من أفغانستان الى لبنان

نجد وتصدير يوتيبيا (الإمارة الاسلامية)

سعيد الشريف

تفتقت أنوية الإمارة الإسلامية في العقد الأخير من قندهار أفغانستان، وامتدت إلى أنبار وديالى العراق، ورقّة سوريا، وغروزني الشيشان، وقبائل الجزائر وأخيراً طرابلس لبنان..نماذج تستعيد نظام الإمارات التي تشكّلت في التاريخ الإسلامي داخل الخلافة العباسية، ومثّلت إنشقاقات داخلية في عملية بعثرة للكيان الكبير، ولكنها اليوم تتم في إطار الدول القطرية كتعبير إحتجاجي على تكوين الدولة وتهديد لمصيرها، فيما يتلبّس التمرد عليها مفهوم إعادة تشكيل الأمة الاسلامية على قاعدة الخلافة بعد أن تعذّرت إمكانية إصلاح نظام الخلافة. وقد يشكّل هذا التمرّد المتمدد مؤشراً على الإنقسام العميق داخل المجتمعات الاسلامية على قاعدة أيديولوجية، حيث بدأت الجماعات ذات اللون العقدي المتماثل في إقامة كيانات مستقلة تقيم عليها سلطانها، بمعزل عن المركز، وربما تمهيداً للانقضاض عليه في وقت لاحق، أو إجباره على اقتفاء املاءاته.

يعيد هذا التحوّل الخطير في المشهد السياسي الحالي إحياء التجربة السعودية الاولى، حيث أقامت الوهابية إمارة لها في الدرعية وسط الجزيرة العربية وانطلقت في مشروع سيطرة على منطقة نجد ثم تمدّدت تحت ذريعة نشر الدعوة، وتطهير باقي المناطق من عبادة الأوثان، والشرك، والشعوذة والسحر، لتفضي إلى ابتلاع باقي المناطق.

فبعد أن استقر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في الدرعية في منتصف القرن الثامن عشر، بدأ في استقطاب وحشد الأتباع الذين فتحوا الطريق أمام تحالف تاريخي عقد بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والحاكم محمد بن سعود، وكان الأخير يحلم بمشروع عسكري طموح، للسيطرة على إقليم نجد.

قبل نزوحه الى الدرعية، كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يتمتع بحماية عثمان بن معمر، أمير العيينة، الذي طرده منها بطلب من أمير بني خالد سليمان بن محمد الذي كان يزوّده بالمساعدات ويؤمّن له طرق التجارة، وهو أمر لم يغفره الشيخ محمد بن عبد الوهاب لاحقاً لعثمان بن معمر، فيما يرجع باحثون آخرون السبب الى الممارسات الاستفزازية التي قام بها الشيخ ابن عبد الوهاب، حين أقدم على تنفيذ حد الرجم في إمرأة، وكان يميل الى تحويل العيينة، مسقط رأسه، إلى نواة إمارة إسلامية عبر تطبيق الشريعة.

كان انتقال الشيخ بن عبد الوهاب من العيينة الى الدرعية بعد توافقه مع حاكمها على تقاسم السلطتين الزمنية والدينية، تجسيداً لمفهوم الهجرة وإيذاناً بإقامة (دار هجرة وإسلام)، وأوحى إلى أنصاره بالهجرة إليها، الذين تقاطروا مثنى وثلاث ورباع الى الموطن الجديد، الذي سيكون قاعدة إنطلاق مشروع الامارة الاسلامية. وبطبيعة الحال، لم تتم تلك الهجرة بصورة سلمية، فقد اكتسبت مشروعيتها وزخمها الايديولوجي من واقع أزمة عاشها الشيخ بن عبد الوهاب في علاقاته مع المحيط الاجتماعي الذي كان يعيش فيه. ويحلو للمؤدلج الوهابي أن يصوّر نزوح الشيخ بن عبد الوهاب وأنصاره من العيينة الى الدرعية بوصفها هجرة دينية، على غرار هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة الى المدينة.

