المفتي العام والنطق بالحكم بعد ثلاث سنوات!

مجاهدو السعودية سلع للبيع

نتمنى أن يكون المفتي قد قرأ بعض أقوال المعتقلين السعوديين الذين جاؤوا الى نهر البارد للدفاع عن أهل السنة وما هي تصوّراتهم لواقع لبنان وحرب يوليو 2006، حتى يدرك كم يخجل الغباء من نفسه وهو يوصم بأشخاص جاءوا الى تربة يجهلون موقعها على الخارطة، ويرسمون بأصابع طفولية حدوداً على رمال الوهم الجهادي

رجـاء سلمان

أن تأتي الفتوى متأخرة أفضل من ألا تأتي أبداً، تلك هي القراءة المباشرة والفورية لبيان المفتي ورئيس هيئة الإفتاء والدعوة والإرشاد الشيخ عبد العزيز آل الشيخ. قراءة أخرى مفتوحة تستوحب وضع البيان في سياق العلاقة بين الدين والدولة في السعودية، حيث يعاد فحص قيمومة السياسي على الديني بما يجعل الأخير مرتهناً بصورة دائمة لقانون المصالح وليس المبادىء.

بيان المفتي الذي نشرته (وكالة الأنباء السعودية) في الأول من أكتوبر جاء متأخراً مدة ثلاث سنوات على الأقل حيث كانت التقارير تتحدث عن شباب سعوديين ينفّذون أعمالاً إرهابية داخل العراق ويتم استعمالهم قنابل بشرية تتفجر وسط الأسواق العامة، وبين الأبرياء العزّل، الأمر الذي يطلق السؤال الكبير عن غياب المفتي طيلة الفترة الطويلة السابقة. من الناحية المبدئية، إذا كان لدى المفتي معرفة منذ سنوات بـ (الأعمال القذرة) التي يقوم بها السعوديون في العراق، فذلك يملي موقفاً شرعياً ودينياً، وهي مسؤولية عالم الدين عموماً، المتصدّي لأمور العباد والقيّم على تطبيق العدل وأحكام الشريعة.

يثير البيان أيضاً سؤالاً حول تأثير السياسي في الديني، إذ كما يبدو أن الدافع السياسي كان أقوى من الدافع الديني والشرعي وراء هذه الفتوى، خصوصاً وأن بيان المفتي يشي بمعرفة دقيقة بتاريخ وطبيعة الأعمال التي يقوم بها سعوديون وصفها بـ (عمليات قذرة) حيث قال بأنه (لوحظ منذ سنوات خروج أبنائنا من البلاد السعودية إلى الخارج قاصدين الجهاد في سبيل الله، وهؤلاء الشباب لديهم حماسة لدينهم وغيرة عليه، لكنهم لم يبلغوا في العلم مبلغا يميزون به بين الحق والباطل).

يتحدث بيان المفتي عن قضايا تنبىء عن إطّلاع تفصيلي وعميق على حركة المقاتلين السعوديين والجهات التي يعملون تحت رايتها، والوظائف التي يضطلعون بها، وهو إطّلاع لا يمكن الحصول عليه بصورة فجائية أو إلهامية، إذ الأمر متردد بين إحتمالين: إملاء مصادر حكومية على المفتي مثل هذا البيان، والآخر: أن رد الفعل المتأخر من المفتي كان مقصوداً، بعد أن بلغت أضرار (الجهاد) بنسخته السلفية الوهابية حداً كارثياً.

