بعد مرور 14 عاماً على مجلس الشورى

أدنى من الإستشاري وأبعد عن التشريعي

منذ الاعلان عن الانظمة الثلاثة (النظام الاساسي للحكم، ونظام المناطق، ونظام مجلس الشورى) في مارس عام 1992، كان واضحاً المضمون الزهيد لدور مجلس الشورى بالنظر الى الصلاحيات المطلقة للملك والسلطة التنفيذية التي وفّرت لها مواد النظام الاساسي الغطاء القانوني، حيث لم يتبق لمجلس الشورى دور تشريعي البته. وحتى فيما يخص الصفة الاستشارية للمجلس فقد باتت مجرد عنواناً باهتاً كما يخبر عن ذلك نوعية الموضوعات المطروحة للتداول والمنهجية المتبّعة في مقاربتها بين الاعضاء. ومن المثير للسخرية أن يفرض على أعضاء المجلس التصويت على قضايا هامشية أو يراد منه إضفاء مشروعية من نوع ما على سياسات الحكومة. وقد يتحول المجلس أحياناً الى ما يشبه بالون إختبار في قضايا مصنّفة في خانة القضايا غير المألوفة أو المحظورة أو تثير قدراً من الحساسية في المجتمع الديني السلفي.

مجلس الشورى: لا تشريع ولا مشاروة

بعد مرور أربعة عشر عاماً على انشاء المجلس وزيادة عدد أعضائه من 60 الى 150 عضواً لايبدو أن هناك مؤشرات على تطور دور المجلس في القضايا الوطنية أو ذات الصلة بالمصالح الوطنية. ورغم ما يقال عن نقاشات جادة تجري بين الاعضاء حول موضوعات عديدة، الا أن حقيقة الأمر تبدو واضحة في ما يعبّر عنه دوره غير الملحوظ على الارض، فقد أريد منه منذ نشأته أن يتحول الى واجهة إعلامية للحكومة، حتى يقال بأن لدينا مجلس شورى أو جنيناً برلمانياً وإن كان مشوّهاً، فالعنوان في هذه الدولة يفوق المحتوى دائماً، فليس مهماً أن تزداد النزعة الفردية داخل مؤسسة الحكم شراسة طالما أن عناوين تتوالد لتكون سواتر للاستبداد المتفشي في جسد الدولة.

إن مجلس الشورى الحالي يفتقر ليس الى أي سلطة سواء كانت تشريعية أو رقابية أو تنفيذية بل ثمة تحفظ شديد على دوره الاستشاري أيضاً. نحن أمام مشكلة حقيقية، وهي أن المجلس لم يضع قدمه نحو السير بإتجاه نيل الصفة التشريعية، فتكوينه الحالي لا يساعد على تحوله الى برلمان يقوم على أساس تمثيلي، وهذا بالتأكيد لن يكون عن غير طريق الانتخابات، ثم تأتي قضية الصلاحيات المنوطة بالمجلس وبالتأكيد فإن الصفة الاستشارية لا بد ان تزول كي يصبح المجلس برلماناً شعبياً منتخبياً يتمتع بصلاحيات السلطة التشريعية، وأن يضطلع بمهمة سن القوانين والرقابة على إداء وزارات الدولة وإستجواب المسؤولين.

من الأفكار المفجعة بحق ما يرد في تصريحات بعض أعضاء مجلس الشورى حول مهمات المجلس وتطويره. فقد رفض د. حمود البدر الأمين العام السابق لمجلس الشورى وأحد أعضائه الحاليين إستعمال كلمة إصلاح ترديداً لنفس الموقف الذي تبناه الامير نايف حين إستعاض عن (اصلاح) بكلمة (تطوير) خشية الدلالة الكامنة في المقابل اللغوي لمفردة إصلاح، ثم جاء من بعد وزير العدل فصاغها في لغة دينية، وهاهو عضو في مجلس يفترض أن يكون قاعدة للأفكار الاصلاحية يرفض كلمة اصلاح ليحل مكانها (صلاحيات). ومما يثير الغرابة أيضاً أن يرفض البدر مبدأ إستجواب المسؤولين (وهو المبدأ المعمول به في كل برلمانات الدنيا) قائلاً بأن (المعلومات ممكن أن تؤخذ وتطلب دون إستجواب لأن كلمة إستجواب تعني أن الفرد متهم)!! ولا ندري إن كان البدر وهو الذي تولى منصب أمين عام ويحظى بعضوية المجلس قد إطلع على نظام عمل البرلمانات في العالم، فكيف يتحول المجلس الى سلطة تشريعية إن كان محكوماً بمثل هذه الافكار، مع إحترامنا لأعضاء آخرين عبّروا عن تطلعهم في تطوير المجلس بحيث يتحول الى سلطة تشريعية فاعلة!

