خـصـومـة بـنـكـهـة إقـتـلاعـيـة

العواجي نموذجاً

كتب محسن العواجي كعادته مع خصومه، أو من يعتقد أنهم كذلك، مقالاً تحريضياً تشهيرياً بالدكتور غازي القصيبي، وزير العمل السعودي، بلا مناسبة وبلا قضية تستحق، فكان الردّ أن اعتقل في يوم 11 مارس 2006. هذه المقالة تشرح الخلفيات والجذور لكاتبها المثير للجدل.

العواجي: البحث الدائم عن خصوم

حين يخاصم يرتدي البزة العسكرية والعباءة الدينية معاً، فيشهر السيف ويتأبط القرآن، فيحارب ويشرعن حربه على خصومه.. عدّة باتت معروفة في مطاحنات أيديولوجية رتيبة وجاهزة للاستعمال مع الخصوم جميعاً، يتوسل فيها بمفردات باتت مألوفة في لغة خصامية يتقنها رموز التشدد الديني ليخوضوا بها سجالات مع من يختلفوا معهم فكراً وموقفاً، وقد ينحدروا في معاركهم الى مستوى النيل من الشخص ذاته، لا فرق في تعريضهم بين إمرأة أو رجل، فكلهم في العداء بالنسبة لهم ملّة واحدة.

من جهير المساعيد، الى مضاوي الرشيد، الى فراج الشريف؛ ومن الشيعة الى تركي الحمد وغازي القصيبي والحبل على الجرار كلهم يقعون في خانة الخصوم الذين يجمعهم معسكر الباطل في مقابل معسكر الشيخ محسن العواجي وأهل دعوته. وتبدو خصومته من سنخ الحكم الغاشم الذي يصدره سلفاً قبل أن يطلق صفارة المنازلة من طرف واحد. يذكّرني العواجي بقصة رواها صديق لي عن شخص يعرفه كان يخوض حروباً طاحنة خلال قيادته للسيارة دون أن يعلم عن حروبه أحد سواه ومرافقوه، فكان ينزع النياشين عمّن يتجاوز من سبقه بسيارته أو من شمّ منه رائحة تحدي، فيصرع هذا ويجندل ذاك، ويقسّم الغنائم، ولو شاء لسبى النساء والشيوخ والرضّع، وفي ساعات الزحام يتحوّل الجميع أعداء له، فيكيل شتماً لمن مال بسيارته نحوه، ويصبّ اللعنات على من أمامه، فلا يصل الى بيته الا وقد خاض خلال ساعة واحدة حروباً عالمية يستعمل فيها كل الاسلحة، ومن حسن حظّ أعدائه أن أسلحته الفتّاكة مختزلة في لسانة السليط، الذي برع في إستعماله بأي لغة عالمية مدججة بكل أنواع السب والقدح.

هناك أوجه شبه عديدة بين العواجي وخصومه ومارواه لي هذا الصديق عن صاحبه، فالاصل عنده أن ثمة منازلة يجب أن تتم، وليس مهماً مع من تكون، طالما أن المبدأ قائم، أي مبدأ المنازلة. وقد تكون حدّة لهجته تنبيهاً مقصوداً لخصومه بأنني في حرب معكم ألا من مبارز فهل تسمعون النداء؟

يفاجىء المرء حقاً اللغة العنيفة التي يكتب بها العواجي في نقده للآخر، حتى يكاد يحضر بشخصه في لغته، بل وينهب القارىء معه في مواقفه، التي لا يدع له فرصة التقييم الحر، فهو يخترق سيادة القارىء، ويملي عليه مايجب أن يفكر فيه، وما يقتضيه تفكيره من مواقف وأحكام.

