السعودية والمنظار الطائفي للأزمات الإقليمية

صفاء الصالح (*)

خلال أقل من إسبوع صدرت إشارتان سلبيتان من الخليج، وتحديداً من الدولة الخليجة الأبرز، المملكة العربية السعودية، لتعكس هاتان الإشارتان (هامش) الحركة الذي تنشط فيه السياسة الخارجية السعودية التي تحمل مقوّمات دينية وإقتصادية وتحالفات دولية ترفد دورها الإقليمي.

الإشارة الأولى، حين أوعز الأمير بندر بن سلطان بن عبد العزيز رئيس مجلس الأمن الوطني إلى المستشار الأمني نواف عبيد ليكتب مقالاً يسبق زيارة الرئيس بوش للأردن ولقائه القادة العراقيين، وكذلك يتزامن مع زيارة نائب الرئيس ديك تشيني للرياض ولقائه العاهل السعودي لبحث الوضع في العراق، كانت خلاصة المقال الذي نشرته (واشنطن بوست) الامريكية في عددها الصادر يوم الاربعاء 29-11-2006 أن السعودية سوف تستخدم سلاح النفط لدعم (الميليشيا السنية) المتمردة في العراق، لتقويض هيمنة (الشيعة) هناك. وكان المقال عبارة عن أجندة أفكار أعدّها مستشارو بندر للعاهل السعودي تقضي بمحاصرة النفوذ الإيراني المتمدد في المنطقة وخاصة في العراق ولبنان، وضرب عناصر النفوذ الإيراني، وتمتين تحالف دولي دعت له وزيرة الخارجية الأمريكية رايس يجمع دول الخليج العربية الست بالاضافة لمصر والاردن، وقوى 14 آذار اللبنانية للتصدي للنفوذ الايراني – السوري في المنطقة، قبل أن تتسرب من تحت الباب أفكار أخرى للجنة بيكر – هاملتون تدعو لاستخدام أسلوب أكثر راديكالية وبراغماتية، للحوار مع إيران وسوريا، بل ومنحهما دوراً في المنطقة مقابل التعاون لإيجاد مخرج للورطة الأمريكية في العراق.

السعودية، أرسلت إشارة سلبية لجارتها الإقليمية بأنها غير مستعدة أن تنظر لها إلا من خلال المنظار (الطائفي) وهو نفسه الخيار الذي جرّبته المملكة حين دعمت الرئيس العراقي السابق في حربه ضد إيران، (الشيعية) وأثبت فشله، وهو ذات الخيار الذي دفع القادة في الرياض للطلب من إدارة العسكريين الأمريكيين رفع الحصار عن الحرس الجمهوري العراقي لينقض على المتمردين في جنوب العراق الذين انتفضوا على حكم الرئيس العراقي بعد هزيمته في الكويت، نيسان 1991 ، وفشلت السعودية بسبب رؤيتها (الطائفية) في استيعاب أكثر من 50 الف من اللاجئين العراقيين وكان بينهم ضباط كبار وأكاديميون ومثقفون، الذين نزحوا للسعودية، وتم احتجازهم في معسكرات اعتقال في صحراء رفحا والارطاوية.

فيما بعد حاولت الرياض التملص من تقرير مستشارها الأمني نواف عبيد، وتسريب أنباء أنه تم استبعاده من العمل الحكومي، ولكن عبيد ومعه عدد من الأمنيين يرتبط بعضهم بمجلس الأمن الوطني الذي يديره بندر بن سلطان وهو المسؤول عن رسم سياسة الحكومة السعودية تجاه الحرب الاسرائيلية على لبنان، أو أمنيين آخرين مرتبطين بوزارة الداخلية أو بالاستخبارات يوظّفون عدداً من الكتاب الصحفيين السعوديين، وغير السعوديين، لترويج مقالات تدافع عن السياسة السعودية وتبثّ أفكاراً طائفية ضد خصومها، كان أخر تلك المقالات، مقال نشرته (الشرق الاوسط) (الثلاثاء 5 كانون 1 2006) لمشاري الذايدي يسبغ فيه على رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة قداسة الصحابة، حيث يستعيد من التاريخ موقف الثوار الذين داهموا منزل الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم تسوروا بيته وقتلوه. كان المقال يشير بتقليديته السعودية المعتادة، إلى أن الثوار الشيعة اليوم يحاصرون الصحابي البرئ (السني) طبعاً، فؤاد السنيورة، فالتاريخ يجري هنا استدعاءه لإلباس المشهد الراهن قداسة وهيبة، وكاتب المقال، هو واحد من بضعة سعوديين كانوا وقوداً لتيارات الاسلام السياسي وانخرطوا بداية التسعينات في أعمال سياسية معادية لحكومتهم قبل أن يجري (إعدادهم) في السجون وتأهيليهم لمواجهة التيارات الإسلاموية ذاتها، والدفاع عن (إسلامية) السلطة.. وتم (تهريبهم) من البلاد ليزرع بعضهم في لندن والبعض الآخر في بيروت أو دبي أو الشارقة.