وهكذا، وجد الشيخ بن عبد الوهاب في الدرعية ملاذاً آمناً لشخصه وأنصاره وأيضاً مشروعه السياسي، وبقي هناك يغذي أنصاره بتعاليمه الجديدة، ويكتب على طريقة النبي المصطفى الرسائل الى رؤوساء القبائل والبلدان وكذلك العلماء ويبعث الوفادات الى المناطق يدعوهم للإنضواء تحت لواء دعوته، محثوثاً بعقيدة أن ما هم عليه باطل ولابد من إصلاحه. وقد دافع أتباعه المتأخرون عن نهجه التغييري، فنفوا عنه مبادرته بالتكفير، أو العدوان على المناطق الأخرى، ولكن كتابات الشيخ بن عبد الوهاب والمؤرخين لسيرته الفكرية والسياسية تعطي ملامح واضحة لرؤيته وموقفه الأيديولوجي من المخالفين له، وقد ذكر إبن غنام بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بايع الأمير محمد بن سعود على الجهاد، في مبتدأ وصوله الى الدرعية، وقد وعده بالنصرة والجهاد. ولم يكن ذلك الوعد ممكناً لو لم يكن مؤسساً على رؤية عقدية مستمدة من عقيدة (الولاء والبراء)، أي الولاء للمسلمين والبراءة من الكفار والمشركين، القسمة التي تكتسب معنى خاصاً لدى الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث يكون المسلم من اعتنق تعاليمه والمشرك من نبذها أو تخلى عنها، حيث أباح لأنصاره غزو المناطق المجاورة وقتل رجالها وسبي نسائها ومصادرة أموالها.

المانوية الوهابية

قدّر للمشروع السياسي الوهابي أن يتوقف نجاحه على قسمة أيديولوجية ذات طبيعة مانوية، تفلق العالم الى معسكرين: مسلمين وهم العصبة المؤمنة بتعاليم الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والكفار من أهل الكتب وغيرهم والمشركين المرتّدين الى الجاهلية الأولى من المسلمين. وكانت القسمة هذه تقضي بالعزلة النفسية والأيديولوجية وتالياً الجسدية عن (المجتمع الجاهلي)، في شكل من أشكال التمرّد السلمي في مرحلته الأولى تمهيداً لتأهيل نواة المجتمع المضاد، الإسلامي، المتشبع بتعاليم التوحيد وفق التفسير الوهابي.

ونجد أن فكرة تكفير المجتمع التي ألصقت بالسيد قطب كما ورد في كتابه الشهير (معالم في الطريق) أو تفسيره (في ظلال القرآن)، تبدو متأخرة بنحو قرنين عن الأفكار الأولى التي أطلقها الشيخ محمد بن عبد الوهاب، والتي نجدها اليوم متجذّرة في أدبيات وسلوك الجماعات المنبعثة من (شبكة القاعدة) والتي تأخذ مسميّات مختلفة، تشرّبت هذه الجماعات عقيدة (الولاء والبراء)، وجسّدتها من خلال عزلة نفسية وأيديولوجية وجسدية عن المحيطات الاجتماعية التي نشأت بداخلها، تمهيداً للإنقلاب عليها وضمّها الى (الإمارة الاسلامية).

ونلقت الى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب طوّر فكرة الخروج لدى الشيخ إبن تيمية ليرفقها بمشروع سياسي طموح يتعزز بتوسعة إطار (التكفير) بحيث يستوعب المجتمع، ويسقط مفهوم وحدة المجتمع القائمة على وحدة السلطة، إذ أن الوحدتين باتتا من المنظور العقدي عقيمتين وباطلتين من المنظور الشرعي، ولابد من إحداث تغيير شامل، بما يخلي مسؤولية الداعية من الوقع في محذور (الخروج عن الجماعة)، إذ ليست الأخيرة مؤسسة على مفهوم التوحيد، وبالتالي فإن لا طاعة ولا جماعة تلزمان الأتباع.

يضعنا ما سبق في التورخة التي يضعها التيار السلفي الجهادي لنكبة الأمة الاسلامية التي لم تقع، في حسابات الوهابية والجماعات السلفية الجهادية التي تبنّت مشروع (الإمارة الإسلامية)، في 5 حزيران 1967، حيث خسر العرب الحرب مع الدولة العبرية بطريقة مهينة، وسقطت الضفة الغربية وسيناء والجولان تحت الاحتلال الاسرائيلي، كما لم تقع في 24 مارس 1924، أي يوم إعلان نهاية الخلافة العثمانية، التي لم تكن تحظى بالدمغة الإسلامية في الأدبيات السلفية الوهابية، بل تعود الى مرحلة سقوط بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، في 4 صفر سنة 656هـ/10 فبراير 1258م. فهذه الجماعات تستلهم من الشيخ ابن تيمية تعاليمها الدينية ورؤاها الأيديولوجية والسياسية في اعتبار سقوط الخلافة العباسية، نكسة للنموذج التاريخي للدولة الدينية المثالية التي تتطلب إعادة تشكيل الأمة الاسلامية على قاعدة تطبيق الشريعة الاسلامية وفق الإجتهادات الخاصة بالمدرسة الحنبلية التي يمثل ابن تيمية أول وأبرز مطوّريها.