خصومة التيار السلفي مع الوزير والشاعر غازي القصيبي لها نكهة خاصة، كونها تستدعي تجربة الماضي القريب، منذ أصدر كتابه (حتى لا تكون فتنة) عام 1991 محذّراً فيه من استغلال الاقطاب السلفية الناشطة سياسياً إبان أزمة الخليج الثانية للاوضاع الاستثنائية التي تشهدها البلاد من أجل الضغط لتحقيق أهدافهم، مقدّماً قراءة نقدية لكتابات ومحاضرات عدد من المشايخ الذين برزوا خلال تلك الفترة من بينهم الشيخ سفر الحوالي والشيخ سلمان العودة والشيخ عايض القرني والشيخ ناصر وغيرهم. وجاء ردّ التيار السلفي عاجلاً وإنتقامياً في كتاب بعنوان (العلمانية في العراء.. القصيبي شاعر الأمس وواعظ اليوم) صدر عن دار الكتاب بولاية شيكاغوا الاميركية، واشتمل الكتاب على ثلاث رسائل أعدّتها ثلاث شخصيات من التيار السلفي (وليد الطويرقي، الدكتور محمد سعيد القحطاني، سعيد بن مبارك آل زغير) وقد كتب المقدمة أحد اعضاء هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين، قال فيها (الفاسق بملء شدقيه.. وان من الجهاد باللسان وبالقلم مناقشة دعاة الضلال ورد كيدهم وابراز نواياهم وأسرارهم كي يبين خزيهم ويعرفوا.. فلابد من ذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس) ـ ص 8 . وبحسب ماجاء في الرسالة الاولى، فإنها أُعدّت بتشجيع من المفتي السابق الشيخ بن باز الذي طلب من الطويرقي كتابة رد على رسائل القصيبي التي ضمّنها في كتاب (حتى لاتكون فتنة). كما احتوت مقدمة الناشر على مجموعات من الاحكام الموجهة ضد القصيبي (الفاسق، الفاسد ، المنحرف ، الضال، علم من اعلام العلمانية، عميل من عملاء الاميركان ، دعي، منافق...). في ظل هذه الاحكام التحريمية، تسقط كل المعايير الاخلاقية والضوابط العقلانية في أي منازلة مع القصيبي ومن يقعون داخل معسكره!

رغم ان العواجي يحاول أن يخفي سبب اختياره القصيبي هدفاً لنبال نقده الا أنه أفشى سراً في ثنايا مقالته، وهو ما دفعه لفبركة أوجه شبه بين القصيبي ويحي البرمكي. فقد نقل عن أناس أسبغ عليهم مواصفات الوطنية والالتزام الديني والطاعة للقيادة (وهي مواصفات بالتأكيد سلبها من القصيبي ومن هم على شاكلته). يقول العواجي (لقد هاتفني صديق غيور محب لدينه ووطنه ومليكه قائلاً: ألا ترى ما يفعله برامكة العصر في بلاط الرشيد؟ يسميك شخصياً ورهط معك ليسوا نكرات، يرون فيك الموجِّه والأستاذ والأب الروحي!!ولا أخالك بريئاً يا هذا! و آخر يتسائل مالذي حدث في السياسات العامة للدولة داخلياً وخارجياً؟ هل حدث انقلاب أبيض في المسيرة السعودية؟ هل أصبح القصيبي شجرة در أخرى مع فارق التشبيه؟ تساؤلات قد يشوبها المبالغة أحياناً، ولكن لا دخان بلا نار، وثالث يستشيظ غضباً ويصرخ: يستحيل علينا أن نقاد بأفكار القصيبي ومن معه، ولا نقبل أن يستغلوا المنابر العليا في الدولة لتمرير برامجهم الخاصة ضد رغبات مجتمعنا المحافظ، لقد خلطوا أوراقاً كثيرة داخل البلاط، يهمنا منها في الدرجة الأولى هويتنا الإسلامية والانتماء الديني للدولة).

في مقالته الموسومة (غازي القصيبي أم يحي البرمكي؟ التأريخ يعيد نفسه!) والمنشور في موقعه الوسطية بتاريخ الرابع من صفر، الموافق الرابع من مارس، تصحب روح العواجي القارىء من مفتتح المقالة حتى خاتمتها، ويبدو صاحبها متقرئناً بدرجة كافية، فكلما أراد أن يقصف خصمه بتهمة أو وصمة أسبغ عليهما مسحة قرآنية كي تكتمل الطريقة الشرعية في نحر الخصوم، فقد رصف مقالته بلغة قرآنية، واستوحى قصص الغابرين من آل فرعون وبني اسرائيل وعاد وثمود وأقوام لوط وشعيب ونوح وابرهيم تعزيزاً للعبرة التي علّمنا القرآن الكريم إياها في سرد قصص السابقين.

