمع. وبالرغم من أن كثيراً من المراجعات قد أجريت في السنوات الاخيرة لقلب الصورة النمطية المنقولة للخارج من قبل عدد من الباحثين الاكاديميين، الا أن الصورة القديمة مازالت تمثّل مصدراً لبعض وسائل الاعلام.

حين نبتعد قليلاً عن دائرة الجدل الفارغ حول الخصوصية المؤسسة زعماً لاتجاه الاصلاح ومصدره، فبإمكاننا لململة بقية مكوّنات المشهد وإستدعاء العناصر المغفول عنها لجهة تحديد المتكأ الفلسفي الذي تستند إليه دعوى الخصوصية كأساس مشرعن لخيار الاصلاح من الداخل. إن ما يواجهنا في كل زوايا النظر لتلك الدعوى حقيقة لا يمكن الفرار منها. إن الخصوصية هي مولود نظام شمولي يجنح الى تحصين ذاته عبر إغلاق المنافذ بإحكام كيما لا يسمح بتجدد الهواء داخل الفضاء الذي يعتاش عليه النظام.

بكلمات أخرى، إن الانظمة الشمولية ترفض الانفتاح والافادة من تجارب الامم، لأنها أنظمة قامت في الاساس للحفاظ على السلطة بتماميتها وقوتها وليس لتطوير النظام السياسي وتنمية المجتمع سياسياً وصولاً الى بناء دولة الامة. لا غرابة أن تشترك الانظمة الشمولية في خاصية الانغلاق، التي تسبغ عليها صفة الخصوصية، لأن الانفتاح يعني القبول الاولي بالتفاعل مع الآخر، فكرياً وحضارياً، وليس تفاعلاً انتقائياً يأخذ من الآخر ما يشدد قبضة النظام ويرسّخ أركانه ويزوّده بكافة أدوات القهر الجماعية.

لاشك أن الانظمة الشمولية تسلك سبلاً آمنة في أي تحول تشاء أو يفرض عليها، فهي أنظمة ترفض حتى الرمق الأخير دفع أثمان باهضة في إصلاح ذاتها، وستتمسك بخيار الذب عن حريم سيادتها حتى لو تطلب الامر هدم بعض أركان الدولة أو سفك الدم بغزارة. تعتصم مثل هذه الانظمة بالخصوصية كمسوّغ سياسي وايديولوجي لخيار الاصلاح من الداخل، لأن الاخير خاضع للسيطرة ويكفل ارتياح الساسة، فالخصوصية كزعم أمر مريح وهي تكفي لاغلاق الابواب أمام رياح التغيير، إذ يكفي أن ندعي الخصوصية من أجل رفض التغيير وكفى.

إذن، فإن الغرض من الاختباء وراء الخصوصية هو التهرب من إستحقاق التغيير، وليس كما يشاع بأنها، أي الخصوصية، تمثل معبراً آمناً ومقنعاً لعملية تحوّل منضبطة وفق شروط ومواصفات محلية تماماً. فالخصوصية كما جادت بها تنظيرات المناصرين لخيار الاصلاح من الداخل كانت تبعث رسائل مناوئة للاصلاح السياسي الحقيقي، كما عبّرت عنه عرائض التيار الاصلاحي الوطني ملتقياً على خط استواء مع التيارات الاصلاحية في العالم العربي والثقافة الديمقراطية العالمية. الخصوصية المزعومة هي المسؤولة عن اعتقال الاصلاحيين في السعودية كما في مصر وسوريا وغيرها، ولسان حال قادة هذه الدول بأن الاصلاح السياسي مرفوض بالمطلق.

خلاصة القول أن هناك قائمة من العناوين المستعملة للتعبير الضمني عن رفض التغيير والاصلاح، منها: الخصوصية، الوحدة الوطنية، الصراع العربي الاسرائيلي، وقد تبين بعد عقود طويلة أن تلك العناوين جرى توظيفها كسواتر أيديولوجية وسياسية لرفض الاصلاح .

الصفحة السابقة