لاشك أن تعاليم إبن تيمية مثّلت مصدر إلهام للشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي وظّفها في صوغ منهج إنقلابيٍ في التغيير، يقوم على تحويل القوة الى عنصر تمكين وحيد في انعقاد الامامة، فمن حاز على الغلبة بات حاكماً شرعياً، بصرف النظر عن الوسائل التي أوصلته، طالما أن الغلبة تكون مدخلاً لإقامة الحكم الشرعي. فقد تساءل بإستغراب زعيم تنظيم القاعدة في العراق أبو أيوب المصري أو أبو حمزة المهاجر في كلمة الى الشعب العراقي (نشرت في 17 مايو 2007): (فهل يضركم يا عباد الله أن نحكمكم بالإسلام؟). فهذه الجماعات تحمل السلاح للخروج على المجتمع والدولة معاً لإقامة (الإمارة الإسلامية)، وقد أجاز ابن تيمية الخروج على الإمام الذي لا يمتثل للشريعة.

وهنا لفتة تيولوجية ضرورية، إذ تلفت الى جوهر الفكرة المركزية لدى إبن تيمية بخصوص السلطة الشرعية، ونتذكر بأنه ولد بعد سقوط الخلافة العباسية أي في سنة 661هـ، ما يعني أن المشروعية الدينية والتاريخية سقطت بسقوط بغداد، ولذلك لم يجد ضيراً في نشوء كيانات متعددة حتى داخل الدولة الواحدة، بما يؤسس لفكرة التمرد والخروج عليها، وكان يرى الخروج على الحاكم غير الملتزم بتطبيق الشريعة.

وربما تكون هذه الفكرة قد نبهّت الشيخ بن عبد الوهاب الذي ترك حفنة قليلة من الكتابات ذات الطبيعة العقدية المبحوثة سابقاً، لاستدعاء تراث الإمارات في تاريخ الخلافة العباسية، حيث يتوارى المثال ـ الخلافة خلف الواقع ـ الإمارة التي تتحول الى قاعدة حاكمة، ينطلق منها الى إقتفاء الرؤية العقدية الحنبلية في التعضيد المفتوح لموقعية الحاكم بوصفه إماماً مطلق الصلاحية والسلطة. يقول الشيخ ابن عبد الوهاب: (الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلّب على بلد ـ أو بلدان ـ له حكم الإمام في جميع الأشياء ولولا هذا ما استقامت الدنيا، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد..) (أنظر: الدرر السنية في الأجوبة النجدية، 7/239)

ومع ذلك، وبالرغم من أن الشيخ بن عبد الوهاب يسبغ، نظرياً على الأقل، أهمية مستقلة لموقع الإمام/الحاكم، إلا أنه لم يجسّده على أرض الإمارة التي أقامها في الدرعية. فقد تقمّص بصورة منفردة دور الإمام/الحاكم، ولربما هو ما يستحضره علماء التيار السلفي الحالي، من بينهم الشيخ ناصر العمر، الذي كتب عن خضوع الأمراء لولاية العلماء، في تأصيل لنقاش دار بين الشيخ عبد الله التركي والملك عبد الله العام 2005.

وقد كتب عثمان بن بشر في (عنوان المجد في تاريخ نجد) عن سلطة الشيخ ابن عبد الوهاب بقوله (إن الحل والعقد والأخذ والعطاء والتقديم والتأخير كان بيد الشيخ، ولا يركب جيش ولا يصدر رأي من محمد (ابن سعود) وعبد العزيز، إلا عن قوله ورأيه). وحتى بعد فتح الرياض، ونقل الشيخ بعض الصلاحيات إلى الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود، إلا أن ذلك لم يخفّض من سلطة الشيخ فما كان يقطع عبد العزيز (أمراً دونه ولا ينفذ إلا بإذنه)، بحسب إبن بشر، وذهب مؤلف (لمع الشهاب) مذهبه.

لاشك أن هذا التحوّل المفاجىء في ميزان القوة لصالح الشيخ ابن عبد الوهاب يمكن إرجاعه الى الوعود المأمولة من مشروع الدولة، وخصوصاً بعد أن نجح في أسلمة الدرعية وتحويلها إلى (دار هجرة) لتكون مقلعاً لكيان كبير. وفيما وافق الأمير على التخلي عن ثنائية السلطة في المرحلة الأولى، فإن هذ القسمة قد تحلّلت بصورة نهائية في الدولة السعودية الثالثة، وهو ما جعل علماء المدرسة السلفية يعبّرون بحسرة، في مناسبات عدّة، عن ضياع مجد كان قد بشّرت به تجربة مؤسس المذهب، فيما تسعى الجماعات السلفية المسلّحة المشتقة من القاعدة الى إعادة الحلم، عبر تأسيس نظام (الإمارة الإسلامية) التي تتوحد فيها السلطتان الروحية والزمنية.