لم يكتب لمجلس الشورى حتى الآن دور في سلسلة النشاطات الوطنية الاصلاحية، وما ذلك الضجيج المفتعل حول قضايا محسومة في الشارع سوى بلاغاً كاذباً لوجود غير محسوس لمجلس أريد منه إسداء خدمة لمؤسسة الحكم وليس تمثيل الوطن والشعب. ولأنه مجلس معيّن فمن حقنا كمواطنين أن نقول فيه ما شئنا، لأنه لا يمثل إرادة عامة، فهو جاء بإرادة الحكومة وممثلاً عنها وليس عن الناخبين، ولتتحمل الدولة وليس أعضاء المجلس المعيّنين تبعات أي فشل قد يصيب المجلس، فهذه الفجوة النفسية بين المجلس والوطن ليست ناشئة عن رد فعل بقدر ما هو غياب للفعل في الاصل، لأن ليس هناك ما يمثل وجوداً مادياً حقيقياً حتى يصدر إزاؤه فعل ورد فعل، كما الذبابة التي حطّت على جذع نخلة فلما أرادت الطيران قالت للنخلة تمسّكي جيداً فقد قررت الطيران، فردّت عليها النخلة لم أشعر بقدومك حتى أشعر برحيلك.

ليس في هذا الكلام ما يسيء لأعضاء المجلس، مع إدراكنا بأن فيهم ـ إن لم يكن أكثرهم ـ من ذوي الكفاءة العلمية والخبرة الادارية والنزاهة والشعور الوطني النبيل، فالحديث يدور هنا عن مؤسسة نشأت كرد فعل تشويهي لنشاط إصلاحي وطني شامل عبّرت عنه العرائض المرفوعة الى الملك وولي العهد منذ مطلع التسعينيات معبّرة عن مطالب وطنية اصلاحية حظيت بإجماع الطيف السياسي العام في البلاد. وبالتالي، فنحن نتحدث عن مصادرة قبيحة لارادة وطنية تشوّهت عبر اعلان الانظمة الثلاثة التي لم تكن سوى خيبة أهل الحكم، الذين إعتقدوا خطئاً بأن مثل تلك الكوميديا الهابطة قد تلهي عن الحقيقة الساطعة والمدوّنة في عرائض الاصلاحيين في طول البلاد وعرضها.

الملك الشجاع: الإصلاح يستغرق 20عاماً!

إن محاولة إلهاء المجتمع والرأي العام الخارجي بتغييرات شكلية في المجلس قد تحقق مكاسب اعلامية آنية ولكنها بالتأكيد لا تغير من جوهر الموقف العام من أصل وجود المجلس ودوره. إن زيادة العدد أو حتى نقل مداولات الاعضاء على شاشة التلفزيون في قضايا تبتعد بمسافة ضوئية عن قضايا النفط والدفاع والامن والسياسة الخارجية ومخصصات الأمراء والسياسة التعليمية والقضاء لا يغير من الأمر واقع الحال، فلا زال أعضاء المجلس محرومين من الاقتراب من قضايا تقع في صلب المصلحة الوطنية ولكن لا دخل لهم بها، فماذا بقي إذن لهذا المجلس أن يبت فيه بالمشورة فحسب؟ هل سيتقاسم مع المجالس البلدية مهمة إسداء النصيحة بزرع شجرة أو إضافة عمود نور في شارع أو تعبيد طريق زراعية؟

لم يتغير في دور مجلس الشورى ما يلفت سوى الطلاء الخارجي، بما في ذلك عدد المنتمين الى المجلس الذي تحول بعضهم الى جزء من متاع المجلس. فقد نبّه العضو الناشط محمد آل زلفه الى أن غالبية الاعضاء يلتزمون الصمت طيلة دورة انعقاد المجلس. فبعضهم يخرج من المجلس كما دخله أول مرة دون أن يسمع له صوت أو ينطلق من حنجرته رأي حتى في القضايا غير المكلفة عقلياً ونفسياً. ولنقارن هذا الواقع بواقع آخر تشهده البرلمانات العربية الاخرى فضلاً عن العالمية حيث تمثل صالات البرلمان ساحة للمناظرات السياسية الحامية والجادة والتي تجعل من قضايا الوطن مركزاً جوهرياً يقوم على نقاشات ساخنة تدعمها الوثائق والارقام والآراء الناضجة، بينما الحال في مجلس الشورى لدينا ينعم بالهدوء والنعومة والوقار، بل يحلو للمرء أن ينام على الانغام الهادئة لأصوات الاعضاء وهم يدلون بآراء محتشمة وفي رقة بالغة بعد أن أجرى كل عضو التدابير اللازمة حتى لا يساء فهم كلمة أو يخسر رضى الوالي.

