حديث عن الدولة الذاهبة

إحتكار آل سعود لمصادر القوة لا ينجيهم من الهلاك

معذورون بالطبع!

فصناع القرار السعودي، شأنهم شأن غيرهم من الحكام والمسؤولين في العالم العربي، يقيّمون اللحظة، ويستخفّهم حجم القوة التي بيدهم، ويقرؤون الواقع اليومي دون المستقبل.

في الحقيقة هم يقرؤون أنفسهم، ويقارنوها بما في يد غيرهم (شعوبهم). وقراءة الذات لمن هو في هرم السلطة تكون ضمن بيئة (الإنتشاء) و (الزهو) و (فورة الأنا) و (عمى السلطة) و (طغيان القوة) على (حسابات العقل وقراءات المستقبل).

لهذا، بادت الكثير من الملكيات، فذرتها الرياح ذرو الهشيم.. القليل منها بقي سليما محاولاً التعايش مع التطورات والوقائع المستجدة، فطأطأ قادة الملكيات الباقية رؤوسهم أمام رياح التغيير، وقبلوا ـ ضمن حدود متفاوتة ـ بالحد الدنى من التطوير الذي يبقيهم أحياء على رأس السلطة.

لقد ذهبت الملكية في العراق، وفي اليمن، وفي مصر، وفي ليبيا.. وتعرضت الملكيتان في الأردن والمغرب الى تحدّيات ضخمة استدعت نزول قوات المارينز الأميركي الى الشارع لتحمي نظام الأردن من السقوط، كما استدعت ملك المغرب الجديد أن يدين الماضي، من أجل مصالحة مع الحاضر، وحسناً فعل.

التحولات النفسية لدى الشعوب تعدّ عاملاً حاسماً في تقرير وقت ووجهة التغيير. وقد تكون أخطر بكثير من المعادلات المادية على الأرض والتي يحسب لها صانع القرار حساباً باعتبارها قوة منظورة ترى بالعين وتشخص ويُعرف مدى حجمها.

اما العوامل النفسية، فقد كانت سبباً في سقوط العديد من الأنظمة، ونقول سبباً أساس. فالكثير من الأنظمة سقطت وهي في عزّ شموخها، وفي بعض الأحيان في قمة قوتها الإقتصادية. ولعلنا نتذكر ما جرى لإيران الشاه، فكل العوامل والحسابات الماديّة كانت تشير الى بقاء الإمبراطور على عرشه، بل وتوسع نفوذ امبراطوريته سياسياً الى أبعد من حدودها. وقد كان الشاه يتكلم قبيل سقوطه بسنة أو نحوها كطاووس مهووس بجنون العظمة. فالأحزاب المعارضة مكسورة الجناح، والوفرة الإقتصادية قد عكست آثارها على الشعب والدولة.

الشيء الذي لم يحسب له الشاه حساباً، وكذا رجال استخباراته، ومخابرات حلفائه الغربيين والأميركيين، هو التحولات النفسية والفكرية العميقة التي كان (التحديث) أحد مسبباتها، وقدرة تلك التحولات في إحداث جوع داخلي باتجاه التغيير، عبّر عن نفسه بالتظاهرات اليومية حتى تمّ اسقاط نظام الشاه، رغم الرصاص الذي واجه به شعبه، وسقوط عشرات الألوف من القتلى.

(حنّا غير!).. لم نفعل ما فعله الشاه من عدم احترام لشعبه ولعقيدته. هذا ما قاله ولي العهد يومئذ، والملك فيما بعد فهد، لأحد الصحافيين الغربيين، الذي سأل عمّا اذا كانت التجربة الإيرانية قد تعكس نفسها فتجعل السعودية (ايران ثانية).

بالطبع لا يمكن ان تتكرر تجربة السعودية بتجربة ايران، ولا بتجربة صدام، الذي لم يترك الحكم إلا والعراق مزروعا بالألغام الطائفية والعرقية، فكان ما جرى ويجري تتمة لعهده المشؤوم.