أن يفلق العواجي العالم الى معسكرين: أهل التوحيد وأهل الشرك، فهي عقيدة قارّة في التراث السلفي، وقد سبقه اليها اسامة بن لادن حين قرر تلك القسمة العقدية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فصار العالم فسطاطين: فسطاط الحق وفسطاط الباطل، فهذه الثنائية تمثل الرؤية الكونية للمدرسة السلفية التي تؤسس لايديولوجية التغيير الثوري العالمي.

لا يخفي العواجي، وهو يخوض حرباً ضروس ضد خصومه، تصميمه على تحقيق هدف مزدوج يمثل المزيج المروّع من إرادة سحق الخصم وتجريده من إنسانيته، وفي الوقت نفسه إرادة تنزيه الذات حد التطهّر. فهو يقدم الى حرب يدرك تماماً بأنه على حق مطلق وان خصمه على باطل مطلق، وهذا ما سنلحظه في تقييمه النقدي والقدحي لكل خصومه.

بدأ العواجي مقالته الهجومية على الوزير والشاعر غازي القصيبي بتوصيف رومانسي للدولة الدينية في السعودية كما تخيّلها وليس بالضرورة كما هي واقع. فأسبغ على الدولة السعودية مواصفات (دولة الإسلام ومهبط الوحي وقبلة المسلمين، هكذا بدأت وهكذا ستبقى بحول الله إسلامية الأصل والمنشأ، رغم أنف كل متربِّص وحاقد ومتأمرك، يريد أن يمسخها وينزع عنها جلبابها الحشيم الذي كساها الله به).

في هذه الديباجة طوباوية المنزع يحتشد الحلم والموقف والقذف، فمن جهة يذكّر أهل الحكم بالاساس الديني للدولة، كما هو مقتضى التحالف الديني السياسي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والامير محمد بن سعود، وأن بقاء الاساس شرط الادامة. وهنا يتقاسم الحلم والواقع الحقيقة ثم يفترقان، فقد أراد العواجي أن يسقط حلمه على واقع مناقض، فالدولة الاسلامية التي يتخيلها غير تلك التي تتجسد الآن في النظام السياسي السعودي. ثم ينتقل الى الموقف المشفوع بتعريض شخصي بالقصيبي ومن يندرج في جبهته بحسب تصنيف العواجي وأهل دعوته، فيرميهم بالحقد والتأمرك والتربّص بالشر لدولة الاسلام ـ كما يتخيلها العواجي ـ فيرومون مسخ الدولة ونزع جلباب الحشمة عنها، وهو جلباب، على حد العواجي (كساها الله به)، وهنا يستعير المقولات الاموية التي كانت وبالاً على الامة حين أسسوا لحكم ثيوقراطي استبدادي وقالوا إنما هم يحكمون بإسم السماء، وأن الحاكم انما هو ظل الله في الارض.

يذهب العواجي في تأمّله للدولة الدينية بموجب امتثالها لمنظومة أفكار ومؤسسات دينية شكّلت مجتمعة مشروطات وسمات الدولة الدينية عبر نزعة المحافظة (في التعليم والقضاء وهيئات الأمر بالمعروف وهيئات الإغاثة الإسلامية وجمعيات البر وجمعيات تحفيظ القران وحشمة المرأة وعفافها ومنع الخمور وإغلاق المحلات التجارية وقت الصلاة، هي الدولة التي ما كان لها أن تكون كذلك لولا هذا الإسلام العظيم فلا خيار للقيادة ولا الشعب (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) ولن تبقى أو يكون لها مستقبل دون أن يكون الإسلام فيها كل شي، جملة وتفصيلاً (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) هكذا كنا وما زلنا، عاهدنا وتعاهدنا، رضينا وارتضينا ولو كره المجرمون).

هنا لا يبدو نموذج الدولة الدينية مفصولاً عن التفكير فيه، إذ المزج بين المثال والواقع رهين تصوّر بعدي لا قبلي للدولة الدينية، وليس من مهمات العواجي القيام بعملية تفكيك للنموذج المستعمل للدولة الدينية. يسرد العواجي ضوابط شرعية الدولة السعودية في محاولة متعمدّة لوضع مقياس صارم لمشروعية الدولة، مستمدٍ من واقع قائم يمثل خارطة ومساحة انتشار الوجود الديني السلفي، الذي يغدو مكفولاً بالنص المتعالي. ويكاد العواجي ينزلق دون وعي الى الفكرة الخوارجية (لا حكم الا لله)، فهو هنا لا يتحدث عن حكم ـ شريعة بقدر ما هو حكم ـ إمرة، أي، على حد تفسير الخليفة الرابع علي (كرم الله وجهه) لمقولة الخوارج، فإنهم انما أرادوا القول (لا إمرة الا الله)، بمعنى نفي السلطة مطلقاً ثم انتزاعها بإسم الله عز وجل.