وإذا كان المفتي يلقي باللائمة على (عصيان الشباب لولاتهم ولعلمائهم وخروجهم لما يسمى بالجهاد في الخارج) وعدّ ذلك ضمن قائمة (المفاسد العظيمة) واعتبر فعلهم (من كبائر الذنوب) فلماذا صمت المفتي وعلماء الدين الرسميين طيلة السنوات الماضية، التي كانت التقارير تبّث عبر وسائل الإعلام المحلية والعربية والعالمية عن تورّط سعوديين في اعتداءات في العراق منذ إطاحة نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين في 2003، ثم التقارير الأخيرة عن وجود مقاتلين سعوديين ضمن أجانب آخرين، في صفوف ما يعرف بتنظيم (فتح الاسلام) في المعارك التي خاضها ضد الجيش اللبناني بين 20 مايو و2 سبتمبر الحالي في مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في شمال لبنان.

في يوليو الماضي وخلال زيارة مستشار الأمن القومي في العراق موفق الربيعي، تسلّمت القيادة السعودية ملفاً بأسماء السعوديين المتورّطين في أعمال العنف داخل العراق، وقال الربيعي لصحيفة عكاظ حينذاك بأن نحو 160 سعوديا هم موضع ملاحقة قضائية في العراق بتهمة المشاركة في أعمال العنف في العراق وأن مئات آخرين في انتظار إحالتهم على القضاء.

كان مؤمّلاً من المفتي أن يبرأ الى الله من أفعال هؤلاء وما سفك من الدماء البريئة من أبناء الشعب العراقي، الذي قضى الآلاف منه في عمليات إنتحارية قادها سعوديون بدفع من خطابات وبيانات دينية تحريضية من الداخل.

قول المفتي بأن هؤلاء وقعوا (فريسة سهلة لكل من أراد الإفساد في الأرض، واستغلال حماستهم حتى جعلوهم أفخاخاً متحركة يقتلون أنفسهم لتحقيق مكاسب سياسية أو عسكرية لجهات مشبوهة) يخبر عن معلومات تفصيلية لدى المفتي، واذا ما وضعت بجانب معرفته الطويلة التي تعود لسنوات، فإن الأمر خطير للغاية.

ثمة ما يلفت في بيان المفتي الى حديث الأمير نايف مع رجال الدين قبل شهور، حين تحدّث عن القنابل البشرية السعودية، وكأن السياسي سبق الديني في تقرير الموقف الرسمي.

ندرك كما ذكرنا ذلك في عدد سابق بأن حديث الأمير نايف مع المشايخ السلفيين جاء على خلفية ضغوطات خارجية ودولية وملف حافل بالمعلومات قدّمها مسؤولون عراقيون للقيادة السعودية قبل شهرين عن تورّط شباب سعوديين، ومؤسسات خيرية سعودية مثل مؤسسة الراجحي، ورجال أعمال سعوديين في محفل الدم العراقي، وهذا قد يفسر دعوة المفتي أصحاب الأموال الى (الحذر) في أوجه إنفاقها وعدم التورط في تمويل الجماعات الارهابية المقاتلة. وقال (أوصي أصحاب الأموال بالحذر فيما ينفقون حتى لا تعود أموالهم بالضرر على المسلمين)، دون أن يقطع في حرمة تمويل الأعمال الإرهابية التي تقوم بها مؤسسات وشخصيات سعودية.

الملفت أيضاً أن بيان المفتي ينطوي على تبرئة ذمة الدولة والدفاع عنها في كل ما جرى ويجري داخل العراق، بعد تقارير ومظاهرات تتناول بالنقد دور مسؤولين في الحكومة السعودية في أعمال العنف، حين قال بأن هؤلاء الشباب تم استغلالهم من قبل (أطراف خارجية، لإحراج هذه البلاد الطاهرة، وإلحاق الضرر والعنت بها، وتسليط الأعداء عليها، وتبرير مطامعهم فيها).