في التجربة السعودية الأولى، وفي ظل كيانات إماراتية متماسكة في منطقة نجد، كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب بمسيس الحاجة إلى (إقليم) يقيم عليه إمارته الإسلامية، ويتقوّى بها لنشر دعوته وبسط سيادته والتمدد إلى المناطق المجاورة. لم يكن أمامه سوى إبرام تحالف مع أمير محلي ومبايعته على النصرة والجهاد، وبينما كانت محاولة التحالف مع أمير العيينة عثمان بن معمر فاشلة، حقق التحالف مع أمير الدرعية محمد بن سعود هدفه بسهولة. وكان الشيخ بن عبد الوهاب لجأ إلى بيت أحد أنصاره في الدرعية، بعد أن طرد من العيينة، ولم يكن أمير الدرعية على علم بقدومه. وقد بادر صاحب البيت الشيخ عبد الله بن سويلم إقناع أخوة أمير الدرعية وزوجته بمفاتحة الأمير بزيارة الشيخ بن عبد الوهاب كموقف رمزي وإشارة إيجابية إزاء قدومه وترحيباً به وتأييداً لدعوته. وافق الأمير على طلب أخوته وزوجته، وقام بزيارة الشيخ بن عبد الوهاب، ونقل عنه قوله له:(إن هذا دين الله ورسوله الذي لا شك فيه، فأبشر بالنصرة لك ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد). ورد عليه الشيخ :( وأنا أبشّرك بالعز والتمكين والنصر، وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن تمسّك بها وعمل بها ونصرها، ملك البلاد والعباد، وأنت ترى نجد كلها وأقطارها أطبقت على الشرك والجهل والفرقة والإختلاف والقتال لبعضهم بعضاً، فأرجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمون وذريتك من بعدك). فطلب ابن سعود من الشيخ المبايعة، فبايع الشيخ على ذلك، وعلى (أن الدم بالدم والهدم بالهدم)، وعلى أن الشيخ لا يرغب عنه إن أظهره الله.

وبالرغم من التحفظ على الصيغة التي نُقلت عن طبيعة الإتفاق الذي تم بين الشيخ والأمير، حيث لا مصادر نزيهة تؤكّد هذا النص، فضلاً عن كونه يتغذى، بحسب فحواه، على اليوتيبا الدينية المثالية، وحيث لم ينقل هذا النص عن شهود حضروا اللقاء، ولم يسجّله طرفا الإتفاق إلا أنه كان ينطوي على مخطط إستراتيجي كبير. بكلمات أخرى، ومهما يكن إنضباط وتماسك النص، فإن التحالف بين الشيخ والأمير كان تاريخياً، كونه مهّد السبيل لإقامة إمارة إسلامية وتالياً دولة دينية يتقاسم سلطانها الشيخ والأمير، حيث يزوّد الشيخ السلطة بالمشروعية الدينية فيما يزوّد الأمير الشيخ بالقوة والحماية.

وقد مهّد التحالف الديني السياسي إلى تأسيس نواة كيان جيوبوليتيكي موحّد، أقام عليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب إمارته الاسلامية، حيث طلب محمد بن سعود من الشيخ بعدم مغادرة الدرعية، خشية انفراط عقد التحالف، ووافق حاكم الدرعية على تطبيق الشريعة الاسلامية وفق رؤية الشيخ ابن عبد الوهاب، الذي قبل البقاء بالدرعية على أن يتخلى الحاكم عن فرض الضرائب على السكان، بعد أن وعده الشيخ بالحصول على مغانم كثيرة من الغزوات التي يجري الإعداد لها على المناطق المجاورة، على أساس أن الأخيرة مأهولة بالمشركين الذين تجوز مصادرة أموالهم وممتلكاتهم، بوصفها غنائم حرب.

الإمارة الإسلامية النجدية

قسّم الشيخ ابن عبد الوهاب العالم الى دارين: دار إيمان أو إسلام، ودار كفر أو حرب. ومثّلت الدرعية دار الاسلام، التي تحوّلت الى أول إمارة إسلامية تقام في الجزيرة العربية تمهيداً لإقامة الخلافة الاسلامية.

