الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

موقف العلماء المخذلون باطل ولم يتوقع منهم غير ذلك

مغامرة.. نعم كانت مغامرة ولكنها حققت ما عجزت عنه (الحكمة المدجّنة) للحكومات العربية، وليت مغامرات العرب حققت نتائج باهرة كتلك التي جرت على أيدي رجال المقاومة، فالعقول السياسية العربية الرسمية لم تتجاوز حدود (النكبة) و(النكسة) و(السلام المفقود).. ليتهم يغامرون كما غامرت المقاومة كيما ينقلب السحر الاميركي ـ الاسرائيلي على نفسه، وكيما تتغير موازين القوى، وتتبدّل عناصر القوة. مغامرة أسقطت الهيبة، والاسطورة، والغطرسة، حتى باتت إنموذجاً يحتذى، وتنفخ روحاً جديدة في جسد خامل يكاد من فرط هوان الرسمية العربية أن يدمن الهزيمة والخنوع.. لقد وضعت المقاومة اللبنانية على قلة عددها وعتادها القوة الاسرائيلية في حجمها الطبيعي، وحققت بمغامرتها معجزة عسكرية منتظرة منذ أمد طويل.

في المشهد الشعبي العربي سخط عارم يصل الى حد النقمة على من باركوا العدوان ببياناتهم، أو خططوا منذ البداية لضرب المقاومة. لقد بدأت معالم الخيبة على الموقف السعودي بعد أن استوعبت المقاومة اللبنانية الضربة الاولى وبدأت تدير معركتها بذكاء قلّ نظيره، فكانت تختار اسلوب الرد وتوقيته، وتجنّبت رغم الاستفزازات المتواصلة لاستنزاف طاقتها وجهودها في معارك جانبية، ولكنها صمتت بحكمة فأثخنت عدوها بالضربات النوعية التي أذهلته فصار يتصرف بهستيريا عسكرية دفعت به للقيام بسلسلة مجازر متنقلة في القرى الجنوبية وفي البقاع والضاحية الجنوبية من بيروت.

لم يتطلب اختبار حكمة الموقف السعودي من العدوان الاسرائيلي على لبنان أكثر من ساعات قليلة كانت الطائرات الحربية الصهيونية قد بدأت تلقي حممها على المدنيين.. فاجأتنا المعلومات اللاحقة بأن ثمة توافقات أميركية ـ اسرائيلية ـ عربية رسمية تلتقي على هدف مشترك وهو القضاء على المقاومة اللبنانية تمهيداً لتقويض مبدأ الممانعة في العالم العربي، حيث ذكرت تقارير غربية ذكرت بأن السعودية كانت ضمن إتفاق اميركي ـ اسرائيلي لاعلان حرب على المقاومة اللبنانية بدفع من قوى الرابع عشر من آذار الممثلة في وليد جنبلاط ـ سمير جعجع ـ أمين الجميل ـ سعد الحريري، الذين توحدّت مواقفهم جميعاً الضدية منذ الساعات الاولى للعدوان. ولكن تلك التوافقات تمتد الى أبعد من ذلك، وتصل الى المتوافقين أنفسهم، فبينما تلتقي الاطراف كافة على تصفية المقاومة اللبنانية وتالياً الفلسطينية، فإن طرفين أميركي ـ اسرائيلي مدعومين من أطراف لبنانية وسعودية على إدخال سوريا وايران ضمن حرب إقليمية ضيقة، ينفرد الطرف الاميركي في تحقيق هدف صناعة الشرق الاوسط الجديد، الذي يجني ثمار جمعتها الاطراف كافة من توافقات جزئية كتصفية المقاومة اللبنانية وتالياً الفلسطينية وبعد ذلك سوريا وايران.

كانت الحسابات الاميركية والاسرائيلية وكذلك العربية الرسمية وبخاصة السعودية والمصرية والاردنية تعتمد على معلومات قدّمتها قوى الرابع عشر من آذار حول القدرات العسكرية لدى المقاومة اللبنانية، وشكّلت الاساس الذي اعتمدته الدولة العبرية في عدوانها على لبنان، كما شكّلت الاساس في صدور البيان ـ الفضيحة. وقعت الأطراف جميعاً بما فيها الطرفين الاميركي والاسرائيلي في خطأ التقدير كما وقعت الحكومة السعودية ضحية خطأ في الحسابات السياسية ، ثم لحقها خطأ استراتيجي واخلاقي فادح حين تكشّفت خبايا العدوان بكونها جزءاً من مخطط كبير يرمي الى تقويض الكيانات السياسية القائمة وإعادة تشكيل خارطة الشرق الاوسط الجديد على قاعدة الخضوع للولايات المتحدة.