نشير الى أن دراسة ساهمت في تمويلها الحكومة السعودية تحدّثت عن أن السعوديين العائدين من العراق الى بلادهم كانوا أشد تطرّفاً. هذه النتيجة تكشف الوجه الأول من العملة، والوجه الآخر أن هؤلاء خرجوا من ديّاهم وهم يحملون أفكاراً متطرفة ثم حصلوا على زخم ميداني خلال تطبيق الأفكار المتطرفة التي حملوها معهم، فكان أشبه بمرحلتين يعيشها المقاتل السلفي: مرحلة التربية النظرية التي يقوم بها جيل من العقائديين السلفيين في زرع الأفكار الجهادية وإشباع الغريزة القتالية بكمية هائلة من الحقن العقدية المحرّضة على القتال وبذل المهج والتضحية بالمال والروح والولد من أجل جنة باتت هبوبها قاب قوسين أو أدنى من أقدام المجاهدين. تلك هي المرحلة النظرية بصورة مكثفة، قبل أن ينتقل المقاتلون الى مرحلة التطبيق لما تشرّبوه وأدمنوه في مرحلة التنشئة العقدية. ففي مرحلة التطبيق العملي، تتصعّد المعنويات بعد اختبارها في مقدم الشدائد، فتجتازها بعزم يتلوه عزم آخر أشد، وهكذا حتى إذا عصرت المقاتلين المحن والمكاره أصبحوا في نهاية المطاف أصلب عودا، وأقوّم عمودا، وباتت الدنيا كلها مسرحاً مفتوحاً لتحقيق ما نشأوا عليه وتالياً ما مارسوه عملاً. فالقضية إذن ليست مرتبطة بما عاد به المقاتلون من أفكار متطرّفة فتلك آثار حتمية لما تبضّعوه في ديارهم.

ولكن، هدف الدراسة وبيان المفتي وربما ردود فعل الأمراء قاطبة تدور حول نقطة لطالما طافوا وطوّفوا حولها كثيراً من الأتباع، وهو أن فصلاً مفتعلاً يراد له أن يتم بين جهاديي السعودية وحكومتهم بكل توابعها من أمراء وعلماء ومسؤولين. بكلمة إنهم يرددون بما وصّى به الأمير نايف بعد الحادي عشر من سبتمبر أتباعه في المؤسستين الدينية والإعلامية أن التطرف بضاعة مستوردة، وأن المملكة بريئة من دماء الأبرياء! فإن قابلت موقفه بالدلائل والبراهين من كتب مدرسية، ومراجع إفتائية، وخطب إرشادية، ونشريات شعبية تنضح بالكراهية الدينية وتحرّض على القتال تحت عنواني الولاء والبراء، تنطّعوا في الكلام.

هل يعقل أن المفتي غفل عن هجرة المئات بل الآلاف من الشباب الى الخارج تحت راية الجهاد. وإذا كان المفتي بحسب نص البيان (قد حذّر مراراً) من مغبة الضلوع في أمر الجهاد بدون إذن ولي الأمر الموكول بواجب إعداد العدة وتجهيز الجيش وله الحق وحده في تسيير الجيوش والنداء للجهاد، فأين كان صوت المفتي طيلة السنوات السابقة ولِمَ لم يسمعه أحد إلا بعد أن أصدر بيانه الآن، ثم إذا لم يستجب لنداءاته السابقة أي من المقاتلين السلفيين الذين تزايدت أعدادهم وباتوا الرقم الأكبر في العراق وفي لبنان وربما في مناطق أخرى لم يحن وقت إنفجار الأوضاع فيها، ألا يعني ذلك أن تآكلاً سريعاً في السلطة الروحية للعلماء وانفصال الطبقة الدينية العليا عن محيطها الاجتماعي وقاعدتها الشعبية الإفتراضية التي باتت الآن منهوبة من قبل قيادات جديدة ممثلة في شيوخ الجهاد المرتبطة عضوياً أو فكرياً بشبكة القاعدة، أو شيوخ الصحوة التي تقف في منتصف الطريق بين السلفية التقليدية والسلفية القتالية، دون أن ترسم حتى الآن شكلها الاجتماعي والتنظيمي، أو تحسم خياراتها السياسية، أو حتى تحدد مسارها الفكري والايديولوجي، حيث أن التلفيقات الثقافية بنكهاتها العصرية والتي تنبعث من فريق الصحوة تبدو أشبه بنبتات عشوائية خرجت من ثقوب أسفل الحائط الخارجي للبيت السلفي.

