مجتمع الحرمان في زمن الطفرة

فتح تدفق الاموال الطائلة بعد ارتفاع أسعار النفط شهية المطحونين في زمن الكساد خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات على فرصة الخروج من نفق أزمة اقتصادية خانقة، فوجدت غالبية المجتمع نفسها أمام نافذة قدر غير مسبوقة. فثمانية ملايين انسان خاضوا غمار حرب شعواء لا هوادة فيها مع الفقر داخل سوق الاحلام، طمعاً في إحداث نقلة نوعية في أوضاعهم المعيشية. ولكن كثيراً منهم خسروا الحرب، فيما اعتبرها آخرون سجالاً، وبعض آخر قبل بتسوية من طرف واحد، بأن يستعيدوا رؤوس أموالهم تمهيداً للخروج من السوق بلا عودة.

كارثة سوقية، كما يصفها الخبراء والمتضررون، تسببت في كوارث اجتماعية واقتصادية ونفسية، وقد تؤول الى كارثة سياسية أيضاً، فيما اذا تم تجريد ثمانية ملايين انسان بات مهووسا بوقع حركة المؤشر اخضراراً واحمراراً..لقد دقّ التقهقر السريع في أسعار الاسهم ناقوس خطر بحدوث فجوة طبقية واسعة، حيث يزداد الاثرياء غنى ويزداد المعدمين فقراً.

إن الفاصلة بين مداخيل الافراد ومتطلبات الحياة في هذا البلد النفطي تتسع بوتيرة خطيرة، وان امتصاص الاثرياء لمئات المليارات من الريالات المضخوخة في سوق الاسهم من قبل ملايين الافراد تجعل ظروف الحياة صعبة للغاية. فقد تبدد حلم عشرات الآف من المساهمين لجمع قيمة سكن بقيمة مليون ريال على أقل تقدير، وتوقفت مصادر الدخل لعدد كبير من الناس الذين تركوا وظائفهم للدخول في أتون السوق الحالمة، وباتت مئات الآلاف من العوائل عاجزة عن سداد القروض البنكية، بل ربما سداد فواتير خدمات الكهرباء والتلفون، فضلاً عن توفير مبالغ مالية للحصول على فرص دراسية أفضل لأبنائها في الجامعات الاهلية أو في جامعات خارجية، بل فقدوا حتى إمكانية رشوة بعض النافذين للحصول على تعليم جامعي مجاني في الداخل. فقد هؤلاء العلاج أيضاً في مستشفيات خاصة بعد أن تدهورت الخدمات الصحية في المستشفيات الحكومية، بل أصبحت رحلات الاستجمام الصيفية حلماً يرتجى لدى كثيرين خرجوا من السوق بدون خفي حنين.

ستعود مشاهد الاحياة الفقيرة التي يتكدّس فيها المطحونون في بلد غارق في النفط، وسيعود هؤلاء المزروعون كأشجار الزينة على الطرقات السريعة وهم إما يلتمسون المعونة أو يبيعون زجاجات الماء البارد في صيف لاهب. نستعيد حينئذ مشاهدات المواطنة الاميركية جين التي نشرتها بي بي سي في يونيو 2004 تحت عنوان (خواطر أمريكية في السعودية)، تروي فيها ظواهر جديدة لم تكن ملحوظة في السابق. فقد كتبت المواطنة الاميركية جين التي تقيم في السعودية منذ سنوات عن ظاهرة الفقر تحت عنوان (الكبرياء المجروح)، تقول فيها: (وبينما كنت أتمشى مع زوجي في شارع العليا لاحقنا رجل سعودي من أجل أن يبيعنا إطاراً لصورة قائلا: (إذا سمحتم، لي خمس أخوات وأبي رجل كبير ومريض ويحتاج إلى الدواء، ساعدوني)، وساعدناه.

وبعد فترة التقينا فتى في نفس الشارع كان يقول: (إذا سمحتم، لم أكل اليوم، أعطوني نقوداً لشراء الماء فقط).

وأعطيناه ما قيمته جنيهين استرليني.

وفي أحد التقاطعات فوجئت لرؤية رجل سعودي يبيع زجاجات الماء للسائقين، وفي السابق كان الافارقة يقومون بهذا العمل المتواضع. واشتريت زجاجة ودفعت للرجل ما يفوق قيمتها. ولكنه قطب جبينه حيث شعر بجرح كبريائه لقبوله الإحسان.