إن مجرد دعوى تطبيق الشريعة، لا تكفي وحدها لنفي أغراض سياسية مضمرة في أجندة الجماعات الدينية، بدليل أن كثيراً من عناصرها تشارك في الصراع على مناطق النفوذ ذات الطابع الدنيوي المحض، وإن تخفّوا وراء شعارات دينية من ذلك الثراء الفاحش لدى بعضهم والبيوت الفاخرة التي يسكنون فيها بما يخالف مبدأ الزهد ومقاسمة الفقراء والمحرومين معاناتهم.

القصيبي: هل حقاً يقود نخبة برمكية؟

لا يتردد العواجي في توصيم خصومه المرة تلو الاخرى، ويقذف بهم مرة في جبهة المتآمرين، وأخرى في جبهة المتأمركين، وثالثة في جبهة الكفار والملحدين، الذين يجتمعون عند هدف اسقاط الدولة الاسلامية ومسخ الهوية الدينية والوطنية لحساب الصهيونية العالمية، وينفّذون من الداخل أجندة أجنبية. لغة منزوعة من عقال العقلانية ومسرفة في عاطفية مبتذلة فقيرة حد الادقاع الى الحقيقة. يقول العواجي (فشلت كل محاولات النيل من هويتنا الإسلامية، وانتحر كل متآمر على أسوار قلاعنا الحصينة، بقيت شرذمة قليلة من المتلوّنين فكرياً يصارعون من أجل البقاء، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن، يظهرون بالنصح تارة وبالفضح تارة، يعيشون بين ظهرانينا، أشربت في قلوبهم الانهزامية والخنوع، يقدسون الحضارة الغربية بلا تحفظ، حتى بعد أن تحطمت قيمها على جبال تورابورا وفي معتقلات أبو غريب وأقفاص غوانتانمو، وفي سجون حيفا وعسقلان، لا يعلمون بأن (لله العزة ولرسوله وللمؤمنين) تنكروا لمجتمعهم، تضخمت عندهم قضايا لدرجة الهوس، يحسبون كل صيحة عليهم، إذا طرح شأن المرأة فقدوا عقولهم تعطشا لابتذالها، وإذا ذكر التعليم الديني ثارت ثائرتهم واتهموا المناهج في كل سوء، وذا طرح تفعيل تحكيم الشرع نطق رويبضتهم، يعيبون على غيرهم خوضه فيما لايعنينه بينما لا يتورعون أن يكونوا ناطقين بكل شي عالمين بكل شيء مفتين بكل قضية، لم يستوعبوا الدروس الماضية وهم يراقبون جبل الإسلام الشامخ تتحطم عليه أصنام الماركسية الإلحادية، والقومية الانفصالية، و البعثية القطرية، وآخراً الأمريكية التغريبية الصليبية، بينما دين الله الإسلام ليس صامداً أمام كل التحديات فحسب، بل كلما ازدادوا حرباً عليه كلما ازداد شموخاً وانتشاراً، يدخل الناس فيه أفواجاً بالرغم من فشل قادته، وخذلان علمائه، وغفلة أبنائه).

يصدر العواجي حكماً إجمالياً على شريحة كبيرة من المجتمع ثم يصفها بالشرذمة القليلة، ولو كانت كذلك لما نالها من سهامه النارية شظية، ولا ندري مالذي يربط تورابورا وغوانتانامو وابو غريب وحيفا وعسقلان بالقصيبي وغيره، سوى تلك الرابطة المفتعلة لدى العواجي في اعتبار المنادين باصلاح التعليم والقضاء والمؤسسة الدينية بأنهم يتّبعون نهج الاميركيين، بالرغم من ان دعوة اصلاح المناهج صدرت أولاً من داخل المحسوبين على التيار الديني وكان المحامي الشيخ عبد العزيز القاسم والشيخ حسن بن فرحان المالكي وغيرهم قد كتبوا دراسات معمّقة ودقيقة في هذا الموضوع، فهل هؤلاء فعلوا ما فعلوا بوحي أميركي أم أنهم أقدموا على ذلك بقرار صادر من واشنطن او نيويورك أو السفارة الاميركية في الرياض. أمّا المطالبة بإصلاح القضاء، فلم تقتصر على فئة دون أخرى، فقد جاءت في عريضة التيار الاصلاحي الوطني الذي ضمّ الى جانب الليبراليين عناصر دينية قيادية لها باع طويل في الدراسات الاسلامية مثل الدكتور عبد الله الحامد والشيخ حمد الصليفيح، وسليمان الرشودي، وعبد الحميد مبارك وآخرين.