يتوقف القارىء لبيان المفتي عند عبارة قاسية وفي ذات الوقت تبطن غضباً بما نصه:(بات شبابنا سلعة تباع وتشترى لأطراف شرقية وغربية، لأهداف وغايات لا يعلم مدى ضررها على الإسلام وأهله إلا الله عز وجل)، وكنا نتمنى أن مثل هذا البيان قد صدر منذ سنوات قبل أن يكون الدم الحرام، وقتل الأبرياء، وصراخ الثكالى، ونحيب الأيتام منبّهات الى جريمة يقترفها شباب يدفعهم أشخاص بمسوح دينية يضنّون بأبنائهم ويسخون بأبناء غيرهم تحت راية جهاد مشبوهة.

نعم كان كثير من الشباب السعوديين الذين هاجروا من ديارهم الى العراق ولبنان أقرب الى السلعة منهم الى الإنسان فقد بيع بعضهم بـ 3000 دولار مقابل الرأس الواحد، وبلغ استرخاص أرواحهم من قبل من قذف بهم خارج الحدود ومن استقبلهم في بلاد الشام ومن أودعهم نقاط حتفهم أنهم كانوا يعاملون كـ (مشاريع موتى حمقاء)، فقد عرف القادة المصنّعين خارجياً أو وهمياً لتنظيمات مشبوهة كيف يحرّكون غرائز القتل والموت في صفوف الانتحاريين الجدد. فتحت راية (الدفاع عن أهل السنّة) تحرّكت مجاميع شبابية سلفية بحثاً عن معركة لا يعرفون مكانها، فالنداء يختزل المهمة والأدوار والوعي أيضاً.

نتمنى أن يكون المفتي قد قرأ بعض أقوال المعتقلين السعوديين الذين جاءوا الى نهر البارد للدفاع عن أهل السنة وما هي تصوّراتهم لواقع لبنان وحرب يوليو 2006، حتى يدرك كم يخجل الغباء من نفسه وهو يوصم بأشخاص جاءوا الى تربة يجهلون موقعها على الخارطة، ويرسمون بأصابع طفولية حدوداً على رمال الوهم الجهادي، وكل ذلك بإسم (الدفاع عن أهل السنّة)، الذي كان المحرّض الأكبر على الأعمال القتالية التي خاضها السعوديون في العراق ولبنان، وهي بالمناسبة ذات الراية التي أينما وجدت علمت بأنها دليل على الأثر السلفي السعودي، فإذا ما أنتجت فتنة طائفية ومذهبية علمت أنها راية، ومصدر، وراع مشبوهين.

نقول أن بيان المفتي وإن جاء متأخراً سنوات طويلة، فإنه موقف إنقاذي وبدرجة أساسية، بعد أن بلغت السادية في الجهاد السلفي بنسخته السعودية حداً يبعث على القرف والسخرية. ذكّرنا أحدهم بأن زعيم تنظيم القاعدة أبو أيوب المصري قال العام الماضي بأن تنظيمه خسر 5 آلاف عنصراً معظمهم من السعوديين، أما طريقة الموت فتلك فاجعة على القاتل والقتيل، فقد أصبح جهاديو السعودية مشاريع موت غبية أينما حلّوا، وأنهم تحوّلوا الى سلعٍ متنقلة في أسواق عدة، فقد يستغلها الجهادي السلفي، وقد تقع بسبب وعيها المفجوع في أيدي أجهزة إستخبارية كما يفعل الأمير بندر مع جهات غربية وإسرائيلية تراهن على بقايا (فتح الإسلام) و(جيش الاسلام) و(جند الشام) وبقية العناوين المتناسلة من مركز القاعدة.

الصفحة السابقة