العبرة التي لا يلحظها المنتشون بالقوة المادية (سلاح ومال) من آل سعود، هي أن بقاءهم القسري على سدة الحكم بدون تغيير أو إصلاح، وبدون لحاظ التحولات النفسية لدى الأجيال الجديدة، وقراءتها القراءة الصحيحة، خاصة وأنها تمثل نحو 70% من مجموع السكان.. ان الخطأ في قراءة الوضع النفسي لخارطة الشعب بفئاته المتعددة، واعتماد حسابات القوة المادية الحاضرة فحسب، يجعل المسؤولين أسارى لتحليلات سياسية خاطئة. ذلك أن العائلة المالكة عادة ما ترى القوة المادية فحسب، وعلى أساسها تقرر سياساتها، آخذة بالإعتبار أن احتكار القوة المادية للدولة بيدها أو بيد محيطها الإجتماعي (النجدي ـ الوهابي) يجعلها في مأمن من متطلبات التغيير، وعلى ذلك هناك رأي شائع لدى الامراء، فهم يشيرون دائماً الى السيف الذي أخذوا به الحكم، ويطالبون الآخرين بأن يبرزوا سيوفهم، في ظاهرة تحدٍّ تعكس أن السلطة ميدانها الصراع الدموي.

هذه المعادلة ليست خاطئة فحسب، بل وغبيّة. انها معادلة تقول التالي: العائلة المالكة تمتلك السلطة المالية والمادية والعسكرية والأمنية، أما الطرف الآخر سواء كانوا جماعات مناطقية او مذهبية أو حتى دعاة إصلاح، فلا يمتلكون منها شيئاً، بل هم ـ كما هو واضح ـ تحت القبضة الأمنية، وكثير منهم ممنوعون من السفر، ومطرودون من العمل، ومحرومون من حقوقهم المدنية التي يأتي في أدناها حرية التعبير السلمي عن آرائهم وأفكارهم ضمن الحيّز الموجود داخل المملكة وإعلامها، فضلاً عن القبول بالسماح لهم بالتحدث الى الإعلام الخارجي والفضائيات العربية.

هنا المعادلة تميل لصالح العائلة المالكة وتوابعها التمثيلية (نجد). فمن يثور يتم كسر ظهره، ومن يتحدث يودع السجن، ومن يطالب بحقوقه كفرد، أو حقوق مجتمعه الصغير او الكبير، يهدد بالحبس باعتباره لا يمثل إلا نفسه، في حين تمثل العائلة المالكة والنخبة النجدية الحاكمة ـ قسراً ـ كل الشعب!

يفوت صانع القرار رؤية ما بعد هذه الصورة.

جزء من الصورة الحقيقية يمكن رسمه بصورة مختلفة. فقوة الشعب، أي شعب أقوى من الحكومة. وأي مجموعة سكانية من حيث النظرية تستطيع مجابهة الدولة، حتى وإن لم تكسرها، فإنها قوة قادرة على النزول بها الى الدرك.

وجزء من الصورة يمكن رسمه على هذا النحو: القوة عملية تراكمية، أي أنها قابلة للتراكم. فالشخص الضعيف قد يصبح قوياً إن أخذ بأسباب القوة (تعليم جيد، علاقات جيدة، وعي بالمحيط، استغلال الفرص، وهكذا). والجماعة المستضعفة في محيطها قادرة أن تجمع قواها، فتستحث طاقات افرادها لتصنع منها قوة ملتهبة، إما عبر جمع الطاقات الفردية في إطار منظم، أو عبر توليد القوة مما هو متوفر لديها من فسحة زمنية ومكانية ومادية، مثلما ينتج المال مالاً، كذلك تنتج القوة قوةً.