ما يظهر في هجمة العواجي، أن القصيبي لم يكن مقصوداً بمفرده، بل يمثل مدخلاً أو عنواناً لتصفية حساب اجمالي مع كل الذين يختلف معهم، ممن نادوا بتصحيح المناهج واصلاح القضاء وتخفيض دور المؤسسة الدينية في السياسة. ومع ذلك حين ينتقل العواجي من العام الى الخاص ومن الجمع الى المفرد، يصبح القصيبي هدفاً مباشراً يفرغ العواجي كل استبطاناته النفسية والايديولوجية في نقده له. يفتعل العواجي الموازنة في قراءة القصيبي، ويحاول أن ينصفه أديباً وإدارياً والى حد ما سفيراً ووزيراً مع بعض الغمز المباح سلفياً، مع أنه يرسل إشارة الى رأس السلطة يعاتبه فيها على استوزار القصيبي فترة طويلة (وكأن الأمهات السعوديات لا ينجبن وزيراً إلا من خلال طفرة بيلوجية). وهنا يلفت العواجي الى أن القصيبي ليس رأس الخيط الموصل الى تحديد أصل المشكلة، فبينما يصفه في مكان وكأنه العقل المدبّر للدولة، ينزع عنه هذه المكانة وينزله في مقام السامع المطيع (ومهما بدا متمردا أحينا إلا أنه يسمع ويطيع في المنشط والمكره، لم يسجل التأريخ الإصلاحي السعودي له كلمة واحدة تصب في اتجاه تفعيل دور المؤسسات المدنية أو الانتخابات أو حقوق الانسان أو استقلال القضاء أو الفصل بين السلطات، ولم يقل أو يفعل إلا بما يسمح به الرقيب، لا مانع لديه في المناورات الإعلامية فيما لا يهدد مصالحه الشخصية بغية البقاء في الساحة السياسية). فعلام إذن هذا الضجيج حول شخصية لا حول لها ولا قوة، ولربما كان يتحدث عن زمان غابر وإن لم يكن هناك في كلام العواجي ما يوحي بأنه يؤرخ لتجربة القصيبي السابقة التي كانت بالتأكيد أشد أثراً وأنضج ثمراً.

ربما حسب العواجي أن عودة القصيبي الى الوزارة قد منحته قوة تأثير في سياسات الدولة، في ضوء متغيرات طفيفة تعب في النضال من أجل تحقيقها آخرون وأضفى العواجي عليها مسحة قصيبية، فهبّ يعلي من شأن القصيبي ويغدق عليه الالقاب والرتب حتى أنزله منزلة هيولية (أما اليوم فقد اختلف القصيبي ولم يعد مجرد وزير ولا مشير ولا سفيرولا أمير! بل أصبح خلقاً آخر، وبلغ مكانة لا يرقى إليها حتى بعض كبار الأمراء، ولربما حُسب حسابه قبل حساب فلان أو فلان من الكبراء)، وحتى لا يقال أن هذا التفخيم يكسوه الحسد وتحثّه الغيرة من الرجل، منح العواجي نفسه شهادة برائة من ذلك كله واضعاً ما قاله في مصلحة أكبر تتجاوز المصلحة الشخصية (وليس المقام مقام حسد ولا استعداء، لكن من باب وضع حد للعبثية التي تمارس باسم البلاط ضد مصالح الأمة، خاصة توجهاته التغريبية والتحررية، التي يتحين لها كل فرصة لتمريرها بصعوبة ومن حقنا إبداء الرأي في شخص أشغل المجتع ثلاثة عقود).