وقد أملى تأسيس الإمارة الإسلامية في الدرعية قطع السبيل على أشكال التحالف القائمة بين الدرعية وما جاورها، فقد فرضت الإمارة هذه قواعد جديدة صارمة لا تقوم على مبدأ التسويات السلمية، أو العلاقات المتكافئة، أو المصالح المتبادلة، بل كانت تملي تنازل الآخر ورضوخه الطوعي أو القهري للكيان الجديد. وتم تطبيق هذه القواعد منذ أول احتكاك خارجي بين الدرعية والإمارات المجاورة، فقد بدأ مشروع الغزو على قاعدة أيديولوجية يكتسح المجال الجغرافي الحيوي للجزيرة العربية ويقضمها لتكون جزءً من الإمارة الاسلامية. فقد كان حاكم العيينة عثمان بن معمر حليفاً إستراتيجياً للدرعية، وكان أمراؤها مرتبطين قرابياً مع آل سعود، بل كان إبن معمر يزوّد الدرعية بالمحاربين، ولكن لم تشفع له تلك الروابط في النجاة من بطش حكّام الإمارة الإسلامية الوليدة، فقد واجه إبن معمر تهمة التواطؤ مع حاكم الأحساء محمد بن عفالق لإطاحة نظام الإمارة الإسلامية في الدرعية، فبعث إليه الشيخ بن عبد الوهاب في يونيو 1750م من يقتله وهو في المسجد، وعيّن على العيينة مشاري بن إبراهيم بن معمر، المقرّب من حكّام الدرعية، ثم أقدم الشيخ بن عبد الوهاب على إقالته وفقدت العيينة استقلالها بصورة نهائية بعد أن أصبحت جزءً من الإمارة الاسلامية، فيما نقل الشيخ بن عبد الوهاب حاكم العيينة مشاري بن ابراهيم بن معمر وأسكنه الدرعية مع عائلته، وعين حاكماً من قبله عليها، فيما أصدر الشيخ بن بن عبد الوهاب أمراً بتدمير قصر آل معمر ومصادرة ممتلكاتهم فور وصوله الى العيينة، مسقط رأسه.

حاولت بعض الإمارات الصغيرة في نجد مثل منفوحة وحريملا وضرمى التي تحالفت مع المشروع الوهابي مقاومة مشروع الإلحاق بالدرعية في الفترة ما بين 1750 ـ 1753. ولعب الشيخ سليمان، شقيق محمد بن عبد الوهاب دوراً مركزياً في التحذير من النوايا المبيّتة لمشروع أخيه، وقد صنّف كتاباً بعنوان (الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية)، ونقل الشيخ أحمد زيني دحلان في كتابه (الدرر السنيّة في الرد على الوهابية ص 42) أن الشيخ سليمان سأل أخاه: كم أركان الأسلام؟ فأجابه: خمسة، فقال: أنت جعلتها ستة، السادس: من لم يتبعك فليس بمسلم هذا عندك ركن سادس للإسلام.

وبعث الشيخ سليمان الى علماء نجد رسائل ينكر فيها على إجتهادات أخيه، وأحدثت ردود فعل غاضبة في العيينة وشهدت بوادر إنتفاضة على الحركة الوهابية، الا أن الأخيرة نجحت في إخماد الانتفاضة، وفرضت سيطرتها على حريملاء في سنة 1755، فيما لاذ الشيخ سليمان بالفرار الى سدير.

وكانت الرياض ذات الخمسين بيتاً حينذاك، المنافس الرئيسي للدرعية، التي اكتسبت زخماً إستثنائياً منذ أن شهدت تحالفاً إستراتيجياً بين الشيخ والأمير، وأسست لنواة الإمارة الاسلامية بحسب المعايير الوهابية. وتقليدياً، كانت الدرعية والرياض تعيشان تنافساً ضارياً وخاضا غزوات متبادلة، وكان أمير الرياض دهّام بن دوّاس، المنافس الأكبر للسعوديين والوهابيين، نجح في تشكيل تحالف مناطقي ضمّ الوشم وسدير وثادق وحريملا. ترافق ذلك مع ظهور مشروع مضاد قادم من الشرق، وتحديداً من قبل حاكم الأحساء عريعر بن دجين، الذي حاول في 1750م بإحداث إختراق عسكري في نجد ولم تنجح المحاولة.