وهي ـ أي القوة ـ دوّارة. بمعنى أن القوة تنتقل من مكان الى آخر، ومن جهة الى أخرى. وبهذا المعنى قيل: أن الدنيا دول، أي متغيرة الأحوال. ولربما من هنا جاءت تسمية (الدولة) والتي يقصد بها الحكم، لأنها تعني عدم الإستمرار بل التغير. اي ان الحكم بطبعه يتغير فيدول ويزول. هكذا تنشأ الدول وتزول. فالذين يراهنون على ديمومة سلطانهم بحساب المادة، عليهم أن يلحظوا في نفس الوقت التطور الذي يحدث عند الجهة المقابلة. فقد تكون نسبة القوة 100 الى 1، وقد تتطور الى 100 الى 10. ثم إن القوة التي في اليد ـ أي في يد النخبة الحاكمة ـ قابلة للتذرر والكساد، وقد تفقد مفعولها في ظرف زمني ما. فمثلاً، يمكن شراء الذمم بالمال، ويمكن تهدئة الجنود بمثله، وقد يحدث أن يأخذ الجميع المال دون أن يدافعوا عن السلطان، بل ينفروا منه. وهذا يذكرنا بحوادث كثيرة في التاريخ القريب والبعيد. فهناك عناصر قوة لا تؤدي مفعولها في ظرف مضطرب، حيث تتبدل الولاءات، وتتغير الأنفس، وتتصاعد الطموحات على حساب العائلة المالكة نفسها.

وفي بعض الأحيان تنتقل القوة فعلاً الى طرف آخر، أي تنتقل من الدولة الى طرف قريب أو بعيد منها. وكما رأينا في تاريخ المملكة القريب، كيف أن العائلة المالكة سمّنت التيار السلفي فارتدّ عليها، وأمنت به ودعمته، فاستخدم ما حصل عليه من دعم لمواجهتها. فالدعم لجهة ما لا يعني ضمان ولاءها، أياً تكن الجماعة. والدعم لجماعة ما في فترة ما قد يأتي بالغرض، وفي فترة أخرى يكون وبالاً. ويجب أن يدرك صانع القرار، بأن (المدعوم) أي (متلقي الدعم) تتغير حساباته السياسية ومصالحه، وتتغير نظرته الى ذاته، وتتغير طموحاته، وتتغير نفسيته. فقد يقبل الدعم في البداية شاكراً ممتناً، وينتهي الى أن ما يحصل عليه حق له وواجب على المعطي، وأنه يجب أن يزاد في العطاء. قد ينظر في البداية الى الدعم على أنه منحة ومكرمة من العائلة المالكة، وقد ينتهي الى اعتبارها حق له كمواطن، أو كحامي للدولة ولسلطان آل سعود. وأخيراً، فإن الفاصلة بين المانح والممنوح تكون واضحة في بداية الأمر، ثم ما يلبث الأخير إلا أن يرى نفسه جديراً بما لدى المانح الذي يأخذ اللحم ويرمي له العظم كما يقال!

ثم إن (القوة) لا يمكن أن تنحصر في جزئيتها الماديّة فحسب. فهناك جماعات لها امتدادات في الخارج مذهبية أو عرقية أو نفسية. قد تعوض عن ضعفها بتكتيل رأي عام خارجي ضد الدولة، وهذا لا يتطلب بالضرورة مالاً وفيراً، بقدر ما تكون هناك تقاطعات مصالح.

وقد تعمد الجماعات الى التحالفات مع مشاريع دولية تطيح بالدولة نفسها، وقد جرّب السعوديون هذا من قبل، في تحالفهم مع البريطانيين، فأطاحوا بدولة الحجاز.. فما الذي يمنع فعل العكس؟!

