قبل هدم ذاكرتنا الدينية والتاريخية

نحو حملة دولية لحماية الآثار الإسلامية في الحجاز

ما سرّ هذه الحملة المستطيرة التي تصاعدت خلال العامين الماضين من قبل المتشددين لمحو ما تبقى من آثار الاسلام والمعالم التاريخية في المدينتين المقدّستين؟ بالرغم من مزاعم هيئة السياحة الوطنية بحفاظها على الاثار وصونها!

محراب مصلى الرسول صلى الله عليه وسلم

وما سرّ هذا الاغفال مع سبق الاصرار والترّصد من قبل السلطات السعودية في غض الطرف عن معاول المحو الشامل التي تهوي بلا توقف دون رادع من ضمير ديني ولا وازع أخلاقي يحول دون إستمرار هذا العبث الطائش في أقدس بقاع الأرض، تارة تحت ذريعة محاربة البدع وأخرى تحت ذريعة توسعة الحرمين، فهدمت مساجد وأزالت حجرات الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وزوجاته وبيوت أهل بيته وصحابته، وخرّبت معالم الرسالة وكأن من إنبروا لهذه المهمة يفتّشون عن أتفه سبب لتحقيق مآرب خاصة وإفراغ نزوة منفلتة من عقالها فيعمدوا الى إجتثاث تاريخ الاسلام من فوق أرض المقدّسات.

وعجبنا من صمت رجال السلطة ممن أسبغوا على أنفسهم شرف خدمة الحرمين الشريفين، وهم يسمعون صرخات الاستنكار تنطلق من أرجاء العالم على ما يقوم به الأوصياء الجدد على الدين، ليهدموا معالمه بحجج جوفاء لم تقرّ الا في أذهانهم. وعجباً من ذلك العناد الذي لا يكترث لصرخات الاحتجاج التي عبّرت عنها أقلام كثيرين في الداخل، وكأن هناك في داخل الحكومة من يوفّر لهذه الطغمة المتعنجهة غطاءً قانونياً ويمنحها الاطمئنان لمواصلة منهجها التقويضي لكل أثر ديني ومعلم تاريخي عزيز على المسلمين.

لقد هانت على أهل الحكم عمليات الهدم المتواصلة لآثار المدينتين المقدّستين، فيما أفرطوا حد الاسفاف في رصد وصيانة كل أثر تركه آباؤهم وأجدادهم، حتى صارت زيارة قصر الملك عبد العزيز جزءا من بروتوكول الزائرين من رؤوساء الدول الى هذه البلاد، حيث تخبر مقتنيات القصر عن أن القائمين على تراث الآباء والأجداد قد أجهدوا أنفسهم في جمع وعرض ما صغر وما كبر من مختّصات الملك عبد العزيز بما في ذلك فنجان القهوة ودلالها وحتى السفرة والتنور والفرش والوسادة والخاتم والسيف والدرع، بل لا يكاد المرء يصدِّق كيف أتقن القائمون على هذا القصر مهمة جمع أدق التفاصيل المادية وأصغرها شأناً وكأن الزائر للمكان يشعر بأن عبد العزيز مازال حياً بفعل سطوة الحضور الرمزي لتلك الآثار.

يغمر المرء الحزن وهو يعقد مقارنة بين الاهتمام المفرط بآثار عبد العزيز، مصدر فخر العائلة المالكة واعتزازها بمجدها الخاص، والتفريط العابث بآثار المصطفى صلى الله عليه وسلم وآثار الاسلام الخالدة، مصدر فخر الامة الاسلامية قاطبة. فبينما يبالغ آل سعود في تكريم آبائهم وأجدادهم ببناء المتاحف وترميم القصور القديمة وبناء القرى التراثية لتخليد ماضيهم، نجد تساهلاً يبلغ حد السفه في التعامل مع المعالم التاريخية والآثار الاسلامية والنبوية في مكة والمدينة، الى حد بات المتشددون يعلنونها صراحة وتعنّتاً بأنهم عازمون على هدم ما بقي من الآثار بما في ذلك غار حراء وقبور الصحابة وآخرها إصدار قرار بإزالة قبر رافع بن رفاعة الزرقي وهو من الانصار البدريين واستشهد في أحد كما سيزال مسجد الكاتبية الأثري بحجة تحسين المنطقة الأثرية بعد أن أزالوا كثيراً من الآثار عن الجدران الداخلية للكعبة المشرّفة وتمتد تلك الآثار والنقوشات الى ما قبل تاريخ الاسلام. وقد ذكرت مصادر مطّلعة بأن تلك الآثار المزالة وبعضها نقوشات مكتوبة بلغات قديمة تعود الى أيام نبي الله ابراهيم حملت على متن قارب في جدة ورميت في أعماق البحر بحضور أحد المشايخ السلفيين المتشددين.

دارة الملك عبد العزيز حظيت بإهتمام إستثنائي وكادت ـ إن لم يكن بالفعل ـ أن تصبح معلماً مضاهياً لمعلم ديني وتاريخي في المدينتين المقدّستين، وكنا نطمع لو أن أفق الاهتمام شمل المحافظة وصون الاثار الدينية والتاريخية في المدينة ومكة بنفس القدر من الاهتمام الفارط لدى من قام بجمع تراث عبد العزيز!

إن إيغال قوى التشدد المدعومة من قبل الجهات الرسمية في مواصلة هدم وإزالة الآثار الاسلامية والتاريخية يقدّم أكثر من سبب لاطلاق حملة دولية لحماية ما بقي من تلك الآثار، ووضع حد لسفه تلك القوى في إستمرار تصرفاتها المشينة، التي هي موضع إستنكار المسلمين في أرجاء العالم، كما هي موضع دهشة المجتمع الانساني بأسره.

لقد عبّرت أقلام صادقة في الداخل والخارج عن خطورة ذلك المخطط التدميري المتواصل من قبل قوى سلفية متشددة تمنح نفسها سلطة على الدين والتراث وتطلق العنان لنوازع الشر بداخلها تحت مسمى محاربة البدع لتزاول عملية دفن معالم الاسلام التي تربطنا بالماضي المجيد لهذا الدين ومشيديه، وتبقي على الرابطة الروحية حاضرة ونشطة بين أبناء الامة، الذين هم بحاجة الى ما يشد وثاقهم بدينهم وتاريخهم في زمن إجتياح منتجات العولمة والثقافات الحديثة.

إن صمت حكومات عربية وإسلامية إزاء ما يجري من تدمير وهدم للآثار الاسلامية والتاريخية في المدينتين المقدّستين يعدّ قبولاً ضمنياً، أو في أقل تقدير إغفالاً عن موضوع شديد الخطورة كالذي يجري في المدينة ومكة.. فلو كانت تلك الآثار تخصُّ ديانات أخرى لوجدت ذلك الاستنفار العالمي الذي يبتر كل الايدي الممتدة الى أقرب قطعة من تراثها. إن الحكومات والمؤسسات الاسلامية وعلماء الدين في أرجاء العالم مدعوون للتعبير عن إحتجاجهم بكافة أشكال الاحتجاج السلمي للوقف الفوري لعمليات الهدم والازالة للآثار الاسلامية والتاريخية في مكة المكرمة والمدينة المنورة دفاعاً عن دينهم ونبيهم واهل بيته وزوجاته وصحابته الكرام ومن سار على دربهم من اللاحقين، بنفس الحماسة والزخم الاحتجاجي الذي ظهر بعد الاساءة الى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل رسام الكاريكاتور الدنماركي. بل إن إساءة إزالة آثار النبي وأهل بيته وزوجاته وصحابته رضوان الله عليهم أجمعين أبلغ بأضعاف من الاساءة بكاريكاتور.


(1)

رصد لبقايا عبق تراثنا قبل الزوال

كنوز الكبعة وأسرارها

تختزن الكعبة في داخلها وحولها أسرار لا يوجد مثلها في الأرض. لا يزيد حجمها عن حجرة مكعبة، ما أن تبلغها حتى يخر القلب خاشعا متضرعا، يلفه السكون، فتكاد لا تسمع خفقاته. تتحول العين إلى نبع للدموع فأنت حينئذ في أحب مكان إلى الله ينزل إليه سبعون ألفا من الملائكة يطوفون حولها كل يوم وليلة.

كبير سدنة بيت الله الحرام الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الشيبي هو الذي يوجد لديه مفتاح الكعبة، يقول ابنه نزار الشيبي: يقال عنا أيضا (الحجبي) أي الذي يحجب البيت، فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون للكعبة المشرفة سدنة، أي من هم مسؤولون عنها، وأن يكون لها مفتاح وقد تسلمناه نحن آل الشيبي، وتأتي السدانة بعدة معان في معجم اللغة العربية مثل الأمين والخادم والحاجب.. الخ.

وسدانة الكعبة ترجع الى تاريخ بنائها وتعني القيام بجميع أمورها من فتحها وأغلاقها وتنظيفها وغسلها وكسوتها واصلاح هذه الكسوة اذا تمزقت واستقبال زوارها وكل ما يتعلق بذلك، فقد كان يقوم بأمر السدانة اسماعيل عليه السلام ثم من بعده ذريته، إلى ان كان عهد قصى بن كلاب فأخذ قصى سدانة الكعبة من خزاعة التي كانت قد استولت على السدانة بالقوة مدة ليست بالطويلة وهي قبيلة هاجرت من اليمن بعد انفجار سد مأرب واتجهت الى مكة واقامت بها.

وقد ولد لقصى عبدالدار وعبد مناف وعبدالعزى وعبد قصى، وبعد وفاة قصى انحصرت السدانة في عبدالدار وابنائه حتى كان منهم عثمان بن طلحة بن ابي طلحة وابن عمه شيبه بن عثمان بن ابي طلحة.

وينتهي نسب سدانة الكعبة المشرفة الحاليين إلى شيبه بن عثمان بن ابي طلحة وقد اسلم عام الفتح على أصح الروايات وله صحبة ورواية عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وجميع آل الشيبي الموجودون في هذا العصر هم من ابناء الشيخ محمد بن زين العابدين رحمه الله تعالى، وينقسمون الى أبناء الشيخ عبدالقادر بن على وهم عائلة عبدالله، وحسن آل الشيبي، وأبناء عبدالرحمن بن عبدالله الشيبي، وهم محل احترام واكرام كما دلت على ذلك الاخبار الواردة في حقهم، ولا يزالون في موضع الاكرام والرعايه عند عموم حكام المسلمين وبالاخص عند كل من تولى خدمة الحرمين الشريفين، ولايزال وجودهم من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم التى اخبر امته بها بقوله صلى الله عليه وسلم :(خذوها يابني طلحة خالدة تالدة لا ينزعها منكم الا ظالم ).

