خلايا إرهابية جديدة

خلفيات المنجز الأمني الإستعراضي

محمد قستي

في أواخر أبريل الماضي، أعلنت السلطات السعودية عن اعتقال 7 خلاياً تضم 172 شخصاً غالبيتهم من السعوديين ويشتبه بأن لهم صلات بتنظيم القاعدة، وكان بعضهم يتدرب على الطيران للقيام بهجمات إنتحارية ضد منشآت نفطية وعسكرية في السعودية. وقال بيان وزارة الداخلية، آنذاك، بأن مبايعة زعيم الخلايا تمّت عند الكعبة المشرّفة على السمع والطاعة وتنفيذ جميع أوامره، وأضاف البيان بأن (من أبرز أهدافهم القيام بهجمات إنتحارية ضد شخصيات عامة، ومنشآت نفطية ومصاف بترولية واستهداف قواعد عسكرية في الداخل والخارج). وقد نشرنا تفصيلات هذه العملية في عدد سابق، وكانت تحليلاتنا المدعّمة بمعلومات إضافية غير الواردة في بيان وزارة الداخلية أن الأمر أكبر من كونه تخطيطاً لعمليات أمنية محدودة، بل هي عملية واسعة النطاق وتستهدف إحداث فوضى عارمة تفضي الى إسقاط النظام.

الجدير بالذكر، أن تلك الخلايا، بحسب بيان وزارة الداخلية، هي، أو إحداها على الأقل، على علاقة بتفجيرات أبقيق التي وقعت في 24 فبراير 2006. وكان الإعتقاد حينذاك أن الكشف المتأخر عن اعتقال الخلايا السبع كان لاستكمال عملية تطويق كل عناصرها، حتى أن بعض المراقبين قال بأن العملية لم تتم دفعة واحدة بل جرت على دفعات متسلسلة استمرّت شهوراً، ولكن الإعلان الرسمي عنها كان يهدف الى أمرين: ملاحقة بقية فلول الخلايا السبع، وتالياً تسويق المنجز الأمني محلياً ودولياً.

بالنسبة لتوقيت الإعلان عن اعتقال ست خلايا مؤلفة من 208 عنصراً في اليوم الذي ينعقد فيه مؤتمر أنابوليس هو مقصود، ويهدف الى تسويق منجز أمني وسياسي يراد أن يكون مادة يعتمد عليها الرئيس بوش في إجابته عن أي سؤال حول دور السعودية في الحرب على الإرهاب، وخصوصاً في ظل أحاديث عن نسبة عالية من السعوديين بين المقاتلين الأجانب في العراق، بحسب تقرير عسكري أميركي، وتعويماً لفضيحة القضاء السعودي في تعامله مع قضية عرّفتها الصحافة المحلية بـ (فتاة القطيف).

منذ 27 أبريل الماضي وحتى 28 نوفمبر يكون قد مضى سبعة شهور على الإعلان عن اكتشاف سبع خلايا، ليلحقه إعلان آخر مشابه تماماً. بعض المراقبين ربط بين عمليات الإفراج المتواصلة عن العائدين عن (الفكر الضال أو المنحرف) وبين تشكّل خلايا قاعدية جديدة تعمل في الداخل وتمد الخارج بالفائض منها.

أياً يكن الربط بين الأمرين، فإن ما ورد في بيان وزارة السعودية حول إلقاء القبض على 208 أشخاص لضلوعهم في مجموعة خلايا تخطط لمهاجمة منشأة نفطية، وقتل بعض رجال الدين ورجال الأمن، يثير نقاطاً عدة:

أولاً: أن حملة بهذا الحجم الكبير تمت دون إندلاع اشتباكات ولا إطلاق نار، ولا ضحايا ولا ملاحقات ولا قتلى، حتى وإن كانت المداهمات قد تمّت بصورة متباعدة زمنياً، فهذه ليس الصورة التي اعتدنا عليها في السنوات الماضية، إذ غالباً ما تستمر عمليات المداهمة لمراكز وبيوت يتحصّن فيها عناصر القاعدة لساعات وربما أيام بفعل المقاومة الشرسة التي يبديها هؤلاء في مواجهة رجال الأمن غير المدرّبين بصورة كافية على قتال الشوارع.