في تصريح لافت لولي العهد الامير سلطان في ديسمبر الماضي بما نصه (نحن لسنا ضد الانتخابات ولسنا أقل من الدول التي لديها انتخابات، ولكن المصلحة العامة في انضمام الشعب إلى قيادته الحكيمة في دينه ودنياه..). تحليل في غاية الغرابة لا لكونه ينطوي على مغالطات خطيرة وتناقضات واضحة في كل محتوياته، ولكنه حين يضع الانتخابات في مقابل المصلحة العامة، في تعبير ضمني عن رفض الانتخابات كونها تفضي الى تهديد المصلحة العامة والتي تعني بحسب نص التصريح انضمام الشعب الى قيادته. إنه تصريح يكاد يعبّر بأمانة فائقة عن الموقف الحقيقي للعائلة المالكة من قضية الانتخابات والاصلاح بصورة عامة. فالاصلاح السياسي الشامل كما يفهمه الأمراء هو تهديد للمصلحة العامة، أي مصالح العائلة المالكة، وهو رأي يلتقي مع رأي سابق للامير نايف وزير الداخلية في لقائه مع عدد من الرموز الاصلاحية في البلاد قبل إعتقالهم، حين قال بأن الدعوة الى ملكية دستورية يعني إستبعاد الامير (الملك) عبد الله أو على حد تعبيره (وضع الأمير عبد الله على الرف)، وبالتالي فإن دعوة الاصلاح السياسي مرفوضة كونها تقتضي التنازل عن بعض الامتيازات.

ما سبق يعين على فهم الدور المصمّم لمجلس الشورى كإطار إستشاري صوري جامد، وضع لتقديم إستشارات تسهم في تعزيز السلطة وليس تصحيحها أو إصلاحها، بالرغم من وجود رؤى إصلاحية معززة بالدراسات العلمية والميدانية لدى بعض أعضاء المجلس والتي إن قدّر للسلطة التنفيذية العمل بها لتمكنت من وضع علاجات حاسمة لملفات عديدة ساخنة.. يشتكي بعض الاعضاء من لامبالاة الامراء الكبار من الجهود الجبّارة التي يبذلونها لوضع دراسات جادة لمشكلات تتعلق بإدارة بعض المشاريع وتصحيح بعض السياسات المالية والامنية والتعليمية والاجتماعية، الأمر الذي يؤدي الى شعورهم بالاحباط وخيبة الأمل من طبيعة الاستجابات الفاترة الصادرة عن الامراء الكبار، وكأن فحوى الرسالة التي تحملها تلك الاستجابات (نحن نقرر ما نأخذ به منكم).

لا تريد العائلة المالكة من أعضاء المجلس أن يحملوا شعوراً وطنياً يفوق شعور الولاء للعائلة المالكة، فالشعور الوطني يبدو خطراً حين لا يكون منضوياً داخل الولاء المطلق للملك وأفراد عائلته، وهذا ينعكس أيضاً على طبيعة الموضوعات المراد مناقشتها، فلا موضوع يخضع للتداول الا بعد التأكد من أنه لا يثير حساسية من أي نوع لدى العائلة المالكة، أو من كونه لا يعبّر عن ولاء العضو او الاعضاء لها، أو لا ينطوي على فائدة مباشرة او غير مباشرة لبعض أركان الحكم.

(التطوير) بدل (الإصلاح)!

ولما سبق ذكره، فإن قائمة الموضوعات المدرجة للتداول في جلسات الشورى تقع خارج المجال السيادي للعائلة المالكة، وتغطّى في الغالب من خلال سحابة دعائية كثيفة على الموضوعات الاخرى ضئيلة الشأن ولكنها تجذب إهتماماً خاصاً من المجتمع الديني. وفي ذلك فائدة أخرى للعائلة المالكة غير ملحوظة غالباً، فإشغال الرأي العام المحلي بموضوع مثل قيادة المرأة للسيارة لمدة من الزمن، في الوقت الذي يكون فيه مستوى المطلب الاصلاحي قد تجاوز ذلك الموضوع بمسافة بعيدة، يهدف الى شدّ الجميع الى أسفل المطالب واعادة المطلب الاصلاحي الى نقطة متدنية، بما يؤدي الى إلهاء المجتمع عن قضاياه الكبرى.