اكتشفت الحكومة السعودية بأنها بلعت طعماً مسموماً بعد أيام من العدوان الاسرائيلي على لبنان، حين لحظت: همجية العدوان، وصمود المقاومة، وانفجار الغضب والتعاطف الشعبي على المستوى العربي والاسلامي الى جانب المقاومة، واخيراً الاعلان عن الاهداف الخفيّة وبعيدة المدى للعدوان..

تدابير الحكومة اللاحقة بوتيرة متسارعة لم تشفع لها في ازالة العار والخلاص من وصمة البيان ـ الفضيحة والمواقف المخزية التي أعقبته، وأطلقت أقلام وأصوات جحفل من الاعلاميين كيما (يرقعوا) موقفاً مخزياً وأن يرتقوا فتقاً واسعاً أحدثه انفلات المسار السياسي السعودي. أخطأ هذا الجحفل كما القيادة التي أوعزت اليه ببدء حملة دعائية في الوقت الضائع، فبدأ يتحدث عن دور دبلوماسي وشعبي للسعودية تحت شعار إخراج لبنان وفلسطين من تلك المحنة التي أحدثتها الغطرسة الاسرائيلية، وبدأوا يتحدثوا عن (سقوط خيار السلام) وهو خيار لم يكن شعبياً في يوم ما، فقد تخلّصت الشعوب من عبء الخيارات الرسمية وقررت بملء إرادتها أن تعتنق خيار الممانعة ضد سياسة الاذلال.

لم تفلح السعودية بماكينة الدعاية التي عملت بلا انقطاع في تحسين قبح الموقف الرسمي السعودي، فراحت تسخر من التحركات الشعبية وتوصمها بأنها مجرد تعبيرات شكلية، وأن السعودية وحدها التي أعطت إنموذجاً للتحرك السياسي والشعبي لصالح وقف الحرب ودعم ضحايا الحرب، فيما كان الجميع يراقب فشل التحرك الدبلوماسي السعودي، كونه يأتي بعد أن دخل الموقف السعودي ضمن عملية الاصطفاف الاميركي والغربي لصالح العدوان الاسرائيلي، ولذلك فقد التحرك السعودي مفعوله وتلاشى بعد مؤتمر روما وبعد قمة الثماني، وأن الدعم المادي الذي تم الاعلان عنه بعد أيام من العدوان لم يكن موجّهاً للضحايا في لبنان بل هو دعم لحكومة نعلم جميعاً بأنها مرتهنة، وأن تلك المساعدات ستجد طريقها الى حلفائها في الحكومة لدعم موقفها لاحقاً، أي بعد مرحلة وقف اطلاق النار، ومع بداية المعركة الداخلية بين الاطراف التي تهدف الى تحقيق مفهوم السيادة على طريقتها الخاصة، وهو أمر استوعبه الضحايا المنتصرون الذين عوّلوا على سواعدهم، ودعم أنصارهم وحلفائهم وشعبهم في الداخل والخارج.

لقد فشلت الحملة الشعبية السعودية لجمع التبرعات النقدية والعينية لصالح لبنان، لعوامل عديدة منها أن السعودية لم تنمي وعياً شعبياً بهذا الصدد، وخصوصاً في وسط القاعدة الشعبية التي تعتمد عليها، وهي القاعدة التي صدر منها فتاوى تدين المقاومة وتبخل عليها بمجرد الدعاء فكيف تقبل بتقديم تبرعات لمجتمع المقاومة المصنّف من الناحية العقائدية مجتمعاً مشركاً أو مبتدعاً.. أما الفئات الاجتماعية الاخرى فليست بحاجة الى دعوة الملك أو غيره للمشاركة في حملة شعبية فلكل طريقته في الدعم والمساعدة، ولا كرامة للحكومة في تنظيم حملة دعم أو مساندة كهذه.

في الاخير، انتصرت مغامرة المقاومة وسقطت حكمة السعودية، وهو درس بليغ لها ولحكومات عربية أخرى راهنت على عدوها في ضرب أحد أبرز مصادر قوتها، وقد ظهر ذلك في لهجة الوفد الرسمي للجامعة العربية الذي انطلق من بيروت الى نيويورك ليسجّل موقفاً مختلفاً على المشروع الاميركي الفرنسي في غياب سعودي واضح وفاضح.

الصفحة السابقة