قصة انتقال مفتاح الكعبة

نزار الشيبي وهو من سدنة بيت الله الحرام يقول: آلت الينا السدانة منذ أيام جدنا (قصي) وانتقلت بين أبناء إبنه عبدالدار الذي كان له خمسة أولاد، وكان لا يخرج في رحلة الشتاء والصيف فيعايره إخوانه بسبب ذلك، فسمعهم أبوه قصي فقال: والله لأشرفنك عليهم، فأعطاه سقاية الكعبة والسدانة والرئاسة والندوة والرفادة ولواء الحرب، وعندما جاء اخوانه، قالوا له انك أخذت كل الشرف، وما تركت لنا شيئا، فقال: خذوها كلها إلا السدانة والرئاسة حيث كان هو رئيس قريش.

ويقول إن الكعبة المشرفة تفتح مرتين في السنة لغسلها، ويسمح بدخولها حينئذ لبعض كبار ضيوف الدولة وبعض العلماء والمشايخ، وأيضا القائمون بغسلها.

ويضيف: تعلق في داخل الكعبة الهدايا التي قدمت لها، وبعض الموجودات بداخلها ربما تعود إلى ما بعد أن ضربها الحجاج بن يوسف الثقفي بالمنجنيق، يعني تقريبا تعود إلى 1200 سنة، لكن هناك بلا شك أشياء تعود إلى عصور لاحقة، وأشياء أخرى حديثة.

ثلاثة أسرار حول الكعبة

من أسرار الكعبة – كما يقول الكاتب الصحفي السعودي عمر المضواحي المهتم بالكتابة عن تاريخ الأماكن المقدسة – أنها صرة الأرض وموصولة بالبيت المعمور في السماء السابعة، وأول بيت وضع للناس بناه ابراهيم وابنه اسماعيل عليهما السلام، وليس هناك في الكون بقعة أكثر مهابة وقدسية من هذه الحجرة المكعبة.

لم تعبد في تاريخها من دون الله قط، فقد كان العرب يعبدون الأصنام والأوثان حولها ولم يخصوها أبدا بالعبادة، حج إليها كل الأنبياء، ومجرد النظر إليها عبادة تعادل أجر عابد في غير مكة.

يضيف المضواحي متحدثا عن ما سجله قلمه عن هذه البقعة التي توصف بأنها قدس الأقداس الاسلامية: حول الكعبة ثلاثة أسرار لا يوجد مثيل لها في الأرض، الحجر الأسود, ومقام إبراهيم, وهما ياقوتاتان من يواقيت الجنة, وبئر زمزم وهو نهر من أنهار الجنة ينبع عينه المتدفق من تحت أعتاب الحجر الأسود.

على يسار باب الكعبة المهيب وبين الملتزم والحجر الأسود الى الداخل منها يقع مكان (حطيم السيئات) حيث يتم فيه التضرع بالدعوات، والى اليمين من باب الكعبة على بعد أقل من مترين يرتفع صندوق من الرخام النادر تحفظ فيه أدوات خدمة البيت وحوائج غسيل الكعبة من دهون الطيب كالعود والورد والعنبر ولفائف من قماش قطني معد للغسيل.

في منتصف الكعبة ترتفع ثلاثة أعمدة محاطة بأفخر أنواع الخشب المزخرف, وهي المعروفة بأعمدة الصحابي عبدالله إبن الزبير حين رأى في زمن حكمه مكة أن يسند سقف الكعبة بها خشية انهياره عندما قام بترميم بناء الكعبة.

في الجهة الشمالية من الكعبة، على يمين الداخل باب صغير يعرف بباب ''التوبة'' وهو آية في الصنعة والإتقان، يمتاز بمقاساته العادية وهو بنسبة قياس واحد الى ثمانية مقارنة بباب الكعبة الخارجي الوافر البهاء والضخامة، ويؤدي باب التوبة المصنوع من أندر قطع الأخشاب المكسوة بصفائح الذهب والفضة المشغولة، الى درج حلزوني من الزجاج السميك يصل الى سطح الكعبة.

وفي الجدار الغربي المواجه لباب الكعبة علقت تسعة ألواح أثرية من الرخام منقوش عليها أسماء الولاة والخلفاء تؤرخ لأعمال تجديد وترميم الكعبة, وكلها مكتوبة بعد القرن السادس للهجرة.

وكان آخر ترميم شامل للكعبة في زمن السلطان مراد الرابع من سلاطين آل عثمان سنة 1040 من الهجرة النبوية.

جوانب الكعبة الأربعة محاطة بالرخام الأبيض، بارتفاع نحو مترين وبرخام ملون ومزركش بنقوش هندسية إسلامية. وما يعلوها مغطى بستارة خاصة من الحرير الأحمر الوردي مشغولة بالنسيج الأبيض على هيئة الشهادتين وبعض أسماء الله الحسنى على شكل رقمي ثمانية و سبعة متكررة بخط الثلث العربي البديع.

أباريق وشمعدانات وأوان ذهب وفضة

الوهابية: عداء وتدمير للآثار الاسلامية

وبين الأعمدة الثلاثة يمتد عمود معدني يكتسي بالفضة الخالصة له خطافات صغيرة معلق فيها هدايا الكعبة من أباريق وشمعدانات وأوان أثرية من الذهب والفضة تعود بتاريخها الى ماضٍ بعيد أهداها ملوك وخلفاء وسلاطين.

ويسن قبل التشرف بدخول الكعبة الطواف سبعا حولها, واستلام الحجر الأسود ''يمين الله في الأرض'', والركن اليماني إقتداء بالسنة النبوية. كما يسن أيضا الصلاة فوق لوح من الرخام المنقوش بعلامة ظاهرة إشارة الى المكان الذي ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيه، وهو باتجاه الحائط الجنوبي بالقرب من الركن اليماني الى الداخل من جدار الكعبة.

والصلاة في الكعبة ثمان ركعات وهي من سنن الدخول الى الكعبة، ركعتان في اتجاه كل حائط من جدرانها الأربعة حيث لا قبلة في جوف القبلة.

كسوة الكعبة

وتعود كسوة الكعبة الى زمن بعيد، وقد كانت أيدي السلاطين والأمراء والملوك لا تقف في أي زمن من الازمان عن تقديم الكسوة والهدايا النفيسة الى بيت الله الحرام.

وقد أُختلف في أول من كسى الكعبة، فقيل إبراهيم، وقيل إسماعيل، وقيل تُبّع، وقيل أبو كرب أسعد ملك حمير، وقيل عدنان.

وقد روى الحافظ ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري) عن ابن جريج قال: بلغنا أن تُبّعاً أول من كسى الكعبة (الوصائل) فسترت بها، وذلك حين مرّ عليها راجعاً من غزوته ليثرب سنة 220 قبل الهجرة: كساها بالبرود المقصّبة، وعمل لها بابا ومفتاحاً، وفي ذلك يقول مفتخراً:

ورد الملك تبّع وبنوه

ورَّثوهم جدودهم والجدودا

الى أن قال:

فكسونا البيت الذي حرّم الله

ملاءً مقصباً وبرودا

وأقمنا من الشهر عشراً

وجعلنا لنا به اقليدا

ثم طفنا بالبيت سبعاً وسبعاً

وسجدنا عند المقام سجودا

وتبعه خلفاؤه فكانوا يكسونها بالجد والقباطي (قماش مصري) زمناً طويلاً. ثم أخذ الناس يقدمون إليها هدايا من الكساوي المختلفة فيلبسونها على بعضها، وكان إن بليَ منها ثوب وضع عليه ثوب آخر الى زمن قصى، فوضع على القبائل رفادة لكسوتها سنوياً، واستمر ذلك في بنيه. وكان أبو ربيعة بن المغيرة قبل الاسلام يكسوها سنة وقبائل قريش تكسوها أخرى فسمي بذلك العدل لعدله بين قبائل قريش في كسوة الكعبة. وقد كساها النبي صلى الله عليه وسلم بالثياب اليمانية.

ثم كساها عمر وعثمان وابن الزبير وعبد الملك بن مروان، ولما حج المهدي العباسي سنة 160، كان على الكعبة جملة كساوي فشكا إليه سدنتها من كثرتها فأمر بها فأنزلت تخفيفاً عن سقفها، وأمر بأن لا تعلق عليها الا كسوة واحدة فكان ذلك الى الآن.

أما أول عربية كست الكعبة قبل الاسلام فهي نبيلة بنت حباب ام العباس بن عبد المطلب، كستها الحرير والديباج، وسبب ذلك أن ولدها العباس ضلَّ صغيراً فنذرت إن وجدته لتكسونَّ الكعبة فوجدته ففعلت.

وكان علي بن ابي طالب كرم الله وجهه يبعث أيام خلافته بكسوة البيت كل سنة من العراق، وقد بالغ العباسيون في العناية بكسوة الكعبة، وكانت من الحرير الاسود (وهو شعارهم) وكانت تصنع في مصر.

ولما ضعف أمرهم صارت ترسل تارة من ملوك اليمن، وأخرى من ملوك مصر، وكان كلما تجدد ملك أو سلطان أرسل الى الكعبة بكسوة داخلية من الحرير الاحمر، وبأخرى خضراء للحجرة النبوية الشريفة.

ويتبع هذه الكسوة الشريفة ستارة باب الكعبة من خارجها ويسمونها بالبرقع، وستارة باب التوبة من داخلها، وكيس مفتاح بيت الله الحرام، وكسوة مقام الخليل إبراهيم عليه السلام، وستارة باب منبر الحرم الشريف، وهي من الاطلس المصنوع بالمخيشن الذهبي والفضي.

ولما استولت الدولة العثمانية على مصر والحجاز اختصَّت بكسوة البيت الداخلية وكسوة الحجرة النبوية، علاوة على الشمع الكبار والصغار التي تسرج داخل الكعبة وخارجها، وفي مقامات المسجد الحرام والمآثر الشريفة، وكذا طيب الكعبة وبخورها، كعطر الورد وماء الورد والعنبر والند، وكذلك الحبال التي تلزم لرباط ستار الكعبة، فكانت كل هذه الاشياء ترسل سنوياً مع المحمل الشامي.

فاختصت اسطانبول من ذلك الوقت بحياكة الكسوة الداخلية، واستمر سلاطين آل عثمان في إرسالها على النحو المذكور الى عهد السلطان عبد العزيز ابن السلطان محمود الثاني حيث انقطعت الدولة العثمانية عن إرسال الكسوة الداخلية وبقيت الكسوة التي كان قد ارسلها السلطان عبد العزيز عام 1277 في الكعبة الى يومنا هذا. وكانت الدولة العثمانية قد أرسلت عام 1334 كسوة خارجية للكعبة، وفي سنة 1346 أُسست دارة خاصة للكسوة في محلة أجياد بمكة المكرمة.