ندرك من محتويات العرائض الاصلاحية بما تضمنته من مطالب جوهرية حول نظام الحكم، والانتخابات، وفصل السلطات، واصلاح القضاء، وتعزيز دور المؤسسات الاهلية، وتحقيق مبدأ الرقابة التامة على المال العام، وتنويع مصادر الدخل القومي من خلال تعزيز دور القطاع الخاص، ووضع إستراتيجية شاملة لمعالجة الوضع الامني من خلال فتح باب الحوار الوطني وتصفية منهج التعليم الديني بنزعته التكفيرية والاقصائية.. هذه وغيرها من موضوعات كانت في مركز إهتمام التيار الاصلاحي الوطني، وبالتأكيد لم تكن مدرجة على جدول أعمال مجلس الشورى فضلاً عن جدول أعمال مجلس الوزراء.

لم يكن مستغرباً أن يكون سقف المداولات داخل مجلس الشورى متدنياً للغاية، لأن مهمته الأصلية لم تتطلب أن يكون أعلى مما قرر له. فبالرغم من أن دوره إستشاري محض، أي لن يصدر عنه قرارات ملزمة للحكومة فإن مجرد التصويت على الموضوعات ذات الصفة الاستشارية هو الآخر خاضع لقيود عديدة. للتمثيل على ذلك، في جلسة التاسع والعشرين من يناير الماضي، قرر مجلس الشورى عدم التصويت على قيادة المرأة للسيارة ضمن نظام المرور في المملكة، مع أن قيادة المرأة للسيارة ليست متضمنة في نظام المرور، أي ليس هناك ما يمنع من ذلك، ولكن لأن قيادة المرأة للسيارة لها بعد إجتماعي فقد تقرر ضمنياً منع التصويت عليها، وهذه نقطة تسجّل ضد مجلس الشورى الذي يفترض فيه أن يكون إستشارياً!!

من الغريب أن تتم دعوة وزير الشؤون الاسلامية والاوقاف والدعوة والارشاد الشيخ صالح آل الشيخ للمجلس بغرض الاستماع الى كلمات أعضاء مجلس الشورى في نظام المرور. إن عملية التداخل في الادوار والمسؤوليات تبدو إعتيادية في دولة لا تتوقف كثيراً عند مجالات الاختصاص، ولا تفصل كثيراً بين الدولتي والسياسي من جهة وبين والديني والاجتماعي من جهة ثانية. فقد يقرر وزير الداخلية سياسة اعلامية وقد يقرر وزير الدفاع سياسة تعليمية، وهكذا فإن دعوة وزير الشؤون الاسلامية قد تبدو من منظور التشريع الديني منطقية حين يراد تقرير سياسة ما يخشى من كونها متعارضة مع مبادىء وعقيدة المجتمع، ولكن أن يكون حضوره للاستماع في مجلس هو في الاصل لا صلاحية له غير تقديم المشورة فإن الأمر يبدو في غاية الغرابة.

تلفت الانتباه تصريحات الاميرة عادلة بنت الملك عبد الله في حديثها عن سياقة المرأة للسيارة وكذا ترشيحها لمجلس الشورى. ففي الاول من أكتور الماضي ذكرت الاميرة في حديث لصحيفة الحياة بأن السماح للمرأة بقيادة السيارة ستتم (في الوقت المناسب) وفيما يخص عضوية المرأة في مجلس الشورى فقالت الاميرة عادلة (هي مسألة وقت). إن مسألة الوقت لدى العائلة المالكة تبدو مستغربة، فهذا الوقت يبدو هيولياً، فلا يكاد أمير في العائلة المالكة يتحدث عن الاصلاح الا ويقذفه في الزمن المجهول.. عن أي وقت يتحدثون؟، ومتى يقع هذا الوقت؟، لا أحد يعلم، فقد تحدث الملك فهد عن الانتقال بمجلس الشورى الى مرحلة الانتخابات قبل أكثر من عقدين ولكن حين أعلن عنه وضعه معيّناً وظل كذلك حتى الآن. وحده الملك عبد الله الذي إتسم بشجاعة المصلحين فقال بأن الديمقراطية ستأخذ وقتاً يستمر عشرين عاماً فقط!!، نعم عشرين عاماً كي يصل قطارها الى المملكة، أي بعد أن يكون الملك والجيل الثاني وربما الجيل الثالث قد أصبحوا عظاماً نخرة.

الصفحة السابقة