يصوّر العواجي القصيبي بأنه يمثل رأس خلية تتحرك في جسد الدولة وتهدف الى طمس جوهرها الديني عبر التسلل في مساماتها، في تصوير قصصي ممتع يحاول أن يخبر من خلاله القارىء والدولة بأنه قد كشف قائد الخلية ومخططها الجهنمي والتدميري، ولا ينسى تذكير قائد الخلية وقائد الدولة معاً من عواقب وخيمة، في ضوء تجربة البرامكة مع حكم الرشيد (عجبي منك يا أبا يارا: تقود فريقا ملونا، تسرحون وتمرحون بلا خوف ولا وجل، أيخفى عليكم يقظة الرقيب وتبسم الليث وغضبة الحليم؟ ألا تجد في التأريخ عبرة لمن كان له قلب منكم، فاقض ما أنت قاض وترقى حيث شئت عند الوالي، فلن تكون بمنزلة يحيى البرمكي ولا بحضوة ولديه الفضل وجعفر عند الرشيد، فلم تغني عنهم شيئا لما جاء أمر ربك، لا أخالك إلا حصيفاً امتطى الجواد رشيداً، وليس أمامه إلا الترجل رشيداً، غضبة الرشيد كانت واحدة ولكنها كانت القاضية، فلا تلهينك سكرة الحظوة الزائلة عن معالم الطريق الطويل ووحشة السفر، ألا تحسب حساب من حولك ممن يتابعون ويرصدون، منهم الفضولي ومنهم الأصولي ومنهم الوصولي، ومنهم المتلمض عليك والمتربص الذي ينتظر إذن التأريخ، ومثلك لا يجهل نوائب الحدثان، وشواهد التأريخ عبر الزمان ومنها كيف تمنى سليمان بن عبد الملك بقاء الحجاج حياً، ليتمكن منه مما كان يناله منه باسم الوليد بن عبد الملك في حياته).

يختم العواجي، وهنا بيت القصيد، معركته بإشراك السلطة كما هي العادة في الاستقواء بقوة أكبر في مثل هذه الحروب التي تجري داخل مجال نفوذها وتحت سلطتها. فقد أراد من خلال منازلة القصيبي إرساء مفاضلة بين فئتين: فئة تريد شراً بهذه الامة تهيء (من الأجواء داخل البلاط مناخا تنبت فيه بعض الأفكار والتوجهات التي تتعارض مخرجاتها مع مسلمات المجتمع السعودي وثوابته الأصيلة)، وفئة أخرى نذرت حياتها للحفاظ على هوية وكرامة ومصير الامة. هذه المفاضلة تبتغي إيصال رسالة غير مباشرة، بأن الفئة التي عليها العواجي هي أولى من تكون أقرب الى السلطة وليس الفئة التي ينتمي اليها القصيبي.

يغمز العواجي في قناة الملك عبد الله حين يحيله الى مجرد أُذن يصغي الى بعض الناس الذين يريدون شراً بالبلاد والعباد، ويكاد الملك أن يقع، بحسب العواجي، ضحية خديعة يحيكها القصيبي ورهط البرامكة الجدد ضده، مستغلاً طيبته (وليس عليه خوف إلا من أريحيته وتواضعه وكرم نفسه وحسن ظنه بالآخرين، وتلك شهامة لا يقدرها إلا الرجال الصادقين المخلصين). وهذا من باب أراد أن يمدحك فأذمك، فقد أحال الملك عبد الله الى مجرد تابع لا يتمتع بأية قدرات ذهنية تسعفه على تمييز الخبيث من الطيب، والخير والشر، والصالح والفاسد من أمور المسلمين. إن تشخيص العواجي لشخصية الملك دفعه الى رصّ قائمة من النصائح من باب المناصحة له. فبدأ من حيث إقرار الملك على نفسه بوصفه حجة عليه، فطالبه بامتثال الوعد الذي قطعه على نفسه حين تعهد بتطبيق الشريعة بحسب المواصفات السلفية، والذي عدّه العواجي بمثابة العقد بين الشعب (بالمفهوم السلفي) وقيادته. وانطلاقاً من هذا العقد، يقتضي، بحسب رؤية العواجي، الالتزام بشروط العقد ومتطلباته، ومن ذلك إبعاد فئة وتقريب أخرى (إن قربكم من أهل الخير الذين يخافون الله فيكم، ولا يخافون في الله لومة لائم خير من تقريب الآخرين الذين يخافونكم في الله ولا يحسبون حساب خطوات محرجة إسلاميا بدأت تحسب عليكم وهم من يتولى كبرها دون معرفة البعض بحبكم للخير وتعظيمكم لشعائر الدين وغيرتكم على الحشمة والمحارم، إن أهل الخير والفضلاء صمان الأمان لكم في الدنيا والآخرة بحول الله وقوته، وهم سندكم الأقوى بعد الله، وأغلبيتكم في كل ميدان من أمة اختارت الدين منهاجاً وضحت من أجله وتبناه والدكم المؤسس وسار عليه إخوانكم من قبل رحمهم الله جميعا). وفي هذا المقطع تهمة لفئة وتنزيه لأخرى، ودعوة لتصحيح وضع مختلّ لا يعتدل الا بإعادة أسلمة الدولة على الطريقة السلفية، في نزعة إستئصالية ضارية، تعبّر عن نفسها في هيئة تجريم الآخر وتعظيم دور الذات، التي تتحول الى صمام أمان وحيد للدولة، بكونها الركن الحصين لقواميتها واستمرارها.

