الدولة الطائفية

حين تفقد الدولة قدرة التأثير في الواقع بوسائل مشروعة، وتتنصل من مسؤوليتها كدولة حافظة للحدود وراعية للحقوق، لا تعدو دولة مؤهّلة للاستقرار ولا أمينة على مملتكات وأرواح من يقطنون داخل حدودها، وخصوصاً حين تجترح دروباً وعرة تودي برعاياها في المهالك وترهنهم لمخاطر عاجلة ومستقبلية.

لقد ذكرنا في أعداد سابقة بأن هذه الدولة قامت على قاعدة تقسيم المجتمع ضماناً لوحدة السلطة وتمركزها، وبالرغم من أن رهانها ذاك كان ناجحاً في تحقيق غرض السلطة وليس الدولة أو الوطن اللذين تكبّدا أفدح الخسائر بحيث أننا وبعد سبعة عقود على إعلان المملكة السعودية لم تتوافر شروط الدولة الوطنية، بل هناك ما يؤكد على نزوع أهل السلطة نحو تعزيز عوامل الانقسام الداخلي.

هذا النزوع التقسيمي لم يكن مقتصراً على السياسة الداخلية بل عكس نفسه وبضراوة في السياسة الخارجية. فهذه الدولة لم تحتضن يوماً مؤتمراً للوحدة الإسلامية، ولا للوحدة العربية بل ناهضت في بعض الفترات مشاريع الوحدة بين مصر وسوريا والعراق ودفعت الأموال لأشخاص مثل عبد الحميد السراج في سوريا من أجل تخريب الوحدة المصرية ـ السورية كما تآمرت في بعض المراحل على اليمن لمنع التحام جزئيه الشمالي والجنوبي، وشاركت في مخططات تخريبية في عدد من البلدان العربية بما فيها دول الجوار الخليجي مثل قطر وعمان والإمارات، وامتدّت ذراعها الى قارات بعيدة في أميركا اللاتينية، فضلاً عن مشاريع طائفية في أفريقيا وشبه القارة الهندية.

لقد تعوّدت العائلة المالكة العيش على تناقضات العالم وتفجيرها من الداخل، إن أمكنها ذلك، من أجل تأمين إستقرار آني، وقد أخذت على عاتقها إشاعة الفرقة بين العرب والمسلمين كيما لا تنعم أي دولة بالاستقرار بما يهدد وجودها، أو هكذا تتوهم. فهي تنظر الى الوحدة من أي نوع وطنية كانت أم عربية أم إسلامية خطراً عليها، ولذلك فهي تبدي مهارة فائقة في إدارة وتغذية الفتن الطائفية والمذهبية.

لن نذهب بعيداً لتسليط الضوء على تاريخ الفتن الطائفية السعودية، فما يجري الآن يقدّم صورة صادقة على النزوع التقسيمي على خلفية طائفية لدى العائلة المالكة. ما نراه اليوم، أن السعودية لم تبق دائرة التجاذب السياسي في العراق ولبنان في حدودها الجغرافية والسياسية، فقد تعمّدت تظهير التجاذبات مذهبياً وطائفياً، وشغّلت تارة أخرى الماكينة الاعلامية الضخمة كيما تعيد تطييف الفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي في العالم الاسلامي. كتابات لصحافيين سعوديين في جرائد محلية وعربية وبرامج في قنوات فضائية مملوكة أو مموّلة جزئياً من السعودية ومختارات لمقالات ملغومة منشورة في صحف لبنانية وخليجية يعاد تعميمها في مواقع إعلامية سعودية،

وآخرها تحريك كتائب البيانيين من رجال دين سلفيين متشددين لتدبيج بيانات تحريضية، وزادت على ذلك بأن أعلنت صراحة كما جاء في صحيفة نيويورك تايمز في الثالث عشر من ديسمبر بأنها ستكون طرفاً مباشراً في الحرب الطائفية في العراق في حال انسحاب القوات الاميركية.