تغيير كسوة الكعبة

وأثناء فريضة الحج وبعد أن يتوجه الحجاج الى صعيد عرفة، يتوافد أهل مكة إلى المسجد الحرام للطواف والصلاة ومتابعة تولي سدنة البيت الحرام تغيير كسوة الكعبة المشرفة القديمة واستبدالها بالثوب الجديد استعدادا لاستقبال الحجاج في صباح اليوم التالي الذي يوافق عيد الأضحى.

وقبل هذا الوقت وفي منتصف شهر ذي القعدة تقريبا يتسلم كبير السدنة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله الشيبي في حفل سنوي الثوب الجديد من الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي بقاعة المناسبات الرئيسية في مصنع كسوة الكعبة المشرفة بضاحية أم الجود بمكة.

وبعد إحضار الثوب الجديد تبدأ عقب صلاة العصر مراسم تغيير الكسوة حيث يقوم المشاركون في عملية استبدال الكسوة عبر سلم كهربائي بتثبيت قطع الثوب الجديد على واجهات الكعبة الأربعة على التوالي فوق الثوب القديم.

وتثبت القطع في عرى معدنية خاصة (47 عروة) مثبتة في سطح الكعبة، ليتم فك حبال الثوب القديم ليقع تحت الثوب الجديد نظرا لكراهية ترك واجهات الكعبة مكشوفة بلا ساتر.

ويتولى الفنيون في مصنع الكسوة عملية تشبيك قطع الثوب جانبا مع الآخر, إضافة الى تثبيت قطع الحزام فوق الكسوة (16 قطعة جميع أطوالها نحو 27 مترا) و 6 قطع تحت الحزام , وقطعة مكتوب عليها عبارات تؤرخ إهداء خادم الحرمين الشريفين لثوب الكعبة وسنة الصنع، ومن ثم تثبت 4 قطع صمدية (قل هو الله أحد الله الصمد) توضع على الأركان, و11 قطعة على شكل قناديل مكتوب عليها آيات قرآنية توضع بين أضلاع الكعبة الأربعة.

ستارة الكعبة أصعب مراحل تغيير الكسوة

وآخر قطعة يتم تركيبها هي ستارة باب الكعبة المشرفة وهي أصعب مراحل عملية تغير الكسوة، وبعد الانتهاء منها تتم عملية رفع ثوب الكعبة المبطن بقطع متينة من القماش الأبيض، وبارتفاع نحو مترين من شاذروان (القاعدة الرخامية للكعبة) والمعروفة بعملية (إحرام الكعبة).

ويرفع ثوب الكعبة لكي لا يقوم بعض الحجاج والمعتمرين بقطع الثوب بالأمواس والمقصات الحادة للحصول على قطع صغيرة طلبا للبركة والذكرى.

وقد أورد المؤرخ السعودي حسين سلامة في كتابه (تاريخ الكعبة المعظمة) أنه جاء في كتاب الرحلة الحجازية للبتنوني نقلا عن كتاب الخطط للمقريزي، أن العباسيين كانوا يعملون كسوة الكعبة المشرفة بمدينة (تنيس) المصرية، وكانت لها شهرة عظيمة في المنسوجات الثمينة.

ويذكر البتنوني أنه لما استولت الدولة العلية على مصر اختصت بكسوة الحجرة الشريفة، وكسوة البيت الداخلية، وأختصت مصر بكسوة الكعبة الخارجية.

واستمرت الكسوة تصنع في عدد من الدول الإسلامية كمصر وتركيا والهند حتي صدر أمر الملك عبدالعزيز في سياق سياسة إحتكار شؤون الحرمين الشريفين بإنشاء مصنع كسوة الكعبة بمكة المكرمة، وبات المصنع يقوم بعمل الكسوتين لأول مرة في التاريخ في أرض الحرمين الشريفين.

ويتم تسليم الثوب القديم بجميع متعلقاته للحكومة السعودية التي تتولى عملية تقسيمه كقطع صغيرة وفق اعتبارات معينة لتقديمه كإهداء لكبار الضيوف والمسؤولين وعدد من المؤسسات الدينية والهيئات العالمية والسفارات السعودية في الخارج.

ويستهلك الثوب الواحد للكعبة نحو 670 كيلو جراما من الحرير الطبيعي و150 كيلو جراما من سلك الذهب والفضة، ويبلغ مسطحه الإجمالي 658 مترا مربعا ويتكون من 47 لفة، طول الواحدة 14 مترا وبعرض 95 سنتيمترا. ويكلف الثوب الواحد نحو 17 مليون ريال سعودي.

(2)

كنوز الحجرة النبوية الشريفة

الحجرة النبوية الشريفة

رغم الكثير من الوصف الذي ورد عنها في كتب المؤرخين القدماء فقد ظلت في نظر الكثير من الناس سراً من الأسرارالتي يستحيل معرفتها، ما ان تسمع رواية او وصفا حتى تكتشف أن هناك المزيد والمزيد وأنك مهما حاولت واجتهدت فلن تنال من المعرفة عنها سوى أقل القليل.

تفيض مشاعر أناس سمح لهم بدخول الحجرة النبوية.. المكان الذي عاش فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحجرة السيدة عائشة التي أسلم فيها الروح.

يقول الكاتب الصحفي عمر المضواحي المهتم بالكتابة عن الحرمين الشريفين والأماكن المغروسة في وجدان المسلمين: غمست وجهي محدقا من بين فتحات الحجرة.. كنت خائفاً حتى الموت، لكن شيئا ما دفعني للنظر، علنى أرى ما نبأني عنه شيوخ التقيت بهم في مكة المكرمة.

شاهدت قناديل معلقة بسقف الحجرة النبوية، رأيت مثلها في جوف الكعبة المشرفة، هدايا قديمة مصاغة من الذهب والفضة، تعكس مراحل ضاربة في عمق التاريخ الإسلامي، واختلست نظرات لحجرة السيدة فاطمة الزهراء، ومتعت عيني في بقعة ضمت الشطر الأكبر من حياة الرسول الكريم• أنوار تتجلى في ذات المكان، وهديل حمائم جاورت، كما جاورت غار ثور يوم هجرة الرسول وصاحبه أبي بكر الصديق.

صناع كسوة الحجرة النبوية

لماذا بقيت آثار آل سعود وازيلت آثار الرسول؟

يضيف: كنت أقوم بعمل تحقيق صحفي منذ عدة سنوات عن الكسوة الخضراء وهي كسوة الحجرة النبوية، فأتيح لي أن التقي من نالوا شرف المشاركة في نسج هذه الكسوة التي يعود تاريخها إلى قرون مضت.

وتوجد الحجرة النبوية في الجزء الجنوبي الشرقي من مسجد الرسول، وهي محاطة بمقصورة ، عبارة عن حجرة خاصة مفصولة عن الغرف المجاورة فوق الطبقة الأرضية، من النحاس الأصفر، ويبلغ طول المقصورة 16 مترا وعرضها 15 مترا، ويوجد بداخلها بناء ذو خمسة أضلاع يبلغ ارتفاعه نحو 6 أمتار بناه نور الدين زنكي ونزل بأساسه إلى منابع المياه، ثم سكب عليه الرصاص حتى لا يستطيع أحد حفره أو خرقه، وداخل البناء قبر الرسول، وقبرا أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب.

وفي شمال المقصورة النبوية وجدت مقصورة أخرى نحاسية ويصل بين المقصورتين بابان، ويحيط بالحجرة النبوية أربعة أعمدة أقيمت عليها القبة الخضراء التي تميز المسجد، أما الروضة الشريفة فهي بين المنبر وقبر الرسول ويبلغ طولها 22 مترا، وعرضها 15 مترا.

في المسجد النبوي تشتم طيب روائح الصحابة ، تكاد تسمع أحاديثهم ومسامراتهم، ترى حركاتهم وأثر خطواتهم العارية على صفحات هذه الأرض المباركة، لكن ما يحزنك حتى البكاء، أن يترك هذا التراث بدون تدوين وأن تموت أنفس قليلة بقيت تعرف وحدها كل هذه التفاصيل.

أحاديث الدموع والخشوع

ويؤكد أن هذه التفاصيل والأسرار ما هو مدون منها قليل، ومهمل، وضائع في الكتب القديمة ويفتقر الى التوثيق بالصور بجانب المعلومات، ولا أليق ولا أكمل من أن نوثق هذه المواقع ونعرفها، بطريقة أو بأخرى لنحافظ على روح المكان في جسده الجديد العملاق.

لماذا ظل مكتوماً خبر هذه الكسوة قبل الآن، ولماذا نمر عليها لماما في حين، وبتجاهل في أحايين أخرى؟.. يقول المضواحي: لا زلت أذكر حديث الشيخين في مكة، وأنا أرى نسج عملهم. كنت في مكة، فذهبت صوب مصنع كسوة الكعبة، وهناك عرفت أن للمصنع شرفاً آخر، فهو ينتج أيضا كسوة أخرى للحجرة النبوية.

التقيت في ذلك الوقت قبل عدة سنوات برجال شاركوا في الصنع والتركيب، لم أشأ حينها أن أفوِّت الفرصة حيث إن أصغرهم كان في الستينات من عمره، وخفت أن يودعوا الدنيا دون أن أتمكن من توثيق هذا العمل.

سجّلت معهم أحاديث اختلطت بالدموع والخشوع، خانهم التعبير مرات وخنقتهم العبرات في أخرى، وهم يتحدثون عن تجربتهم الفريدة، كانت أطرافهم ترتعش من مجرد الذكرى كأنها حدثت بالأمس، وليس قبل ربع قرن من الزمان.

كان الشيخ محمد على مدني، رئيس قسم النسيج الآلي بالمصنع في ذلك الوقت، كريما معي، وعرفت منه أنه كان أحد الذين شاركوا في نسج كسوة الحجرة النبوية وتركيبها. قلت له حدثني عن كسوة الحجرة النبوية، صفهما لي: جال ببصره بعيداً، كأنه يستحضر تلك الذكريات الغالية، ثم أجابني: شعرت يومها بحالة ذهول كامل تملكتني. إنها بقعة عظيمة، غاية في العظمة، لا أعرف محيطها بالتحديد لكن بدا لي أن محيط الحجرة النبوية 48 مترا.

هيبة المكان غلبت على أن ألحظ فيها شيئا ملفتاً للنظر أو للانتباه، كنت مبهوراً ولم أر سوى قناديل معلَّقة بسقف الحجرة، وهي هدايا قديمة كانت تهدى للمسجد النبوي من قديم الزمان، وقيل لي إنه كانت هناك آثار نبوية وضعت في مكان آخر لا أعرف أين، وما أعرفه أن هناك بعض الأشياء التاريخية محفوظة في حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو ذات المكان الذي كانت تسكن فيه.