إنهارت التجربتان السعودية الأولى والثانية بحسب توصيف علماء المدرسة الوهابية بسبب القطيعة بين الملك والدين، أي سقوط مشروع (الإمارة الاسلامية)، وحاول العلماء المتحدّرون من آل الشيخ إحياء تجربة الإمارة الاسلامية إلا أن الصراع على السلطة داخل البيت الحاكم وغياب شخصية كاريزمية حاسمة أحبط محاولات العلماء، وهو ما نبّه الملك عبد العزيز الى مكمن الخلل الجوهري الذي أفنى مشروع الإمارة الاسلامية، الأمر الذي دفعه الى توفير ضمانات إضافية. وقد أنعش ظهور عبد العزيز على المسرح السياسي في الجزيرة العربية في بداية القرن العشرين تطلّعات علماء الدين في نجد، حيث ما لبثت الأخيرة تشهد فصول تجربة جديدة لولادة (الإمارة الإسلامية) والتي أخذت منحى تصاعدياً بعد إحتلال الرياض العام 1902 على يد عبد العزيز وأنصاره بدعم من حاكم الكويت.

تبلورت فكرة (الإمارة الإسلامية) بعد إنشاء أول هجرة في ديسمبر 1912 في الأرطاوية التي وصفها ديكسون بـ (وكر صغير للوهابية)، والتي ضمّت المحاربين الجدد الذين خضعوا لدورة أيديولوجية على تعاليم الشيخ عبد الكريم المغربي. وبدأت حركة الأخوان تأخذ شكل التنظيم العسكري تحت قيادة المغربي ثم فيصل الدويش، زعيم قبيلة مطير، ونظّمت سلسلة غزوات على المناطق المجاورة، في سياق إقامة (إمارة إسلامية)، فكان الأخوان يرفضون الإنصياع لأية سلطة من خارجهم، وقد أثار ذلك هواجس عبد العزيز الذي أعجب بالروح القتالية لدى عناصر الحركة خصوصاً بعد استيلائه على الأحساء العام 1913، حيث كان الأخوان على استعداد لمواصلة القتال الى حيث تصل خيولهم، فكان عبد العزيز قد وضع رهانه العسكري على كاهل هذه الحركة بشرط ألا تنقلب على حكمه، وألا تمضي الى حيث تؤدي الى تهديد تحالفاته الخارجية، أو إثارة القوى الدولية (العثمانية والبريطانية بصورة خاصة)، وهي أخطاء أدّت الى إنهيار التجربة السعودية الثانية. ونلحظ بعد سقوط الأحساء أن عبد العزيز بدأ يتقمص شخصية السياسي مع مسحة أيديولوجية باهتة، خصوصاً وأنه خشي بأن يكون غزو الاحساء مغامرة عسكرية، وخشي من رد الفعل البريطاني بدرجة أساسية، فهو وسط جيشه العقائدي إماماً للمسلمين، ولكنه رجل سياسة حين يتعلّق الأمر بالمعادلات السياسية وحسابات الدول.

بالنسبة لحركة الأخوان، فإن الأمر متعلق بمشروع ديني يسمح بغزو كل أرض يقطنها، وفق رؤيتهم العقدية، مشركون مرتّدون، على أمل تشييد نموذج (الإمارة الإسلامية). وكان يدرك عبد العزيز بأنه سيواجه في يوم ما خطراً داخلياً يتمثّل في جيش الأخوان، برغم حاجته الملحّة اليه لتحقيق مشروعه السياسي، وهي صورة نكاد نراها تتكرر في الجماعات السلفية التي ظهرت في أفغانستان والعراق وصولاً الى لبنان، حيث أن طموحات هذه الجماعات وإن تقاطعت مع أهداف حكومات أو قوى سياسية معينة لم تبدد خوف الأخيرة من إنقلاب تلك الجماعات على رعاتها، في رد فعل على الإحساس بالخديعة أو بلوغ أجندتي الفريقين نقطة القطيعة.

مصير العلاقة بين الاخوان وعبد العزيز تحدّد منذ نجاح الأخير في تغيير وجهة الأخوان عبر استيعابهم في مشروع (الهجر) المؤلفة من مائة وإثتين وعشرين هجرة، في عملية إعادة تأهيل عناصر الأخوان، الذي أدى الى تفتيت البنى القبلية، بدأت بعملية تغيير الموطن، والحرفة من الرعي الى الزراعة، وصولاً الى تغيير الأجندة السياسية.

وقد مهّد هذا التحوّل الهيكلي في جيش الأخوان إلى زيادة وتيرة الحملات العسكرية على المناطق المجاورة، بعد أن إطمأن الملك عبد العزيز الى خضوع الأخوان تحت إمرته، وانطلقت جيوش الأخوان في عمليات عسكرية دموية تحت شعار (من عادى آل سعود يعادي الله، فخذ عدو الله لعهد الله واغدر به). ودخل الأخوان الى مكة المكرمة والمدينة المنورة دخول الفاتحين، مستلهمين من تاريخ الفتوحات الإسلامية في القرن الهجري الأول، وقاموا بما وصف تطهيراً للمدينتين من مظاهر الشرك وتحطيم الآثار التاريخية والدينية في هاتين المدينتين.