وأمام أحد محلات البقالة الكبيرة التي يتردد عليها الغربيون شاهدت رجلاً يرتدي زياً بدوياً يجلس على الأرض يبيع المسواك، وكان أغلب المشترين يعطونه أكثر مما يطلب. وتسائلت السيدة جين في الاخير (لماذا هذا الفقر في واحدة من أغنى دول العالم؟).

لم تكن مشاهدات المواطنة الاميركية مستغربة أو مفبركة، بل الغريب أنها باتت مألوفة بحيث أن الحديث عنها يبدو مستغرباً كونها لا تشتمل على أهمية، وهنا المفارقة، فبالنسبة لأولئك الذين زاروا مملكة النفط في زمن الفورة النفطية لابد قد لحظوا الكبرياء الذي صنعه النفط في نفوس أبناء المجتمع، بحيث باتوا يأنفون من الاعمال الشاقة أو التي لا تنطوي على امتياز وتميز وسمعة، ثم حين ضاقت آفاق الطفرة الاقتصادية، وبدأت البطالة تأكل في الكبراء، واشتد الصراع من أجل البقاء على قيد حياة كريمة، وتفجّر نهم الكبار لنهب المال العام والاثراء غير المشروع، أصبح القبول بالادنى ومادونه خياراً عسيراً.

لقد بدأ العار الذي حجبه دخان النفط، وما كانت زيارة الأمير عبد الله قبل وصوله العرش الى حي فقير في العاصمة الرياض في نوفمبر 2002 اكتشافاً تاريخياً فريداً، فالاحياء الفقيرة قد استنسخت بعضها وتكاثرت كالفطر في ربوع بلد يملك أكبر احتياطي نفطي في العالم.

حين وعد الامير ـ الملك عبد الله باجتثاث جذور الفقر، انشغلت اموال النفط باجتثاث جذور الارهاب عن طريق السلاح، بالرغم من الرابطة الحميمية بين الفقر والعنف، فالاحياء الفقيرة ظلّت تمثل أعشاشاً لولادة ونمو الانتحاريين، الذين يزوّدون الجماعات المسلّحة بالقوة البشرية. أنفقت الدولة 40 مليار ريال عام 2004 من أجل مكافحة الارهاب، ولم تنفق معشار ذلك على محاربة الفقر.

توفير فرص عمل لعاطلين عن العمل يشكّلون نسبة 20 بالمئة على أقل تقدير قد تكون الآن أسهل مما كانت عليه في الماضي بسبب وجود فرص إستثمارية قد لا تتكرر في المستقبل، بسبب وفرة رساميل ضخمة من عائدات النفط تسمح ببناء مشاريع ضخمة بحاجة للايدي العاملة المحلية، ولكن ثمة مشكلة خطيرة تواجه الدولة والمجتمع مع خسارة قطاع كبير من المساهمين في سوق المال لرؤوس اموالهم ووظائفهم وهو ما سيؤدي إلى عجز كثير من أرباب الأسر عن توفير دخل ثابت لأسرهم؛ يغطي الاحتياجات الضرورية، وهذا بدوره سيؤدي الى تزايد الهابطين دون خط الفقر. وبالرغم من غياب قاعدة معلوماتية حول الفقراء، وتوزيعهم الجغرافي الا أن الدراسة الجامعية التي أصدرها الدكتور راشد الباز عام 2004 ذكرت بأن من يعيشون بالسعودية تحت خط الفقر قد يصلون الى 60 بالمئة. وبالرغم من أن كثيراً من الخبراء السعوديين رفضوا هذه النسبة وقلّصوها الى 20 بالمئة وفق معايير داخلية، الا أن الدراسة التي اعتمدت المعايير الدولية في تحديد خط الفقر، ترجع الى عدد من المؤشرات من ابرزها: البطالة وتشكل بحسب الاحصاءات الرسمية لعام 2005 نحو 8.5 بالمئة من إجمالي القوة الوطنية، فيما ترفع المصادر الدولية النسبة الى 12 بالمئة، ومصادر اخرى تشير الى أن نسبة البطالة تتراوح بين 20 بالمئة الى أكثر من 25 بالمئة، ونشير هنا الى تصريح وزير العمل والشؤون الاجتماعية من أنّ هناك 3.2 ملايين سعودي يبحثون عن وظائف، وهذا يكشف خطورة المشكلة بالنظر الى ما يشكله القوى المهيأة لدخول سوق العمل في المملكة، وهم الذين تتراوح أعمارهم من 15 سنة إلى 64 سنة من الذكور والإناث، الى قوة العمل الكلية والتي تبلغ 7.425,537. ارتفاع عدد المتقاعدين، حيث تقل رواتب 60 بالمئة من المتقاعدين العسكريين عن 3 آلاف ريال، وأن 40 بالمئة من المتقاعدين عموماً في المملكة لا يملكون سكناً خاصاً بهم، وأن 58 بالمئة يعيشون في بيوت شعبية أو شقق. ضعف معاشات الضمان الاجتماعي السنوية، وانخفاض القدرة الشرائية للفرد والاسرة، تأسيساً على ارتفاع تكلفة المعيشة مقروناً بثبات الاجوار في القطاع العام، الموظّف الأكبر للقوى العاملة الوطنية (80 بالمئة من العمالة الوطنية في القطاع العام)، ارتفاع نسبة الفئة المستهلكة، وتشمل فئة صغار السن الذين تبلغ أعمارهم 16 سنة فأقل، وفئة القوى غير العاملة من البالغين، وهاتان الفئتان تشكلان 75