أضاف: كسوة الحجرة نسيج من حرير خالص، أخضر اللون، مبطن بقماش قطني متين، ومتوجة بحزام مشابه لحزام كسوة الكعبة المشرفة، غير أن لونه أحمر قان، خط عليه بتطريز ظاهر آيات قرآنية كريمة من سورة الفتح تشغل ربع مساحته، بخيوط من القطن وأسلاك من الذهب والفضة وهو بارتفاع 95سم2.

وهناك قطع أخرى من ذات اللون الأحمر وبنفس النسج لكنها أصغر قليلا مكتوب عليها إشارات تدل على مواقع القبور الثلاثة، وهي من ذات العينة والطراز للكسوة الداخلية لجوف الكعبة، وباختلاف بسيط يتمثل في اختلاف الآيات القرآنية المنسوجة يدويا بطريقة ''الجاكار'' المعمول مثلها آلياعلى ظاهر كسوة الكعبة .

كسوة الحجرة النبوية لا تتبدل كل عام مثل كسوة الكعبة المشرفة، فهي محفوظة في بناء الحجرة وبعيدة عن الأيادي وعوامل المناخ ويتم تغييرها كلما دعت الحاجة الى ذلك.

مفاتيح الحجرة عند كبير الأغوات

ترتفع السترة بمقدار ستة أمتار، ويتم تركيبها عادة في السادس من شهر ذي الحجة، كلما صدر الأمر الملكي بذلك، وعند كبير الأغوات مفاتيح الحجرة، وهم من يقوم بخدمتها وتنظيفها والعناية بها كل ليلة اثنين وجمعة حتى الآن.

ويضيف عمر المضواحي: كنت أرغب في المزيد، ووجدته عند الشيخ محمد جميل خياط مدير الإنتاج بالمصنع، وهو رجل بدا لي حينها في الستينات من عمره. قال له الشيخ جميل: تم الإبقاء على الصنع اليدوي في المصنع لعمل الكسوتين، الداخلية لجوف الكعبة المشرفة، والأخرى للحجرة النبوية، للحفاظ على هذا التراث الفني الراقي.

يستطرد المضواحي: ثم التقيت بالشيخ أحمد ساحرتي رئيس قسم التطريز بالمصنع، بدا لي في ذلك الوقت البعيد أيضا كبر سنه، وضعف نظره، بادرني: كيف أستطيع أن أحدثك عن مشاعري لحظة دخولي الى الحجرة النبوية.. لايمكنني ذلك، اعذرني.. هذا حديث فوق قدرتي على الكلام، ولم أظن في يوم من الأيام أن أسئل عن هذه التجربة.. وأؤكد لك أنني لن أستطيع خوضها ثانية.

اقترب مني أكثر وأضاف: أنظر الى عدسات نظارتي ــ وأشار الى غلظتها ــ ودقق النظر في شيبتي وثقل السنين التي أحملها، عمري لا أحصيه، لكنني سمعتهم يقولون إنني من مواليد 1333هـ، ومع كل هذه السنين لم أعرف لي هواية غير حب العطور والروائح الجميلة، وصرفت ردحا من أيامي التي عشتها طولا وعرضا لأشبع هذا النهم الذي لايزال يرافقني للآن، سافرت كثيرا وتعرفت على الكثير لكنني أستطيع أن أقول بثقة أن لي تركيبات عطرية خاصة، لا تكون عند غيري ولا يقدر عليها أحد سواي.

عندما فتحت الأبواب ودخلوا الحجرة

يواصل الساحرتي متحدثا للمضواحي: أقول ذلك لأنني عرفت عجزي وقلة معرفتي في تلك الليلة المباركة، عندما فتحت لنا الأبواب، ودخلنا الحجرة النبوية، لقد أستنشقت عطرا وروائح ما عرفتها من قبل، ولم أعرفها من بعد. لم أعرف سر تركيبتها أبدا، كان عطرا فوق العطر، وشذا فوق الشذا، وشيئا آخر لاقبل لنا به نحن أهل الصنعة والمعرفة.

يحكي عمر المضواحي قائلاً: عندما سألته أن يصف لي الحجرة النبوية، سرت في جسده رعدة خفيفة أصابته، وقال بصوت خافت: أعتقد أن ارتفاع الحجرة أحد عشر مترا، وأسفل القبة الخضراء، قبة أخرى مكتوب عليها: قبر النبي وقبر أبوبكر الصديق وقبر عمر بن الخطاب، ورأيت أيضا أن هناك قبرا آخر لكنه خاو، وبجانب القبور الأربعة، حجرة السيدة فاطمة الزهراء، وهو البيت الذي كانت تسكنه.

من رهبتنا لم نكن نعرف كيف نرفع المقاسات الخاصة بالقبة، كانت أصابعنا ترتجف، وأنفاسنا تتسارع. وبقينا 14 ليلة كاملة نعمل فيها من بعد صلاة العشاء الى وقت أذان الفجر الأول، لننجز مهمتنا.

ظللنا نرفع المقاسات، ونحل أربطة السترة القديمة، نكنس وننظف ما علق بالمكان الطاهر من غبار وريش حمام، هذا الموقف يعود إلى عام 1971 ميلادية، وكانت الكسوة التي قمنا بتغييرها قديمة، كان عمرها 75عاما حسب التاريخ المنسوج عليها، ولم تستبدل طوال هذا الوقت.

ويمضي الشيخ الساحرتي في تفاصيل تلك الزيارة: كنت أول من دخل مع السيد حبيب من أعيان المدينة المنورة، وأسعد شيرة مدير الأوقاف في المدينة وقتها وحبيب مغربي من إدارة المصنع، وعبدالكريم فلمبان وناصر قاري، وعبدالرحيم بخاري وآخرين، كنا 13رجلا، لا أذكر معظمهم، فقد ذهبوا الى رحمة الله.

كان يرافقنا كبير الأغوات وعدد من خدام الحجرة النبوية.. الهمس حديثنا، هذا إذا لم تكن الإشارة تغني عن الكلام. كنت ومازلت أعاني من ضعف شديد في الإبصار، وهذه النظارة لم تفارق عيني منذ تلك الأيام، لكنني كنت في الحجرة شخصا آخر.. كنت أشعر بذلك، وألمس الفرق.

ويقسم الشيخ الساحرتي قائلا: ''كنت أدخل الخيط في ثقب الإبرة من غير نظارة، رغم الضوء الخافت الذي كنا نعمل فيه. كيف تفسر ذلك، وكيف تفسر أنني لم أشعر بحساسية في صدري كنت أعاني منها ومازلت، فأنا أسعل بشدة مع أدنى غبار، لكنني يومها لم أتأثر بغبار الحجرة، ولا بالأتربة المتطايرة، كأن التراب لم يعد ترابا، وكأن الغبار أصبح دواءً لعلتي، كنت أشعر طوال تلك الليالي أنني شاب، وأن فتوة الصبا قد ردت اليّ.

لقد حدث معي شيء غريب آخر لم أفهم سره حتى اليوم، فبعد تجديد كسوة الحجرة يومها، كان علينا أن نخرج الستارة القديمة، حمل من حمل الستارة، وبقي حزامها المطرز بطول 36مترا، قلت لهم لفوه ثم أتركوه، تقدمت إليه، وحملته على ضعفي فوق كتفي هذا، خرجت به من الحجرة النبوية، لم أشعر بثقله أبداً، لكنهم بعد ذلك جاءوا برجال خمسة ليحملوه فلم يستطيعوا، وانخرط الشيخ في بكاء صامت، وأكمل بتأوه: سأل بعضهم عن الذي حمله وجاء به الى هنا، قلت مجيبا: أنا، لم يصدقوا.. قلت لهم اسألوا عبدالرحيم بخاري خطاط الكسوة الشهير.

أجمل وصف للحجرة النبوية

يقول الناقد والباحث في تاريخ المدينة المنورة محمد الدبيسي: كثير من المؤرخين شغفوا بتاريخ المدينة المنورة والكتابة عنه، لقد أحصيت أكثر من 500 كتاب إضافة إلى الأبحاث العلمية التي نشرت في دوريات، فمثلا أول كتاب عن تاريخ المدينة كان لابن زبالة في القرن الثاني الهجري، بعد ذلك كتب مؤرخون آخرون مثل المراغي والسخاوي والسمهودي، الأخير له كتاب باسم (وفاء الوفاء في اخبار دار المصطفى) في القرن العاشر الهجري ''عام 1325هـ'' والذي يحتوي على مجلدين، ويعتبر مرجعا في هذا الباب، لكن أجمل وصف وقفت عليه بخصوص الحجرة النبوية وجدته في كتاب (مرآة الحرمين) للدكتور ابراهيم رفعت باشا الذي جاء من مصر وزار الحرمين ووصف الحجرة بأورع ما يمكن.

ويقول الدبيسي إن الحجرة تقع شرق المسجد النبوي الشريف، وكان بابها يفتح على الروضة الشريفة التي وصفها الرسول عليه السلام بأنها روضة من رياض الجنة، وهي حجرة السيدة عائشة بنت الصديق التي قبضت فيها روحه فدفن بها، وكان قبره جنوب الحجرة، وكانت عائشة بعد وفاته تقيم في الجزء الشمالي منها، وكما يُذكر تاريخيا بأنه عليه السلام قد دفن ورأسه الشريف إلى الغرب ورجلاه إلى الشرق ووجهه الكريم إلى القبلة.

وعندما توفى الصديق دفن خلف النبي صلى الله عليه وسلم بذراع، ورأسه مقابل كتفيه الشريفين، ولما توفي عمر بن الخطاب أذنت له عائشة بعد أن استأذنها قبل وفاته بأن يدفن إلى جوار صاحبيه داخل هذه الحجرة.

وعن القبر الخالي في الحجرة النبوية يشير محمد الدبيسي إلى إن بعض العلماء يذكرون أن هذا القبر سيدفن فيه النبي عيسى عليه السلام. أما قصة تسمية الكوكب الدري الموجود في الحجر النبوية، فقد كان يوجد في الجدار القبلي من الحجرة تجاه الرأس الشريفة مسمار فضة، ويذكر رفعت ابراهيم باشا أنه ابدل بقطعة من الألماس كانت بحجم بيضة الحمام، وتحته قطعة أخرى أكبر منها، والقطعتان مشدودتان بالذهب والفضة، ومن ثم اطلق عليهما اسم ''الكوكب الدري''.

ويطلق على الحجرة في بعض الكتب – والكلام للدبيسي – المقصورة الشريفة، ولها ستة أبواب، الباب الجنوبي ويسمى باب التوبة، وعليه صفيحة مكتوب عليها تاريخ صنعه 1026 هـ، والباب الشمالي ويسمى باب التهجد، والبال الشرقي ويسمى باب فاطمة، والباب الغربي ويسمى باب النبي وبعض الناس يسمونه باب الوفود، وعلى يمين المثلث داخل المقصورة باب آخر، ثم باب سادس على يسار المثلث في داخل المقصورة أيضا.