من يراقب ما تضخه وسائل الاعلام السعودية هذه الأيام لا يخالجه شك بأن العائلة المالكة تستنفر كتائبها استعداداً لحرب طائفية طائشة، ترتد بنا الى أجواء الحرب العراقية الايرانية الذي كان معول الهدم في بناء الأمة يعمل بجنون. وبرغم النتائج الكارثية التي نجمت عن حرب طائفية لم تحصد منها العائلة المالكة سوى حرباً أخرى كادت أن تقضي عليها وكلّفتها فاتورة مالية باهضة، وشرعت الأبواب أمام الانثيال العسكري الاميركي الكثيف على المنطقة، ولكنها عادت لتتهيأ الآن لاقتراف خطأ تاريخي آخر.

لقد بات واضحاً، أن الطائفية في هذا البلد صنو للغباء السياسي، وهي، أي الطائفية، كفيلة بتحقيق أغبى المشاريع الأميركية في المنطقة، فقد بات معروفاً أن ما لا يتحقق بقوة السلاح ولا بالسياسة يتحقق بدق إسفين الفتن الداخلية التي يراد تحريكها من مكان الى آخر لتأتي على كل الاستقرار في المنطقة برمتها.

ولكن، ومن باب المسؤولية التاريخية والدينية والاخلاقية نذّكر هذه الحكومة كيما تصحو من غفلة قبل أن تدفع أضعاف ما تتوهمه بأنه مكسب لها، فإن ما تقترفه من تجييش طائفي سيرتد عليها في الداخل ويهدد وحدتها وتماسكها خصوصاً حين يتسرّب السيل من تحت الأسوار التي توهّمت يوماً بأنها ستمنع عنها تدفق السيل الطائفي.

من البلاهة أن تفكرّ الحكومة السعودية بأن المخاطرة بالسلاح المذهبي في التجاذبات السياسية في هذا الوقت ستأتي بنتائج إيجابية، فليس هذا السلاح بالذي يمكن البناء على سوابق تاريخية لتفادي تداعياته السياسية والثقافية الاجتماعية أو إدراك مدياته الزمنية، ومن البلاهة أن تحتسب السلاح المذهبي محتكراً بيدها ولن يقع في يد خصمها، ما لم تقرر خوض حرب شاملة ترتد عليها وعلى من تعتبرهم أعداءها.

لقد شقّت الادارة الاميركية إخدوداً في الشرق الاوسط على أساس مذهبي، وتقدّمت بطروحتي المثلث السني (مصر والاردن والسعودية) والهلال الشيعي الممتد من ايران الى لبنان، ثم حضّرت لشعوب هذه المنطقة أجواء الفتنة. لم تكن هفوة عابرة مقولة وزير الخارجية الاميركية الاسبق هنري كيسنجر خلال العدوان الاسرائيلي على لبنان بأن (على الحكومات العربية السنيّة تحمّل مسؤوليتها) في إشارة خطيرة الدلالة الى أن اسرائيل كما عبّر عن ذلك الكاتب اليهودي دانييل بيبس تقوم بـ (حرب قذرة بالنيابة عن الحكومات العربية السنية).

اليوم هناك من يحاول إضفاء صبغة مذهبية على كل مايجري بهدف تحقيق أكبر اصطفاف محلي وخارجي سواء في لبنان أو العراق. لم يعد الأمر سراً، فقد باتت الطائفية دمغة سعودية وكل ما يصدر من بيانات دينية أو مقالات صحافية أو برامج تلفزيونية تنطوي على توجيهات مذهبية علنية كانت أم مكتومة سينظر اليها على أنها موقف رسمي سعودي، وأنها صدرت بوحي ومباركة من العائلة المالكة، وبالتالي فإنها مسؤولة بصورة مباشرة عما يترتب على تلك التوجيهات من آثار سلبية وفي مقدمها سفك الدم أو نشوب الصراعات الاهلية أو وقوع شقاق داخلي وخارجي، بل من حق الحكومات والشعوب المتضررة من جراء تلك التوجيهات رفع دعاوى قضائية عليها بتهمة التحريض على القتل العمد.

الصفحة السابقة