الـدولـة ا لواحـديـة

كونها قامت على أساس غلبة عنصر قبلي ومناطقي واحد، ومذهب ديني واحد، ونظام سياسي مختزل في فئة واحدة أو شخص واحد هو الملك، ولفرط النزعة الواحدية واندغامها في البنى الفوقية والتحتية، يصبح التنوع خطراً محدقاً بمصير الدولة، قد يؤول الى تفتتها لأنه يمسّ أصلاً تكوينياً قامت عليه، فهي تعيش على الواحدية لأن التعددية ومترادفاتها تؤدي الى ضروب تمزق وإنهيار. من وجهة نظر كتلة الواحديين، أن وحدة الدولة تكمن في إدامة واحديتها، فلا شراكة سياسية تتضمن مزايا مضاهية دع عنك متفوقة لقوى أخرى في النظام، ولا تبجيل لمفهومي المواطن والوحدة الوطنية لأنهما ينطويان على خفض عنصر ورفع آخر في عملية تسوية حقوقية مكلفة بالنسبة للواحدي.

إن شرط البقاء يفرض على الواحديين النضال على جبهات عدة، كلٌّ من موقعه، فالديني يناضل كيما لا تتبرعم كيانات دينية أخرى تسمح لها في المستقبل بالمنافسة على توجيه المجتمع أو بعض فئاته، أو تحول دون إستعمالها سلاح التحريم الديني الذي يحجب عنها مشروعية الوجود والعمل، والسياسي يناضل كيما لا يزداد منسوب الوعي السياسي في المجتمع لينصّب في قنوات تعبير جماعية تؤدي الى تفتيت السلطة الى أجزاء متقاسمة بين أطراف عدة، والقبلي أو المناطقي الواحدي يناضل من أجل تدجيج مؤسسات الدولة بعناصر تنتمي الى ذات الخط القبلي والمناطقي للحيلولة دون نفوذ عناصر أخرى من خارجه تسمح بتكاثر تدريجي يؤدي الى توسيع قاعدة المشاركة في كعكة السلطة والثروة.

ندرك من واقع الدراسة والخبرة أن الشروط اللازمة للاصلاح والديمقراطية هي ذات الشروط اللازمة للتعددية الفكرية والسياسية والاجتماعية، إذ لا يمكن أن تُبنى ديمقراطية أو يتحقق إصلاح سياسي في أي بلد ما لم تكن التعددية شرطاً جوهرياً فيه، فالواحدية نقيض تكويني للاصلاح الديمقراطي، كما هو نقيض تكويني لمفاهيم الحرية، والشراكة السياسية، والثقافة الوطنية. ولذلك تبدو المفاهيم المؤسسة للتنوع ممقوتة ومحاربة من قبل الواحديين، لأنها ـ أي المفاهيم ـ ترسي مؤالفة بين عناصر متنوعة، تتقاسم في نهاية المطاف السلطة والثروة.

مشكلة الواحدية في ديارنا ليست مقتصرة على بعد دون آخر، بل يمكن أن نعممها على كل المكوّنات الضالعة في تشكيل بنية السلطة الكلية للدولة. بمعنى آخر، أن الواحدية نشأت قبل ولادة الدولة واستمرت معها، ولذلك حين تطالب القوى الوطنية بالاصلاح تستشعر أطراف عدة بالخطر، لأنها تدرك بأن الاصلاح يضغط على مفاصل عدة سياسية ودينية واجتماعية ولا يمس جداراً دون آخر، فهو يمثل عملية هدم وبناء، هدم لكيان بّني على مواصفات رسمتها وفرضتها الواحدية ويراد له أن يبنى على مواصفات كفيلة بتحقيق مبدأ التنوع والشراكة.

حين يستنفر الامير نايف أجهزته الأمنية لملاحقة واعتقال الرموز الاصلاحية يدرك بأن الاصلاح يهدف الى كسر احتكارية السلطة من قبل عنصر قبلي واحد، وحين يستنفر رجل الدين في المعرض الدولي للكتاب في الرياض يدرك بأن الاصلاح يهدف الى كسر الواحدية الثقافية التي هيمنت على مصادر توجيه المجتمع لعقود طويلة. الواحدية هنا ضمانة مؤكدة لاستمرار الهيمنة واحتكار السلطة، وأن النزعة مهما اكتست عناوين ملطّفة لا تغير من حقيقة هدفها الاساسي. فلنكف عن تضليل أنفسنا إذا أردنا أن نزيل البقع العمياء في تشخيص أزمة الدولة، إننا، بكلمات أخرى، نواجه أنواع الفساد والتحجر والهذيان والهيمنة منبثقة من ممارسة الواحدية التي تمنع من صناعة وطن للجميع يستشعر أفراده بأنهم أكفياء فيه في الحقوق والواجبات.

لقد أصبح خطاب الواحدية، لا شعورياً، هو خطاب الدولة الرسمي، الذي يستعلن نفسه في التفكير والسلوك من قبل صائغيه والمستفيدين منه. قد يكون مستغرباً أن يكرر ملوك وأمراء كبار في العائلة المالكة عبارة أن هذه الدولة لنا ـ لآل سعود، ومن أراد الرحيل فليرحل، أو أن يصادر أمير كبير عقاراً أو بستاناً من الرعية ثم يرغم صاحبه على الاذعان لمنطق واحدي يقول بأن كل ما تملك هو لنا، وما نهبه لك إحسان منا. هذه الواحدية على درجة يكفي معها أن تنفّذ الاوامر وأن تطاع الانظمة والقوانين التي تضمحل سيادتها عند إرادة الأمير.

بنفس المنطق، تبدو واحدية رجل الدين السلفي الذي يرى بأن لا خيارات أمام غيره الا: الاذعان بالانضواء تحت عقيدته، أو الصمت، أو الرحيل. إن الواحدية في بعدها الديني هي المحرّض الفاعل وراء دعوات من قبيل (أخرجوا.. من جزيرة العرب) والفراغ هنا يعني أن قائمة المخرجين مفتوحة وقابلة للتمدد فقد تكون شخصاً أو فئة إجتماعية أو قبيلة أو طائفة أو جماعة سياسية.

وما يجب فهمه هو واقع هذه الواحدية، هذه القوة التدميرية لكل ما يؤسس لشراكة حقيقية ووحدة وطنية قائمة على الإقرار بمبدأ التنوع في الافكار والتوجهات السياسية والانتماءات المذهبية. واقع الواحدية يكمن في تعطيل مشروع بناء الوطن، وتعزيز النزوعات العصبوية في تمظهراتها السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية، التي تغطي كل الفئات وكل الطبقات دون أن يكون هناك نسمة هواء جديدة تخترق حجاب الواحدية المسدل على كل أوجه الحياة.

ولا يمكن للواحدية أن تزول ما لم يتخلَّ رجل الحكم عن دعوى الحق التاريخي في سلطته السياسية، ويتخلى رجل الدين عن دعوى امتلاك الحقيقة المطلقة في سلطته الدينية. ولأن الواحدية شكل من أشكال الوصاية، فلا يمكن للسلطة أن تتحصَّن ذرائعياً الا من خلال إستدانة معانٍ من خارجها، من السماء أو التاريخ أو تمثيل إرادة الامة أو المصلحة الوطنية، ولكن تبقى في جوهرها سلطة واحدية تسلطية تتمدد على رقعة الدولة.

الصفحة السابقة