ويقول إن عمر بن عبدالعزيز بنى حول الحجرة سور من خمسة أضلاع خوفا من أن تشبه الكعبة فيصلى عليها. ويوضح أن كتاب مرآة الحرمين ذكر أن الخيزران أم هارون الرشيد هي أول من كسا الحجرة الشريفة بالدائر المخمس، ثم كساها ابن أبي الهجاء بالديباج الأبيض والحرير الأحمر وكتب عليه سورة يس، ثم كساها الخليفة الناصر بالديباج الأسود ثم صارت الكسوة ترسل من مصر كل ست سنوات من الديباج الأسود المرقوع بالحرير الأبيض وعليها طراز منسوج بالذهب والفضة.

ويشير إلى أن تكاليف كسوة الحجرة النبوية عندما أصبحت تأتي من مصر، أوقفت على بيت مال المسلمين في مصر في عهد السلطان الصالح اسماعيل الناصر، وكانت تجدد كل خمس سنوات.

ويقول إن كتاب ''مرآة الحرمين'' يؤكد أن الهدايا التي أهديت للمسجد النبوي والحجرة الشريفة في عهده عام 1325هـ تقدر بسبعة ملايين من الجنيهات و620 قنديلا معلقة، ونجف من البلور، وأربع شجرات على أعمدة بلور مفرعات بأغصان مائلة عليها تنانير صافية وضعت بالروضة الشريفة.

وحول الحجرة الشريفة 106 من القناديل كلها بالذهب المرصع بالألماس والياقوت وحول الحجرة كذلك معاليق من الجواهر الثمينة ومن اللؤلؤ الفاخر.

وأهدى السلطان عبد المجيد الحجرة النبوية سنة 1274 هـ شمعدانين مصنوعين من الذهب الخالص المرصع بالألماس الفاخر، وتم وضعهما بمقصورة الحجرة الشريفة أحدهما باتجاه الرأس الشريف والآخر بمحاذاة رجليه الكريمتين، كما جاء في كتاب مرآة الحرمين.

ويؤكد الدبيسي أن الكتب التاريخية تشير إلى تعرض الحجرة النبوية للسلب والنهب عبر العصور المختلفة قبل الدولة السعودية، وأن بعض الأشياء التي تعرض في بعض المتاحف التركية، أخذت في عهد الدولة العثمانية من مقتنيات الحجرة، التي يقال إنها كانت تضم الذهب والفضة.

ويشير إلى أن ابراهيم رفعت باشا ذكر في كتابه أن الملك العادل نور الدين الشهيد أمر عام 557 هـ ببناء خندق صب فيه الرصاص حول الحجرة النبوية، عندما علم أن هناك من يحاول الوصول إلى جسد الرسول.

ويقول إن الحجرة مرت بمراحل في بنائها، فقد كانت إبان العهد الأول مبنية باللبن وجريد النخل على مساحة صغيرة ثم أبدل الجريد بالجدار في عهد عمر بن الخطاب ثم أعاد عمر بن عبد العزيز بناءها بأحجار سوداء.

وتقول الكاتبة حليمة المظفر إن الدكتور عبد الرحمن الأنصاري عالم التاريخ والآثار ذكر لها في ثنايا تقرير لها نشر في صحيفة الشرق الاوسط إنه خلال الفترة التي عاصرها في عهد الدولة السعودية لم يكن مسموحا لأحد بدخول الحجرة النبوية، لكنه عرف عن طريق كبار السن أنه قبل ذلك كان هناك من يدخل الحجرة وان اقتصر ذلك على الأطفال والآغاوات. وتضيف أنها سمعت من الدكتور الأنصاري إنه لم تكن هناك أغطية لقبر الرسول وصحابته خلال العهد السعودي إلا أنه لا يستبعد وجودها قبل هذا العهد لأنه لا يوجد دليل يثبت عدم وجودها خاصة في العهد العثماني.

وأوضح لها أنه حينما كان طفلا في المدينة شاهدوا على جدار الحجرة الخارجية في فترة الخمسينات الهجرية ستائر مهلهلة وقديمة تم استبعادها وهذه الستائر خارج الحجرة أمر لا يستبعد معه وجود أغطية على القبور داخلها، وهناك صورة قديمة جدا تم تداولها مسبقا لقبر الرسول عليه السلام وعليه غطاء.

الحجرة تجدد بناؤها أكثر من مرة

البردة النبوية ملفوفة في (بقشة) من الحرير

وقد ذكر الأديب المصري الراحل محمد حسين هيكل في كتابه ( في منزل الوحي) عام 1947م عن رحلة الحج التي قصد بها الأراضي المقدسة، ان الحجرة النبوية ظلت كما هي حتى زمن بني أمية، حين أمر الوليد بن عبد الملك واليه علي المدينة المنورة عمر بن عبد العزيز أن يضم حجرات أزواج النبي رضي الله عنهن.

وبنى عمر بن عبد العزيز الحجرة سنة ثمان وثمانين وقيل سنة إحدى وتسعين للهجرة، وبالتالي فقد ظلت ثمانية وسبعين أو ثمانين سنة بعد وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم في مثل بساطتها حين وفاته.

ويقول محمد حسين هيكل إن الحجرة قد تجدد بناؤها بعد ذلك اكثر من مرة، فقد شب حريق في القرن السابع الهجري وامتد إلي الحجرة ولكنها لم تحرق، كما امتد إلي المسجد كله، و تعرضت لحريق آخر علي اثر الصاعقة التي نزلت في أواخر القرن التاسع الهجري.

وقد بنيت أول قبة في المسجد النبوي فوق الحجرة النبوية في القرن السابع الهجري، بأمر السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي سنة 678 هـ وهي التي عرفت مؤخراً بالقبة الخضراء، وكانت مربعة من أسفلها مثمنة من أعلاها، مصنوعة من أخشاب أقيمت على رؤوس السواري المحيطة بالحجرة الشريفة، مكسوة بألواح الرصاص، منعاً لتسرب مياه الأمطار.

وفي عام 881 هـ وبعد الانتهاء من بعض الترميمات في المسجد قرر السلطان قايتباي إبدال السقف الخشبي للحجرة بقبة لطيفة، فرفعوا السقف الخشبي، ثم عقدوا قبواً على نحو ثلث الحجرة مما يلي المشرق والأرجل الشريفة، ليتأتى لهم تربيع محل القبة المتخذة على بقية الحجرة من الغرب، ثم عقدوا القبة على جهة الرؤوس الشريفة بأحجار منحوتة من الحجر الأسود والأبيض، ونصبوا بأعلاها هلالاً من نحاس، وبيضوها من الخارج بالجص، فجاءت جميلة بديعة.

وقد سلمت هذه القبة من الحريق الذي شب بالمسجد سنة 886 هـ، بينما احترقت القبة التي فوقها، فأعاد السلطان قايتباي عام 892 هـ بناءها بالآجر، وأسس لها دعائم عظيمة بأرض المسجد، ثم ظهرت بعض الشقوق في أعاليها، فرممت وأصبحت في غاية الإحكام.

ثم عمل قبة على المحراب العثماني، وغطى السقف بين القبة الخضراء والحائط الجنوبي بقبة كبيرة حولها ثلاث قباب، كما أقام قبتين أمام باب السلام من الداخل، وقد كسيت هذه القباب بالرخام الأبيض والأسود، وزخرفت بزخارف بديعة.

وفي سنة 1119 هـ أضاف السلطان محمود الأول رواقاً في جهة القبلة، وسقّف ما يليه بعدد من القباب. وفي عام 1228هـ جدد السلطان محمود الثاني العثماني قبة الحجرة النبوية ، ثم دهنها باللون الأخضر، فاشتهرت بالقبة الخضراء، وكانت قبل ذلك تعرف بالبيضاء والزرقاء، وكان بعضهم يطلق عليها: الفيحاء.

غار حراء وأسرار المكان الذي بدأ منه الإسلام

صعود جبل حراء الذي يسمى حالياً بجبل النور ودخول الغار الذي نزل فيه جبريل عليه السلام بأول الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، تجربة عملية صعبة وقاسية، تستغرق وقتاً طويلاً وجهداً خارقاً حتى تصل إلى القمة ومن ثم تدلف إلى الغار. هناك تكتشف المكان الذي سطرت فيه مقدمة الفصل الأول من تاريخ الإسلام، وكيف أن الحجر كان مادته ومداده.

تتمنى لو أن الجبل ينطق، ولو أن للغار فماً ولساناً، ولو لم يكن قدره هذا الجمود السرمدي، لحظتها كنت ستسمع منه قصة صفحات التكوين والبداية.. بداية ''اقرأ بسم ربك الذي خلق''.

جبل حراء له أسماء عديدة منها جبل القرآن، وجبل الإسلام، ولكنه يعرف حالياً بجبل النور، يصل ارتفاع جبل حراء إلى 642 متراً، ولكنه شاق على من يصعده حيث يصبح انحدار الجبل شديداً من ارتفاع 380 متراً حتى يصل إلى ارتفاع 500 متر، ثم يستمر بانحدار قائم الزاوية تقريباً إلى قمة الجبل في شكل جرف، وتبلغ مساحته 5.25 كم مربع.

يقع جبل النور، في الشمال الشرقي لمكة المكرمة، ويقع في أعلاه غار حراء، محضن أول آية أنزلت في القرآن الكريم، ومقر خلوة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم قبل بعثته. فيه تم أول لقاء مع جبريل عليه السلام حاملا بشرى النبوة لمحمد بن عبد الله تمهيدا لحمل الرسالة إلى الثقلين الإنس والجن.

وأشارت مصادر تاريخية إلى أنه لا يوجد جبل بمكة ولا بالحجاز ولا بالدنيا كلها يشبه جبل حراء، فهو فريد الشكل والصورة، قمته تشبه الطربوش الذي يلبس على الرأس أو كسنام الجمل، أو كالقبة الملساء.

في قلوب المسلمين عاطفة خاصة نحو هذا الجبل وبقية المواقع التاريخية في مكة والمشاعر المقدسة، رغم قلة المعلومات المتوفرة عنها، ويغلب عليهم توارث حبها جيلا بعد جيل، ويتحينون الفرصة لزيارة الأراضي المقدسة حجاجا ومعتمرين لمشاهدة مرابع أسلافهم الأوائل، واستحضار بدايات تاريخهم الديني والروحي.

ما بقي من مواقع، يعد على أصابع اليدين، بسبب التطور والتوسع العمراني، واختلاف النظرة الفقهية إليها وغيرها (ولا نظن غيرها من الاسباب سوى التعصب الاعمى، وإزدواجية المعايير، والنزعة الوصائية على الدين، وتحقيق مآرب خاصة).