والجماعات التي يعتقد أن لا صوت لها ولا خشية منها كونها (تحت الجزمة النجدية) ستفكر في ألف طريقة للهروب من نير الإستعباد والإذلال، فتنفخ الروح في أفرادها، وتزودهم بقنابل فكرية ومشاريع سياسية تواجه الخصم، وتقوي اللحمة بين الأفراد وتسيّج مجتمعها الصغير من الإختراقات، وتستخدم التنكنولوجيا في التبشير بآرائها وأفكارها ودعواتها. ومثل هذه الأمور، قد لا تغيّر المعادلة المادية بالسرعة المتوقعة، ولكن لا يمكن لطغيان قوة الدولة أن ينهيها، كونها تطير في الهواء، وتتجذّر في النفوس، وقد تتخطى الحدود الى جمع السلاح، والى تأسيس واقع على الأرض لا تستطيع الدولة معه ان تستخدم معه لا المال ولا السلاح، كون المواجهة قد أخذت أبعاداً مختلفة لا علاقة لها بالمادة الصرفة.

ولعل من الصحيح القول الآن، أن الدعوات الإنشقاقية في المملكة، سببها الأساس احتكار القوة لدى فئة واحدة من المجتمع (نجد). فالجيش والأمن والمال والتعليم والإعلام بيدها. ولكن لننظر الى الضفة الأخرى، فكل منطقة استكملت تشكيل هويتها وأدواتها. كل منطقة لها زعامتها السياسية والدينية. وكل منطقة لها منتدياتها وكتبها وإعلامها الخاص بها. وكل وجوه منطقة وزعمائها السياسيين والدينيين لهم صلات بالخارج، وبعضها يزعج الدولة ويخيفها، كونها قابلة للإستثمار ضد أصل الدولة.

وهكذا، فإن ما يعتقد أن الدولة (المنجدة) قد احتكرت مصادر القوة الظاهرة، نجد أنه يوجد ما يقابلها من قوى نمت وتنمو بشكل سريع.. مع أن المراقب يرى هدوءً في الأوضاع، وتخطف بصره حوادث العنف الوهابي. أما تحت الأرض، فالأمر أخطر بكثير. فالعوامل النفسية ومضخات الشحن تعمل بلا كلل لفتح معارك ضد الإحتكار وضد الدولة المسرطنة غير القابلة للإصلاح.

كل ما قد تنجح في العائلة المالكة، هو الهدوء على السطح، فيما النار تستعر تحت الأرض. وكأنها تقبل بولاء ظاهري (نفاق سياسي) او (خضوع سلبي) تحت طائلة العقاب لا يحمل ولاءً في الحقيقة.. هذا النفاق لا ينتج دفاعاً عن الحكم وقت الأزمة، وذلك الخضوع السلبي يتحول الى مواجهة قد تكون عنيفة مع السلطة إذا ما قدّر له الفوران.

وملخص القول، هو أن العائلة المالكة لا يجب أن تغتر بالقوة المادية التي بيدها، وأنها بامتلاكها لها هي وصحبها (القصيميين خاصة) ستبقى مخلّدة الى الأبد.. وأن لا تنخدع بالخضوع السلبي ولا بالنفاق السياسي، ولا بالولاء القائم على شراء الذمم، فالمشتراة ذممهم ـ وكما دلت حوادث تاريخية عديدة ـ أحرص من غيرهم على التمتع بما حصلوا عليه من أموال، وأكثر حرصاً على أن لا يخسروا شيئاً مما وصلت أيديهم إليه.

القوة الغاشمة عمرها قصير.

ورفض التغيير والإصلاح لا يضرّ المجتمع فحسب، بل بالعائلة المالكة أيضاً. ولنقرأ اليوم سمعتها بين الشعب وبين ما كانت عليه في الثمانينيات مثلاً، او حتى التسعينيات الميلادية الأخيرة. ولنراقب جراءة المواطنين في مواجهة أجهزتها الأمنية، ولنتابع عملية الإستخفاف بها وبقراراتها من قبل أقرب المقربين لها (التيار السلفي بكل ألوانه).

السيطرة على مفاتيح القوة المادية لا يدوم، وإلا كنّا نعيش وفق سنن لم يضعها الرب لهذا الكون.

الصفحة السابقة