وكان قادة الأخوان وخصوصاً فيصل الدويش وسلطان ابن بجاد اللذين قادا جيش الاخوان الذي دخل الحجاز، متمسّكين بخيار الجهاد وتوسيع رقعة (الإمارة الإسلامية) بحيث تطال دول الجوار، وكان يصطدم خيارهم دائماً بمعادلات إقليمية ودولية لا تسمح بأي خرق للخارطة الجيوسياسية التي رسمها المندوب البريطاني برسي كوكس. وفيما كان الدويش وابن بجاد يطمحان لنيل مواقع متميّزة في الدولة الجديدة، مثل وزارة الدفاع أو إمارة مكة، وهو الحلم الذي راود زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن بعد عودته من أفغانستان، قرر عبد العزيز أن يستعين بالعلماء لتصفية القادة والعناصر الفاعلة في جيش الأخوان حيث خاض عبد العزيز بمساعدة القوات البريطانية معركة السبلة العام 1929، وتم القضاء على جيش الأخوان.

قيام الدولة وسقوط الإمارة

كان القضاء على جيش الأخوان بمثابة زوال العقبة الأخيرة أمام نشأة الدولة السعودية بحدود ثابتة في سنة 1932، بعد أن تم إدماج فلول من جيش الأخوان في مؤسسة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوة ذات وظيفة مزدوجة: إجتماعية/إخلاقية وسياسية/أمنية.

وبالرغم من أن قيام الدولة السعودية أجهض مشروع (الإمارة الإسلامية) مع اختلال ميزان القوى الداخلي، حيث فقد العلماء القدرة على مضاهاة سلطة آل سعود التي تنامت بوتيرة متصاعدة في سياق تزايد قوة الدولة نفسها، والدعم الدولي الذي تحقّق على خلفية مصالح حيوية وجدت فيها القوى الكبرى مسوّغاً لعقد تحالف إستراتيجي مع العائلة المالكة.

ولكن حلم (الإمارة الإسلامية) الذي راود الأخوان الأوائل قدّر له الإنبعاث مجدداً وسط الأخوان الجدد بقيادة جيهمان العتيبي، كما قدّر لأن تكون مكة المكرمة قاعدة لتحقيق الحلم ـ الإمارة الإسلامية. فقد بدّل الأخوان الجدد وظيفتهم الاحتسابية على نحو عاجل، لينخرطوا في مشروع سياسي كبير يبدأ بعنوان إصلاح الدولة، وتطبيق الشريعة ويصل ذروته بإقامة نظام الإمارة الإسلامية، كما أرسى جهيمان بناها الأولية في رسالته (الإمارة والطاعة والبيعة)، حيث حدد شروطاً ثلاثة للإمام: الاسلام، القرشية، تطبيق الشريعة.

انتفاضة الأخوان بقيادة جهيمان العتيبي في ديسمبر 1979 لم تحقق أهدافها، وقد استعانت العائلة المالكة بالعلماء لإصدار فتاوى دينية ترفع عنهم الغطاء الشرعي، وبالقوات الأجنبية الفرنسية بصورة محدّدة التي قامت بقصف بعض أجزاء من الحرم المكي وأغرقته بالمياه ثم أوصلتها بأسلاك كهربائية من أجل إجبار عناصر الحركة الخروج من أروقة الحرم المكي. وهكذا، نجحت العائلة المالكة في القضاء على ما عرف لاحقاً بـ (إنتفاضة الحرم)، وتصفية قياداتها بطريقة شرسة، إلا أن المبادىء التي حملها جهيمان لقيت أرضية خصبة تنمو فيها، ولحظنا كيف أن ذات المبادىء قد أدمجت في خطاب التيار السلفي المنفصل عن الجسد الديني الرسمي، وهي ذات المبادىء التي حملها عناصر القاعدة الذين باتوا يقتفون أثر تجربة الشيخ إبن عبد الوهاب في بناء نموذج (الإمارة الإسلامية) في البقاع التي يعقدون الراية فيها لقيادات منهم. فهو النموذج الذي أقامته حركة طالبان في أفغانستان انطلاقاً من قندهار، وتكرر في مناطق أخرى مثل الشيشان التي لم يكن قائد النضال فيها شامل باسييف قد تعرّف على فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى قدومه الى ولاية خوست الأفغانية العام 1994 حيث التقى مع عناصر سلفية وسعودية غذّت مشروعه الجهادي بأفكار طموحة، التي وجدت أصداء لها في بعض مناطق آسيا الوسطى، وصولاً الى المجال الروسي.