صعود جبل النور

يشرف جبل النور على أباطح مكة، ويبعد عن المسجد الحرام نحو عشرة كلم مربعا، وهو متميز بتشكيله الصخري الذي لا تخطئه أعين القاصدين خصوصا المتجهين إلى مدينة الطائف عبر طريق السيل الكبير، وقد وصفه مسلم ابن خالد بأنه ''جبل مبارك قد كان يؤتى''.

وللجبل فضائل أوردتها كتب التاريخ على أنه أحد الجبال الخمسة، التي بنى بها أبو الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام الكعبة المشرفة، فقد أورد أبي الوليد الأزرقي في كتابه (أخبار مكة وما جاء فيها من آثار) عن سعيد عن قتادة في قوله عز وجل: ''وإذ يرفع إبراهيم القواعد'' قال: (ذكر لنا أنه بناه من خمسة جبال: من طور سيناء، وطور زيتا، ولبنان، والجودي، وحراء. وذكر لنا أن قواعده من حراء).

وأورد الأزرقي في كتابه أيضا (عن أنس ابن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما تجلى الله عز وجل للجبل ''طور سيناء'' تشظى فطارت لطلعته ثلاثة أجبل فوقعت بمكة، وثلاث أجبل فوقعت في المدينة، فوقع بمكة حراء وثبير وثور، ووقع بالمدينة أحد، وورقان، ورضوى).

يقول الكاتب الصحفي عمر المضواحي المهتم بتاريخ الأماكن المقدسة: لم أقف على حقيقة سبب تسميته بجبل ''النور''، ويبدو أنها من فعل المتأخرين، كرمز إلى طلوع الشمس المحمدية وبداية نشر نور الإسلام منه فسمي بهذا الاسم.

والناظر إليه يشعر بفيض روحاني يغمره، شديد الوعورة، وليس له غير ممر وحيد لارتقائه من ناحية الجنوب الغربي، وتحوطه بيوت من كل جانب، معظم سكانها من قبيلة ''هذيل'' العربية الأصيلة.

ويمكن تقسيم صعود الجبل إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولي وهي أصعبها وعورة ومشقة، تبدأ من عند لوحة كبيرة وضعتها هيئة ''الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر'' تنهي القادم عن أخذ شيء من تراب الجبل أو زرعه أو حجارته، وتؤكد فيه أنه لم تشرع الزيارة إليه أو الصلاة فيه. وهي مكتوبة بثلاث لغات، العربية والأوردو والإنجليزية، لكن بعض القادمين استغلوا فرصة عدم توفر المرشدين، ولعله بسبب المشقة في صعود الجبل، فلم يفوتهم أن يسجلوا عليها أسماءهم وتاريخ قدومهم، كتذكار لمن جاء بعدهم.

وبالتجربة، ربما يحدث القادم نفسه إلى ترك ما جاء إليه من الصعود إلى غار حراء بسبب الإرهاق الشديد الذي يصيبه عند هذه المرحلة الصعبة. ويستغرب الزائر كيف فات على المستثمرين طوال الوقت التفكير في مشروع تجاري ناجح يتمثل في إنشاء (تلفريك) يحمل القادمين إلى غار حراء، عبر محطات تتوفر فيها الاستراحات الحديثة ودورات المياه النظيفة.

ولعل شدة الإقبال عليه توفر أرباحا معقولة، إلى جانب أنها ستوفر ضمانا أكبر لتوفير مرشدين للموقع وفق الضوابط الشرعية.

ومن الطريف هنا ما رواه صاحب (فوات الوفيات) في ترجمة طويس بن عبد الله المدني المغني المتوفى سنة 92هـ وكان يضرب به المثل في الحذق والغناء، وأيضا في الشؤم قوله: صعد طويس يوما على جبل حراء فأعياه وسقط كالمغشي عليه تعبا!. فقال: يا جبل.. ما أصنع بك؟ أشتمك لا تبالي.. أضربك لا يوجعك، ولكن يا شماتتي بك يوم تبقى كالعهن المنفوش.

في الثلث الثاني، تبدو الوعورة أخف وأرحم، ومما يسهل المشقة وجود صخور طليت باللون الأبيض كعلامات تدل القادم إلى أسهل الطرق صعودا من خلال الصخور المتقاربة التي أشبه ما تكون بعتبات حجرية غير متناسقة.

ويزداد الإقبال إلى جبل النور في المواسم الدينية، لاسيما موسم الحج. حيث يعج بكثرة مرتاديه ومن كل الجنسيات، رجالا ونساء وأطفالا، ويشهد على ذلك كثرة ما نقش على حجارة الجبل علي طول الطريق من أسماء القادمين وبمختلف اللغات، لكنه لا يخلو من القادمين طوال أيام السنة، خصوصا من العالم الإسلامي، كما أنني رأيت شبابا سعوديين دون الخامسة والعشرين في مجموعات يصعدون إلى الجبل بغية مشاهدة الغار والتعرف عليه.

وحسب المشاهدة، وفي خلو الرقيب، يلتزم القادمون بالأدب الإسلامي في هذا المقام، ولا يصرفون عليه شيء من التقديس كتقبيل الحجارة أو البكاء عندها والتمسح فيها، ويحرصون على خلع أحذيتهم عند الغار، وإعطاء الفرصة بأريحية واضحة لكل قادم بالدعاء في جوف الغار دونما جلبة أو مزاحمة.

ولكن ما يؤخذ عليهم عدم الالتزام بنظافة الجبل، وكثرة الكتابات على الحجارة خصوصا داخل الغار بشكل يشوه المكان ولا يحترم خصوصيته ووضع صدقات مالية تحت الحجارة.

وفي الثلث الأخير صعودا، وهو أيسر المراحل الثلاث، تجد فيه درجا معبدا بطريقة عشوائية، قام بعمله متطوعون تقربا إلى الله بفعلهم. ولا تلبث أن تلقى عددا منهم في ثنيات الصعود وهم يهمون بتكسير الحجارة، وتشذيبها ورصها على هيئة درج صخري مغطى بالإسمنت، يتسع أحيانا إلى أربعة من الرجال دفعة واحدة.

وتلحظ تحت حجارة صغيرة صدقات مالية، من عملات مختلفة، كمشاركة من القادمين الذين عرفوا مشقة الطريق وذاقوا وبال وعورته، ومكافأة لهؤلاء المتطوعين على حسن صنيعهم، ورغبة في أن يواصلوا ما بدأوه من عمل نافع يخفف المشقة على من جاء بعدهم.

وتتعدد في هذا الجزء الاستراحات الخشبية المظللة بالصفيح لاتقاء حرّ مكة وشمسها اللاهبة، وتقدم فيها المرطبات الباردة والماء والمشروبات الساخنة كالشاي والقهوة. وفيها مصليات صغيرة مفروشة بقطع من السجاد الصناعي المستهلك، ويباع فيها أيضا هدايا بسيطة من سبح وأحجار كريمة وخواتم وعدادات يدوية تحصي تهليل المتعبد وتسبيحه.

ويتملكك العجب حين تفاجأ برؤية ''جمل'' واقفا على جرف شاهق في هذا العلو من الجبل، وهو بكامل زينته، وهو مهيأ للتصوير فقط يعمل عليه نفر من الباكستانيين الذين يكسبون قوتهم من ظهر هذا الحيوان البائس.

والصورة الفورية مع جمل الزينة هذا بعشرة ريالات، أما إذا كانت لك رغبة بتصويره بكاميرتك الخاصة فخمسة ريالات تكفي. وهذا نوع من الاستغلال التجاري لأهل الآفاق من ذوي الحيل في الارتزاق!.

في أعلى الجبل لن ترى قط منظرا لمكة المكرمة بكل هذا البهاء والجمال. أحياء سكنية مبثوثة عبر الأودية والبطاح وسفوح الجبل. يغلب عليها لون البياض مما يزيدها ألقا وجمالا. وفي الأعلى مصلى لا يتسع إلا لإمام وثلاثة مصلين فقط بجانب استراحة صغيرة تبيع الماء والقهوة والشاي، وتهب عليك من كل الجهات نسمات باردة تنسيك رويدا رويدا مشقة الصعود.

على مدخل باب غار حراء

غار حراء: منه بدأ النور الذي يريد التعصب إطفاءه

يقع غار حراء على اليسار من قمة جبل حراء وهو عبارة عن فجوة بابها باتجاه الشمال، طوله أربع أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع الذراع، يتسع للرجل البدين ويقف فيه الرجل الفارع ويتسع لبضعة رجال يصلون ويجلسون والداخل للغار يكون متجهاً للكعبة مباشرة، ويتسع الغار لخمسة أشخاص جلوساً وارتفاعه قامة متوسطة.

ويستطيع من فيه أن يشرف على الكعبة لانحناء فيه، كما يمكنه رؤية الجبال المحيطة بالمنطقة، وقد عُرف الغار بهذا الاسم قديماً.

على مرمى بصرك إلى الأسفل تشاهد الغار، وللوصول إليه لابد من النزول عبر عتبات إلى مدخل الغار، وتفاجأ أن المدخل عبارة عن صخور كبيرة متراصة بعضها فوق بعض بينها فجوة صغيرة شديدة الضيق بطول نحو ثلاثة أمتار تجتازها بشكل إفعواني يتناسب مع تكوين الصخور الغريبة، وهي مسننة ومدببة كأنها مزلاج والداخل عبرها بمثابة المفتاح.

ومن غريب ما يروى أنه مهما كان حجم الداخل طولا وعرضا، فإنه لن يعجز عن الدخول، وهذا من أسرار المكان حسب العارفين به.

ما أن تدلف المدخل العجيب، حتى ترى صخرة مستوية تكفي لجسد إنسان متمدد على يسار الداخل، لها باحة ضيقة، وكل هذا المكان مغطى بسقف الجبل، حماية للقاطن فيه من برد الليل وحر النهار، والأمطار الموسمية، وعلى بعد خطوات باحة صغيرة مفتوحة تشاهد منها السماء وتطل منها على الأودية على الجانبين الغربي والجنوبي من الجبل، ولا تتجاوز مساحتها الكلية ستة أمتار مكعبة فقط، وفي اتجاه القبلة تشاهد غار حراء.

والغار عبارة عن تجويف صخري صغير داخل حجارة عظيمة رصت بعناية إلهية واضحة كالمظلات الشمسية باتجاه القبلة تعلوها في الجانب الأيمن فتحتان صغيرتان تجددان هواءه، ويأنس الناظر من إحداها برؤية منارات المسجد الحرام وهي شامخة في عنان السماء، كأنها تخاطب الغار وتطمئنه بالنداء الخالد.. الله أكبر.

وتشم في الغار الطيب والمسك والعنبر الذي يحمله الزائرون، وتقاس مساحته بالسنتيمترات طولا وعرضا، وتتراءى لك فور دخولك في هذا المكان أول سطور في سفر الإسلام الخالد، فهنا خلوة النبي محمد وملاذ تأمله، وهنا نزل جبريل الأمين، ومن هنا جاءت أم المؤمنين خديجة بزوادة الطعام والماء لزوجها المنقطع عن صخب العالم وسغبه، وعن باطل قريش وشركهم.