من السكان، بينما تبلغ الفئة المنتجة 25%، وإذا أخذنا في الاعتبار أن نسبة كبيرة من الـ25

هم من أصحاب الدخول المتدنية، فبإمكان المرء تصوّر حجم مشكلة الفقر في هذا البلد النفطي. خط الفقر للمواطن، بحسب دراسة الدكتور الباز، يبلغ 1120 ريالاً بالشهر - بعد احتساب أجرة المنزل - في حين يبلغ خط الكفاف 1660 ريالاً بالشهر.

بالتأكيد أن معطيات الدراسة التي أعدّها الدكتور الباز مازالت صالحة، بل يمكن التعويل عليها في تقدير خطورة الوضع الراهن في حال أخفقت الدولة في تقديم حلول جوهرية وجذرية لمشكلة الفقر التي لم تعد مقتصرة على فئة اجتماعية دون غيرها، بل هي قابلة للتمدد السريع بفعل الزيادة التلقائية في المعطيات الرقمية الواردة في دراسة الباز، من قبيل الزيادة السكانية، وزيادة الاسعار وغيرها. إن ارتفاع تكلفة المعيشة وثبات الأجور ينذر بمشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة بتآكل الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر. ووفقا لإحصاءات مصلحة الإحصاءات العامة فقد سجل الرقم القياسي العام لتكلفة المعيشة لجميع السكان في المملكة لشهر مايو 2005 ارتفاعا بلغ نسبته 0.3% مقارنة بشهر مايو 2004.

في المسح الميداني الذي قامت به به وزارة الاشغال العامة والاسكان في مطلع عام 2000 على ثمان مدن رئيسية (مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض وجدة والظهران والخبر وأبها) لدراسة الأحوال المعيشية للأسر السعودية اتضح من خلاله أن 51% من الأسر السعودية لا يوجد لديها دخل ثابت، و40% لا يزيد دخلها الشهري على 6 آلاف ريال، في حين يرتفع الدخل إلى حدود مفتوحة لدى 9% من الأسر السعودية!.

مصير الطبقة الوسطى..الطفرة المستباحة!

كان مؤملاً أن تسهم الطفرة الاقتصادية الحالية في ترميم بنية الطبقة الوسطى التي تآكلت خلال عقدي الثمانينات بصورة متسلسلة، بعد أن فقدت هذه الطبقة مقومات بقائها، بسبب عجزها عن توفير المسلتزمات الاساسية للحياة من مسكن وصحة وتعليم ومواصلات ولجوئها للاقتراض والاستعانة بمصادر مالية أخرى للايفاء بتلك المستلزمات. لقد مثّل تآكل الطبقة المتوسطة مؤشراً خطيراً على الانقلاب في النظام الاجتماعي القائم الذي ينذر بتحول المجتمع الى مجتمع راسمالي تفغر الفجوة بين الفقراء والاغنياء فاهها، حيث يزداد الاغنياء غنى والفقراء فقراً، فيما تتفتت الطبقة الوسطى كالرماد، فهي لم تفقد وظيفتها كطبقة منتجة، ومصدر الحراك الاقتصادي والاجتماعي بمفعولاته السياسية والثقافية، ولكن تفقد أيضاً هويتها لتلتحق وتشكّل الجزء الأكبر من مجتمع الفقر، الذي ينوء بعجزه وصراعه من أجل البقاء.

هؤلاء الذين تنبذهم سوق الأسهم قصيّاً يعدمون رؤية المستقبل، فهم قد جاءوا الى السوق بعد أن قطعوا صلاتهم مع مصادر دخل مستقرة، ومع أوضاع معيشية ثابتة، وخرجوا منها بعد أن تآكلت الفرص والاموال، بل قد حمّلوا ديوناً على كاهلهم، ولم يعد في جيوبهم وحساباتهم ما يكفي ليس لسداد الدين بل ما يغطي الحد الادنى من مستلزمات حياتهم اليومية.