التاريخ كان على الدوام في الرؤية الحنبلية شيئاَ مقدساً، والصحابة الذين اختلفوا وتقاتلوا ينظر لهم كـ(كتلة واحدة) لا يجوز مجرد الخوض في صراعاتهم أو تفكيك أسبابها، حتى لا يرغم الباحث لاتخاذ موقف من تلك الأحداث، ولذلك فمشهد محاصرة الخليفة عثمان هو مشهد مقدس، يجري استدعاؤه اليوم ليضفي هالة روحية على ما يجري في بيروت، لكن ما يجري في السراي الحكومي ليس صراعاً دينياً أو مذهبياً، إنه سياسي بامتياز، وهو ما لا يفهمه العقل الطائفي، أو ما لا يريد أن يفهمه، فالقول أن الخليفة السني محاصر من الرعاع الشيعة يستثير حميات وعصبيات أكثر من كونه فعلاً سياسياً.

هذه الاشارة الثانية الموجهة نحو الواقع اللبناني، تدعمها ما سرّبه وزير الرياضة والشباب في حكومة السنيورة أحمد فتفت إلى صحيفتي (غلوب آند ميل) الكندية و(لوس أنجلس تايمز) والحديث عن مساعي سعودية لتمويل قوات أمن (سنية) لمواجهة النفوذ الشيعي، الوزير استخدم كلمة (ميليشيا) قبل أن يرجع ويسحبها، في الوقت الذي تصر الصحيفة الكندية على ايرادها.

أي هامش للحركة تستطيع السياسة السعودية أن تسير فيه، وهي تعيق نفسها بمثل هذه المبادئ، التي تقوم على تغليب العصبيات على المصالح. الأيديولوجيا التي تعتنقها الحكومة ليس فقط تحد من حركتها، بل وتجعلها منبوذة ومعاقة وغير قادرة على الانجاز.

السعودية كانت تستطيع أن تسترجع دورها كحاضن للوفاق اللبناني بالشكل الذي برز أثناء اتفاق الطائف، لكنها حين استمعت الى آراء خبرائها وبينهم لبنانيون محازبون لتيارات سياسية، فقدت هذا الدور، وبدت غير قادرة على أخذ موقف إزاء الحرب الاسرائيلية المدمرة على لبنان.

الحكومة السعودية، تعرف قبل غيرها قدر الطبقة السياسية الحاكمة اليوم، والعديد من الأمراء والمسؤولين يتحدثون بخفة عن أعضاء وسياسيين في حكومة السنيورة والقوى التي تمثلها، يتحدثون أن دولاً أخذت على عاتقها دعم السنيورة ورفاقه في استوكهولم لم توافق أي منها على إعطائه دولاراً في رصيد حكومته وأصرّت هي ودول أخرى كالامارات وقطر على أن تصرف بنفسها على الإعمار، لانعدام الثقة في هذه الحكومة.

يتحدث مسؤولون سعوديون عن الخفّة التي تتعامل بها الولايات المتحدة مع أصدقائها في قوى 14 آذار وكيف أنها رفضت منحهم أي منجز سياسي ولو شكلي يواجهون به نفوذ حزب الله أو سوريا او ايران.

ردّتهم بدون خرائط ألغام، بدون أسرى، بدون شبر من الأرض، وبدون وقف الطلعات الاسرائيلية، بل أنها تمادت في إحراجهم حين استدعتهم عشية الحرب وتحت القصف لوجبة غداء في عوكر لكي ترجمهم الأعين في بلادهم وكل العالم. وزادت في إحراجهم وإحراج حلفائها في أنحاء العالم حين سلّطت اسرائيل لكي تدمر بوحشية وبربرية غير مسبوقة المنازل والبنى التحتية على طريقة التطهير العرقي الذي يسترضي نخباَ في الخليج، ولكنها في الوقت نفسه دمّرت بوحشية بلداً يمثل طليعة الحداثة والديمقراطية في العالم العربي.

اليوم تعود التحالفات، والوجوه كما هي في حرب تموز، المغامرون ينزلون للشارع، ومولاة أمريكا تتخندق في القصور، ودول النفط تستثير أحقاد التاريخ، وتسلّط أقلامها لاستفراغ الكراهية، ولكن على الارض، لا يمكن لسياسة كسيحة ومقيدة أن تحقق تقدماً.

نخشى على السعودية التي نتمنى أن تستعيد دورها العربي والإقليمي والدولي، من أن تصبح (أرشيفاً) للتاريخ، في حين ينطلق اللاعبون الرئيسيون على كل الأصعدة لإحداث اختراق في منظومة الأمن القومي العربي.


* طبيبة سعودية

الصفحة السابقة