غرفة مبيت وباحة ومصلى

ويواصل المضواحي وصفه لقصة صعوده ودخوله الغار فيقول: ليس هناك فيما أعلم، مكان مهيأ للاعتكاف والعزلة بأفضل من هذا الغار، فهو أشبه بمسكن صغير يشتمل على غرفة للمبيت، وباحة للنقاهة، ومصلى للتبتل والعبادة. كما أنه لا يخلو من دلالات واضحة تحمل معنى العلو والسمو للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى في مجرد اختبائه والفرار بدينه هرباً من ظلم قريش لمعتقده الجديد.

وأينما مددت بصرك هنا، ستحاصرك الأسئلة من كل جانب، من دلّ النبي على هذا الغار الغامض المستتر؟.. وكيف كان يعيش قبل بعثته بالرسالة في هذا المكان؟.. وكيف كان يقضي وحشة الليل لسنوات في هذا الظلام وعلى هذا الارتفاع السحيق؟.. عبثا تحاول أن تستوعب مدى قوة هذه الإرادة والصلابة ورباطة الجأش. لا ريب.. أن غموض الأمر وأسراره، قد تفسره تلك الفيوض الروحية التي تعبق أجواء المكان.

وليس هناك في بقية المواقع التاريخية، ما هو أضيق حيزا وأكثر تحديدا من هذا المكان الذي نعم لسنوات بجوار النبي وملامسته جسده الشريف، وهو معزز باليقين الثابت بنصوص القرآن الكريم، وعين المكان الذي شهد إرهاصات النبوة الخاتمة، وتم فيه أول لقاء بين صفوة خلق السماء مع صفوة خلق الله تمهيدا لبعثته.

ويشير الدكتور احمد خليل إلى تفاصيل زيارته لجبل النور فيقول: أثناء زيارتي للغار مؤخرا بكرت للخروج لها بعد صلاة الفجر، وبدأت في صعود شاق ليس سهلا أو قصيرا.

كان معظم الطريق قد تم تعبيده إن صح هذا التعبير على أيدي متطوعين عبر القرون، ومع هذا التعبيد فإن الوصول إلى الغار على قمة الجبل لا يتيسر إلا بصعوبة شديدة, ويقع الغار على قمة الجبل، أمامه منعزلان فيختفى طريق الدخول إليهما بين صخور ضخمة متلاصقة لا تظن العين العابرة أنه يمكن المرور من خلاله.

الجزء الأعلى من جبل النور شديد الوعورة والانحدار إلا من الجهة الشرقية، ويوجد غار حراء دون قمة الجبل بنحو عشرين مترا، ولابد للوصول إليه من الوصول للقمة أولا ثم الهبوط إلى موقع الغار، وقد صادفتني استراحة بدائية فى طريق الصعود، يستظل الصاعدون من الشمس الساخنة رغم الصباح، ويروون العطش بالمياه المعدنية، ويشترى من يرغب صورا لمعالم إسلامية أخرى.

وعلى مدار السنوات يتم تعبيد بدائى بواسطة متطوعين يعتمدون على صدقات الصاعدين إلى الغار كما يبدو من قمة الجبل، وأمامه شرفة شبه طبيعية ربما ساهم في نحت السور الصخري إلى اليمين المتطوعون على مر القرون حماية للزائرين.

وبعد النزول الحاد على درجات إلى غار حراء من القمة، وبعد هبوط الدرجات المنحدرة يجد الإنسان نفسه وكأنما وصل إلى نهاية طريق، فهناك صخور ضخمة متلاصقة إلى اليمين، ومنحدر الجبل الحاد إلى اليسار والأمام.

ويضيف: وقفت حائرا مترددا لدقائق قبل أن أجد شخصا خارجا من شق ضيق بين صخرتين، يسمح بالكاد وبصعوبة بمرور شخص متوسط البنية، وإذا هذا الشق يؤدى إلى ممر يضيق ويتسع وينتهى بفتحة خفيضة ينحنى المار للخروج منها، ليجد نفسه قى مظلة طبيعية ثم الرحبة أمام غار حراء.

والغار إلى اليسار صخور متقاربة لا تظن العين العابرة أنها تؤدى إلى مكان آخر، ففي نهاية الممر بقعة اختارها النبي لتعبده وتأمله قبل البعثة، وكرمها الله بجعلها المكان الذي فيه أول نزول القرآن الكريم، المكان المرادف لزمان ليلة خير من ألف شهر .

فرّاج اسماعيل ـ العربية نت بتصرف وزيادة


(3)

محو الآثار الاسلامية في السعودية بين السياسة والدين

د. سعيد الشهابي

قبل بضع سنوات ألقى الدكتور أحمد زكي يماني، وزير النفط السعودي السابق، محاضرة بكلية الدراسات الشرقية والافريقية التابعة لجامعة لندن حول مشروع قام به للتنقيب عن منزل النبي محمد وخديجة عليهما السلام في مكة. كانت المحاضرة قيمة جدا، حيث اشتملت، بالاضافة للنبذة التاريخية عن تاريخ المنزل، علي صور فريدة من نوعها للموقع الذي تم تنقيبه، واظهرت غرفه بوضوح ومنها محراب الرسول وغرفة ولادة السيدة الزهراء. يقول الدكتور يماني بانه جاء بأكثر من 300 عامل ومعهم كل ما يحتاجونه من معدات، الى الموقع، بالاضافة الى مهندسين وأخصائيين في التنقيب عن الآثار، وقام الفريق بعمل نادر على مدار 24 ساعة. استطاع خلالها كشف المنزل الذي لم يبق منه سوى ارتفاع متر من حيطانه، وبعد ان صوروه بشكل مفصل، قاموا بردمه بالرمل مباشرة وغادروا الموقع. وعندما سئل عن سبب ردمه بالرمل بعد هذا العمل الشاق، اجاب: لدينا في السعودية تيار يعتبر الاهتمام بهذه المواقع والآثار ضربا من الشرك. شخص اردني وقف وقال: كيف تبرر صرف هذا المبلغ الكبير على اكتشاف بيت قديم، ما الفائدة من ذلك؟ فرد الدكتور يماني: شكرا لك، لقد سهلت مهمتي في ايضاح الصورة للحاضرين. هذا نمط من التفكير الذي يحمله ذلك التيار. لقد كان الحاضرون مشدودين الى صور منزل النبي عليه افضل الصلاة والسلام، فهي تحكي تاريخا مجيدا، وقصة مثيرة لنشوء دين الاسلام، ولو كانت لدي غير المسلمين لحظيت باهتمام كبير، واستقطبت الزوار والسياح من كل مكان.

في الفترة الاخيرة بدأ النقاش في المملكة العربية السعودية، خصوصا في اقليم الحجاز، حول هذه القضية يأخذ ابعادا جديدة، وطرحت تساؤلات مثيرة، خصوصا بعد ان بدأت تلك الاعمال تصل الى مناطق اخرى غير السعودية. فهل ان ذلك جزء من حرب دينية ام سياسية؟ وما دور السياسيين في تشجيع الظاهرة؟ وهل هي صراع على المصالح ام ناجمة عن جهل وتعصب؟ لقد كان تدمير تمثال بوذا في مدينة باميان الافغانية في 2002 قد سلط الاضواء على هذه الظاهرة التي تهدف للقضاء على كل ما يعتبره التيار السلفي وسيلة من وسائل الشرك. وقبل بضعة اسابيع قام بضعة أشخاص بتدمير قبر هاشم بن عبد مناف، جد الرسول الاكرم (ص) بمدينة غزة الفلسطينية. واتهم مدير دائرة التوثيق في وزارة الاوقاف الفلسطينية عبد اللطيف ابو هاشم جهات سلفية وهابية تتحرك بايعاز من بلاد اخرى بالوقوف وراء هذه الجريمة، موضحا ان هذه الجماعات اقدمت على هذا الفعل اعتقادا منها ان من يهدم المقامات والمزارات والمعالم الاسلامية يؤجر عند رب العالمين . ويعتبر القبر واحدا من اهم المعالم الاسلامية في فلسطين المحتلة.

مرتكبو هذه الافعال يستندون الى مقولة تنسب للشيخين محمد بن عبد الوهاب وابن تيمية تعتبر زيارة القبور من البدع، ومظهرا من مظاهر الشرك. لا شك ان هناك ارضية تتخذ طابعا دينيا لهذه العقلية، لكن هذه الارضية حديثة العهد. فما بين عهد الرسول عليه افضل الصلاة والسلام، وعهد ابن تيمية المتوفّى عام (708 هـ - 1308م) وتلميذه ابن القيم المتوفّى سنة (751 هـ ـ 1350م)، سبعة قرون ونصف مضت على المسلمين وهم لا يعرفون في أُمورهم الشرعية مسألة تثير التشنج والخصومة بينهم باسم مسألة البناء على القبور، حتّى أفتي ابن تيمية بعدم جواز البناء على القبور، وكتب يقول: اتفق أئمة الإسلام على أنّه لا يشرع بناء هذه المشاهد التي على القبور، ولا يشرع اتّخاذها مساجد، ولا تشرع الصلاة عندها . ثمّ جاء بعده ابن القيّم الجوزية الذي قال: يجب هدم المشاهد التي بُنيت على القبور، ولا يجوز إبقاؤها بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً . وجاء بعدهما الشيخ محمد بن عبد الوهاب المتوفّى سنة (1206 هـ ـ 1791 م) فحوّل التشدّد والخشونة إلى مذهب فقهي يعتمد على التكفير والاتهام بالشرك والتهديد بهدر الدم وسبي الذراري لكل من ارتكب سبباً من أسباب التكفير عنده، وما أكثرها! بل ولكل من خالفه في تكفير المتهمين بالكفر عنده. هذه الظاهرة التكفيرية تمثل ارضية صلبة للقوى التي تسير على ذلك النهج، والتي تستحل دماء المسلمين الآخرين الذين يختلفون مع هذا النهج. وعلى مدى المائتي عام الاخيرة قام المحسوبون على هذا التيار بهدم عدد كبير من الآثار والقبور الاسلامية في أكثر من بلد، الامر الذي أثار ضجة كبيرة في اوساط المسلمين لعدد من الاسباب. اولها ان محو الآثار الاسلامية يعني القضاء على تراث معماري وفني وثقافي لا يمكن تعويضه بشيء. وثانيها: ان الاعتداء على ما يعتبره الآخرون أمورا مقدسة يؤدي الى اثارة التوتر المذهبي والديني، وقد ينجم عن ذلك سفك الدم. وثالثها: انه يسلب عن الاسلام السمة التي لازمته منذ بدايته، والتي يسعى الجميع للترويج لها، وهي انه دين متسامح، يحترم عقائد الآخرين، ويمنع الاعتداء على مقدساتهم واماكن عبادتهم، لان في ذلك تهديدا للسلم الاجتماعي والعلاقات الانسانية. ورابعها: ان استهداف مقابر الشخصيات الاسلامية التاريخية ينطوي على اهانة لقدرهم، واستخفافا بقيمتهم، وهو ما لا يتنافى مع التعليمات الدينية.