ومن أجل استكمال عملية تقويض الآخر، لا بد من تقديم الأدلة الدامغة على صدق المدعى، فالعواجي يصيغ رؤية أيديولوجية في ضوء متغيرات يعتقد بأن القصيبي أو غيره مسؤولون عن حصولها، أو كأنها جاءت ثمرة ترتيبات سرية بين حاشية الملك أو مستشاريه ليقرروا خطة محكمة لجهة الزج بـ(مجتمعنا المحافظ بمتاهات فكرية وسلوكية مخالفة لصريح القران والسنة، يزينون أعمالاً ليست مقبولة عند مجتمع قدره أن يكون محافظاً، والأمر في عنقكم يوم القيامة، والناس يتساءلون عمن يتبنى باسمكم تفاصيل ترتيب هذه المؤتمرات الاقتصادية المختلطة مثلا، وكذا معرض الكتاب الأخير، سواء من ناحية الكتب المسموح ببيعها، أو طريقة تنظيم الزوار من الجنسين)، وحتى لا يقال أنه ضد الحرية يلبّسها العواجي رداء الاستبداد بإسم (تقييدها بضوابط الشرع).

لقد هاله وكثيرون من صنفه رؤية كتباً غير دينية حظيت بإقبال واسع في المعرض الدولي للكتاب في الرياض، ولربما ضاق صدره من رواية (بنات الرياض) التي مثّلت تشريحاً عميقاً لواقع المجتمع السعودي! ورفعت الغطاء عن مكبوتات سترها عنوان المحافظة، وفي واقع الأمر، أن رجاء الصانع كشفت عن المجتمع الثاني للمجتمع، أي المجتمع غير المرئي الذي يمارس حياته الحقيقية وبمحض إرادته بعيداً عن أشكال السلطة السائدة دينية كانت أم سياسية أم إجتماعية. ولم تكن الرواية سوى توصيفاً لما هو قائم، وليس رواية إفتراء كما يقول العواجي، فقد أفشت الصانع ما كان سراً، كما سبقها الى ذلك أخريات في المجتمع.

وفيما يبدو، فإن رواية الصانع أخذت مأخذاً عظيماً في منازلة العواجي مع القصيبي، حيث يبدو التوتر طافحاً في الدفاع المستميت عن المجتمع المتخيّل. يخشى العواجي من أن تكون الرواية بداية إنقلاب الصورة النمطية المعروفة عن المجتمع، ولذلك تساءل عن صورة النساء السعوديات في الخارج بعد قراءة هذه الرواية.

في نهاية المطاف، لا يقدّم العواجي في منازلته مع القصيبي، كما هو شأن المنازلات السابقة، سوى نسخة أخرى من الرؤية السلفية المتزمتة المشتملة على إقصاء الآخر حد التجريم وتنزيه الذات حد الاصطفاء، وفي الوقت نفسه الاقتتال من أجل إنتزاع دور إفتراضي، وإعادة عقارب ساعة الدولة الى الوراء، الى حيث نقطة التحام الديني السلفي بالسياسي السعودي. وما يعيبه العواجي على القصيبي يقع فيه ويزيد عليه، ولا يقدّم لنا سوى مزيد من القناعة بأن نزعة الاقتلاعية تغمر الفكر والسلوك حين لا تجد ما يكبح جماحها.