الانبعاث اليوتيبي.. حلم (الإمارة الاسلامية)

كانت الحرب على العراق التي أدت الى سقوط نظام صدام حسين في التاسع من أبريل 2003 قد فتح الطريق المسدود أمام مشروع القاعدة بعد الضربة القاصمة التي تعرّضت لها في أفغانستان العام 2002، والتي أدّت الى إسقاط (إمارة طالبان الإسلامية)، حيث تم اختيار العراق بديلاً إضطرارياً، كبقعة أرض تم الإعلان على أرضها (دولة العراق الإسلامية) في مارس 2007. نشير الى أن نقاشاً حامياً جرى بين قادة هذه الدولة لحسم الجدل حول المصطلح المناسب (إمارة أم دولة). وقد ورد في بيان للقاعدة في العراق بعنوان (كلمات في نصرة الدولة العراقية الإسلامية). وبجانب الأسئلة التي أثارها عناصر التنظيم، فضلاً عن التنظيمات الأخرى، حول إعلان الدولة، فإن قيادة القاعدة إضطرت الى كتابة رسالة مطوّلة ترجع في تأصيل موقفها الى مصنّفات حنبلية ووهابية. فقد اعتبر البيان أن الدولة هذه (لقب لهذا الكيان السياسي والإجتماعي للمجاهدين والمسلمين أهل السنة في هذا القطر من بلاد الإسلام)، بحسب نص البيان. وفي إجابة عن السبب الذي دفع قيادة التنظيم إختيار لقب الدولة، أو بحسب البيان (لماذا لم يسموّها إمارة واختاروا تسميتها دولة؟)، فأجاب البيان بأن (هذا كله مقام اجتهاد)، مبرراً ذلك (أن إخواننا لهم مزية المعرفة ببواطن الأمور وعميق الظروف والمعطيات على الأرض..) ولكنه عاد واستدرك بالقول (أن لفظ الإمارة له ما يرجحه من النظر..)، ولكن البيان أرجع ترجيح مصطلح الدولة الى تفادي الوقوع في ما يمكن وصفه بـ (شبهة شرعية)، أي أن تكون الإمارة دالة على إقامة الإمامة العظمى أو الخلافة، حيث تتطلب وجود أمير للمؤمنين يحظى بإجماع الأمة، بالرغم من أن القاعدة قد أسبغت على شخصية غير معروفة مثل الملا محمد عمر صفة (أمير المؤمنين).

في المقابل، قررت المجموعات القاعدية التي وضعت أنوية إماراتها الإسلامية في سوريا ولبنان وفلسطين وربما مناطق أخرى لم يتم الاعلان عنها، قرّرت أن تتخلى عن منصب أمير المؤمنين وتكتفي بصفة (الأمير) التي تنطبق على أمير الجماعة فإذا تحققت (الإمارة الإسلامية) أصبح الحاكم عليها أميراً للقاطنين داخل تخومها، ضمن عقيدة التمكين، التي تقوم، بحسب العقيدة الحنبلية/الوهابية، على أن شرعية الحكم وإمرة المؤمنين تتحقق بالغلبة والمكنة، فكلما توسّعت رقعة الهيمنة إمتدت سلطة إمرة الحاكم ـ أمير المؤمنين.

التحقيقات التي أجريت في يونيو الجاري مع ثلاثين عنصراً من (فتح الإسلام) خلال معارك نهر البارد في الشمال اللبناني كشفت عن أن قيادة المجموعة عقدت العزم على تنفيذ خطة رقم (755) لإنشاء (الإمارة الإسلامية في طرابلس) حسبما جاء في جريدة السفير البيروتية في الثاني من يونيو الحالي نقلاً عن مصادر التحقيق اللبنانية.

ومن الثابت في أدبيات (الإمارة الإسلامية) وفق العقيدة السلفية المتطوّرة، أن هذه الإمارات الاسلامية تمثل أنوية تخصيب لمشروع ما أسماه بيان القاعدة في العراق (دولة الإسلام الكبرى والخلافة الراشدة). وأن هذه الإمارات تكتفي بتطبيق الأحكام والحدود، وإعادة تأهيل المجتمع على قاعدة دينية، هكذا هي سيرة التنظيمات القاعدية في ديالى ـ العراق، والرقة ـ سوريا، والقبائل ـ الجزائر، وطرابلس ـ لبنان، ونابلس ـ فلسطين.

الصفحة السابقة