ان ظاهرة هدم القبور والآثار الاسلامية ليست جديدة. فقد أمر المتوكل العباسي في العام 236 هـ بهدم قبر الامام الحسين، وحرث الارض التي كان عليها، ثم اجري الماء فيها. لم تكن تلك العملية ذات طابع ديني، بل كانت بدوافع سياسية تتصل بالعلاقة المتوترة بين العلويين والعباسيين، والخشية من تحول المساجد التي تقام حول قبور بعض الاولياء والصالحين الى بؤر للمعارضة السياسية تارة، والتحدي الديني تارة اخري. وفي القرون الاولى بعد الاسلام لم تكن هناك رؤية دينية معادية للآثار الاسلامية او الانسانية، وحتى اذا حدث اعتداء على قبر او مسجد، فانما يتم ذلك في اجواء احتقان سياسي وتوتر في العلاقات بين الدولة والرمزية الدينية. ولكن الامر تغير في القرون الاخيرة، خصوصا بعد حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية في القرن الثامن عشر التي أسست للطرح السلفي الذي ازداد انتشارا في السنوات الاخيرة. فعلى مدى المئتي عاما الماضية سعى اتباع الدعوة الوهابية لتطبيق تعليمات مؤسسها حرفيا. وحيث انه اعتبر التوسل بالاولياء والصالحين او زيارة قبورهم من الشرك، فقد تصاعدت الاعتداءات على المساجد التي تقام حول قبور بعض الصالحين، الامر الذي يلقي بآثارة السلبية على العلاقات بين اتباع المذاهب الاسلامية المختلفة. واصبحت الجزيرة العربية مسرحا لهذا الصراع الديني الذي اتخذ ابعادا سياسية واسعة. ويمكن القول بان ما يقرب من 90 بالمائة من الآثار الاسلامية في المملكة قد تم تدميره من قبل المؤسسة الدينية القائمة على تعليمات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وتزداد نزعة الوهابيين بشكل مضطرد لتدمير المساجد والمكتبات والمقابر خصوصا التي تتوفر على قدر من الرمزية لشيء مخالف للعقيدة الوهابية.

في العام 1924 احتل عبد العزيز بن سعود وقواته مدينة مكة المكرمة، وكان اول اعمالهم ازالة اثار مقبرة (المعلى) التي تضم قبر السيدة خديجة زوجة الرسول وقبر عمه، أبي طالب. وبعد عامين (1926) احتل بن سعود المدينة المنورة، وقام هو واتباعه بهدم آثار مقبرة البقيع التي تضم قبور عدد من أهل بيت رسول الله ومنهم ابنته فاطمة الزهراء وحفيده الحسن بن علي والكثير من الصحابة. كما هدموا المساجد السبعة في المدينة: مسجد الفتح (او الاحزاب) ومسجد سلمان الفارسي ومسجد أبي بكر ومسجد عمر ومسجد فاطمة ومسجد علي ومسجد القبلتين، وحولوا بعضها الي صرافات الكترونية. وقد انتقد عدد من الكتاب السعوديين هذا العمل، فكتب محمد الدبيسي مقالا في صحيفة المدينة بتاريخ 10 ايلول/ سبتمبر 2004 بعنوان: بإزالة هذه المساجد تفقد المدينة المنورة معلماً من معالم تاريخها الخالد ومنارة من منارات سيرتها العطرة . فرد عليه صالح الفوزان، وهو من رموز السلفيين، بمقالة في العدد الصادر بعد اسبوع مبررا تلك العملية. وقام الوهابيون بهدم قبة قبر الحمزة بن عبد المطلب، وازالوا مقبرة شهداء أحد، وأزالوا طريقي بدر وأحد. وثمة نقاش محتدم في الفترة الاخيرة حول التوجه لهدم غار حراء الذي كان الرسول يتعبد فيه قبيل نزول الوحي عليه. هذا الغار ليس سوى تجويف صخري في الجبل، ولا يحتوي على شيء بشري، سوى انه يرمز الى رسول الله وتعبده الى الله قبل البعثة. وقبل اربعة اعوام تم إزالة أحد المعالم الدينية والمراكز الإسلامية الأثرية في المدينة المنورة بالسعودية. وذكرت المصادر القريبة من الحدث بأن جرافات ومعدات عديدة قامت في صباح يوم الاثنين الموافق 12/8/2002م بالتجهيز لهدم مقام السيد علي العريضي (766 ـ 825م). وهناك الآن اجازة بهدم قبر الصحابي رفاعة بن رافع الزرقي وهو ممن شهد بدراً، وأحداً والمسجد القريب منه المعروف باسم الكاتبية ، ويتوقع هدم المبنيين قريبا. ومذذ عهد الملك عبد العزيز دار نقاش حول مكان مولد النبي، واتخذ قرار بازالته، ولكن الخشية من ردة فعل عارمة دفعتهم لبناء مكتبة عليه، وفي الاسابيع الاخيرة هناك محاولة لإزالة الموقع تماما. وهناك ايضا خطة لفصل قبر النبي عن المسجد النبوي، وقد بدأوا بتهيئة الاجواء لذلك، بغلق بعض الابواب بين المكانين. اما الكعبة الشريفة فهي الأخرى لم تسلم من العبث، فقبل بضعة أسابيع تمت مصادرة ما بداخلها من آثار تاريخية لا تقدر بثمن، ومنها الستائر والكتابات المنقوشة بالحرير.

في 25 آب/ اغسطس 2005 نشرت قناة العربية علي موقعها مقالا مهما بعنوان مشروع تخطيطي جديد في المدينة المنورة يثير حفيظة المهتمين بالآثار، مؤرخون ومفكرون يدعون لمراجعة قضية هدم الآثار في مكة والمدينة . وجاء في المقال ما يلي: تثير المخططات الجديدة في المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، حفيظة المؤرخين والمهتمين بالآثار في المملكة العربية السعودية لبترها معالم أثرية وتاريخية هامة يرون أن وجودها لا يمكن أن يؤدي لبدعيات أو الي التبرك بها. ورأى المفكر المعروف الدكتور أنور عشقي في اتصال هاتفي أجرته معه العربية.نت أنه يجب دراسة قضية الآثار بعمق ووضع خطة متكاملة لها وليس علاجها بمعاول الهدم. وقال إنه ليس هناك مبرر للادعاء بأن الأثار الباقية في المدينة المنورة وهي لا تزيد عن 10% مما كان موجودا قبل توسعة الحرم النبوي الشريف، ستؤدي إلى بدعيات أو إلى التبرك بها. بينما طالب الدكتور سامي عنقاوي الباحث المتعمق في أثار مكة والمدينة ومدير أبحاث الحج السابق برؤية شاملة لعلماء الأمة، مؤكدا أن آثارا قليلة جدا قد بقيت، وان استمرار الهدم يطمس تاريخنا وحضلرتنا . وكانت جريدة الوطن السعودية قد نشرت الخميس 25/8/2005 بأنه بات من المؤكد أن يأتي مخطط المدينة الاستراتيجي الذي تنفذه أمانة المدينة المنورة علي أحد أهم الأحياء التاريخية فيها. وقالت إنه لم يتبق سوى بضعة أمتار يتوقع لها أن تلتهم في غضون الأشهر الثلاثة المقبلة معالم حي الشريبات التاريخي الذي يختزل حزمة واسعة من المواقع الأثرية المرتبطة بالسيرة النبوية، والتي يعدها المؤرخون شاهدا حيا على عظمة الدولة الإسلامية الأولى، عندما كانت المدينة المنورة عاصمتها الأولى.

لقد استطاع عبد العزيز بن سعود توحيد اقاليم الجزيرة العربية في دولته السعودية الحالية، ولكنه أقامها على أرضية دينية تتبنى المذهب الوهابي، الامر الذي ادي الي تدمير اكثر من 90 بالمئة من الآثار التاريخية القيمة في هذه الارض. انه منطلق ديني أصبح يضغط علي العلاقات بين الأقاليم المنضوية تحت الحكم السعودي. فالحجازيون هم الخاسر الاكبر دينيا وسياسيا من عمليات الهدم هذه. فأغلب الآثار الاسلامية كانت موجودة في اقليمهم، ويرون في تدميرها محاولة لازالة تراثهم التاريخي الديني، علي ايدي النجديين. ويلاحظ الحجازيون ان منطقتين وحيدتين لم تطلهما ايادي الهدم. فمنطقة خيبر ما تزال تحتوي على آثار مرتبطة بتاريخ اليهود. كما تتم المحافظة على آثار الملك عبد العزيز بن سعود وتعتبر تراثا وطنيا. فحصن الرياض يحظى برعاية خاصة، وكذلك قلمه وسيفه ونظارته. وهكذا تبدو القضية بعيدة عن الدين، وأكثر ارتباطا بصراع الهويات، وهو صراع مفتوح بآفاق واسعة. ان من الصعب التمييز بين ما هو ديني وما هو سياسي في مملكة عبد العزيز بن سعود، ولكن ما هو واضح ان غفلة المسلمين وانشغالهم بأوضاعهم السياسية أتاحت للحركة السلفية الوهابية فرصة الانقضاض على ما تبقى من آثار اسلامية في الجزيرة العربية، وانتقلت الى العراق، حيث تم تدمير ضريح العسكريين في مدينة سامراء. ولا يستبعد ان تكون مساجد اخرى على قائمة الهدم، كما فعل الوهابيون عندما هاجموا العراق في 1816 وهدموا قبة قبر الامام الحسين ونهبوا محتويات الضريح. فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أخطر الوضع الذي بدأ بعض الاعلاميين السعوديين الجريئين في قرع أجراس الانذار بشأنه. ان المسألة ليست شأنا سعوديا، بل هي شأن المسلمين الذين يرون تاريخهم تدمره معاول الهدم بلا وازع من ضمير، ولا مانع من قوة سياسية. فالامة التي لا تاريخ لها لا حاضر لها ولا مستقبل. ومن الخطأ الكبير تشويش الافهام بادعاء ان الحفاظ على التاريخ وآثار السابقين ضرب من البدع والشرك، فان وراء الأكمة ما وراءها، ووراء هذا الادعاء أجندة سياسية خطيرة، يجدر بالمسلمين قراءتها بوعي لكي لا يفاجأوا بما لا يحبون.

القدس العربي ـ 5/4/2006



الصفحة السابقة