ما سبق يعني أن من يتساقطون دون خط الفقر يزدادون عدداً وعوزاً، وأن نسبة الـ 60 بالمئة التي عارضها الخبراء الاقتصاديون المحليون ستكون حقيقة مرعبة، بالنظر الى الافواج التي خرجت من سوق الاسهم بجيوب فارغة وحسابات مجففة، وديون منهكة.

ما تنذر به التخلخلات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن انهيار سوق الاسهم هو نشوء مجتمع الحرمان الذي تنجبه الطفرة الاقتصادية على وقع انهيار سوق الاسهم، فالنقلة النوعية في مستوى المعيشة والدخل الفردي لم تتحقق وليست هناك مؤشرات على حصولها، بعد أن أحبط سوق الاسهم فرص تحقيقها على خلفية النمو الكبير في ايرادات البلاد النفطية. فالزيادة الهائلة في السيولة المالية لم تقترن أو تعكس تقدماً اقتصادياً ولم يجر تحويلها الى مزوّد رئيسي لعملية مشاركة اقتصادية واسعة تفضي الى معالجة المعضلات الرئيسية في استراتيجية التنمية على المستوى الوطني.

ولذلك، وبالنظر الى الاوضاع الاقتصادية الراهنة فإن ما سينشأ عن الطفرة الاقتصادية الثانية أن الطبقة الغنية التي أفادت من الطفرة الاقتصادية الاولى من الامراء والتجار الكبار المتحالفين معهم ستحصد الجزء الاكبر من السيولة المالية المجودة في السوق، فيما تزداد الطبقات الفقيرة حجماً وحرماناً، بعد أن وهبت أموالها الى الطبقة الغنية عن طريق سوق الاسهم. ولا ريب، أن هذا التفاوت الطبقي سيؤدي إذا ماساءت احوال الفقراء وعجزوا عن توفير مسلتزمات حياتهم الى صدام مع من حرمهم، لا فرق بين أن يكون تاجراً او أميراً أو الدولة.

وضعت الحكومة تدابير نظرية لمعالجة مشكلة الفقر، ومنها إنشاء (الصندوق الخيري لمكافحة الفقر)، وانشاء مؤسسة الامير عبد الله بن العزيز للإسكان التنموي، وتخصيص ملياري ريال لمشروعات الاسكان الشعبي، ولكن تلك التدابير مصابة بداء البطء في ظل تحديات خطيرة اقتصادية واجتماعية متسارعة بتداعياتها الامنية والسياسية المدركة. فدراسة استراتيجية مكافحة الفقر من قبل فريق من الاخصائيين الاقتصاديين استغرقت نحو 3 سنوات الامر الذي أثار تساؤلاً حول دور المؤسسات الاقتصادية الرسمية في السابق عن رصد مثل هذه الظواهر وسبب غياب قاعدة معلوماتية رصينة يمكن التعويل عليها في تشخيص المشكلات الاقتصادية التي تواجه الدولة، وكم من الوقت سيستغرقه تنفيذ استراتيجية اقتصادية شاملة لمعالجة مشكلة الفقر...؟!!

فمشروع تأهيل الفقراء الذي طرح عام 2003 بات مرشحاً لأن يتفجر بفعل المؤهلين للانضواء في قوائمه، ما لم تقدم الحكومة على رسم استراتيجية وطنية لمعالجة الملف الاقتصادي وفق منظورات تنموية عادلة: توزيع متكافىء للمشاريع التنموية، وضع برنامج التنمية البشرية، وضع ضوابط صارمة على المال العام، رسم خطة دقيقة لتنفيذ المشاريع الاستثمارية القادرة على استيعاب الايدي العاملة المحلية، فتح باب القروض مع تسهيلات مالية غير مجحفة، تشجيع الفرص الاستثمارية على مستويات فردية وجماعية.

ويعلّق عبد العزيز الفايز على تلك التدابير بالقول (لا يمكن أن تحل هذه الأزمة بمشاريع وأفكار ضيقة في مجالات محدودة، كصندوق معالجة الفقر، أو مؤسسات خيرية لإعانة الفقراء الأمر أكبر من ذلك بكثير، يدخل في جميع البنى التحتية للبلد، السياسية والاقتصادية والتعليمية والصحية والاجتماعية والعرفية، وبمعنى آخر: (إعادة البناء من جديد ، الترميم لا يجدي نفعاً).

الصفحة السابقة