وكما في البيان السابق، فإن بيان وزارة الداخلية جاء إجمالياً فلم يتحدث عن تفاصيل عملية الإعتقال للخلايا الست، ولا المدة التي استغرقتها العملية، وكأنه يتحدث عن حملة اعتقالات لأفراد عاديين تمت مداهمة بيوتهم ومقار عملهم من قبل رجال الأمن، وليس عن خلايا تنظيمية تابعة لشبكة القاعدة المدججة بالسلاح وأفكار الاستبسال في المواجهة مع العدو الى حد الإنتحار.

لا ننسى أيضاً أن معلومات بيان وزارة الداخلية تنبىء عن شبكة خطيرة، تمتلك إمكانيات ضخمة، وتخطط لتهريب صواريخ الى الداخل لتنفيذ عمليات نوعية، فإذا كان الحال كذلك، فكيف بهذه البساطة وقعوا في قبضة أجهزة الأمن ولم يسقط لأحد الطرفين قطرة دم، أو يسمع طلقة نار واحدة، وكأن الاعتقال تم في إحتفال رسمي تسلّمت فيه أجهزة الأمن أوراق اعتماد الخلايا الست، مع فارق أن الدعوة خاصة وليست عامة.

وإذا صدقنا الخبر القائل بأن الحملة بدأت منذ منتصف العام الهجري، أي قبل خمسة شهور، فهي تقترب من فترة إلقاء القبض على سبع خلايا تابعة لتنظيم القاعدة، فهل نكون قد طرحنا خلية واحدة تم القبض عليها وبقيت ست خلايا فرّت من قبضة الأجهزة الأمنية، وهو ما لم تذكره بيانات وزارة الداخلية المتواترة. أم أن الخلايا الجديدة تناسلت من خلايا سابقة، وهو إحتمال غير قوي، وينقصه دليل أقوى، لأن من غير المعقول أن يكون تنظيم القاعدة بهذا الغباء الأمني الذي يجعل من الربط بين خلاياه ثغرة يعبر منها رجال الأمن فيصطادون عناصرها كالدجاج في منتصف الليل.

ثانياً: أن أهداف الخلايا الجديدة هي ذاتها التي رسمتها الخلايا السبع السابقة من استهداف منشآت نفطية وعسكرية، الى اغتيال شخصيات عامة، والتي تم تحديد هويتها هذه المرة في شخصيات أمنية ودينية، على أساس أن لعناصر الخلايا ثارات قديمة وجديدة، فالقديم منها مرتبط بالمواجهات النارية بين الجماعات المسلّحة ورجال الأمن التابعين لوزارة الداخلية، والجديد منها رفع المشايخ السلفيين والصحويين على وجه الخصوص الغطاء الشرعي عن الجهاديين السلفيين في الداخل. فمن وجهة نظرهم، أن المشايخ قد تحوّلوا الى طبقة جديدة من علماء البلاط، وحلّوا مكان الطبقة القديمة، وهم يمارسون ذات الدور في شرعنة القمع الرسمي ضد معارضي الحكومة من السلفيين. وقد تكون رسالة الشيخ سلمان العودة في شهر رمضان الماضي الى زعيم القاعدة أسامة بن لادن، عبر شاشة قناة الإم بي سي، المقاطعة من قبل تياري السلفية التقليدية والسلفية الجهادية، وتحميله مسؤولية الدماء البريئة التي سفكت (دون تحديد جغرافية الدم). وبرغم مناداة الشيخ العودة لابن لادن بـ (أخي أسامة)، بما يبقي على الأخوة معه رغم تحميله مسؤولية الدماء البريئة، إلا أن أنصار القاعدة اعتبروا ذلك إعلان إصطفاف الى جانب معسكر الحكومة، وفتح معركة ضد من كانوا أنصاراً له، وكان مرشداً روحياً وأباً عقائدياً لهم.

ليس الشيخ العودة وحده من قفز الى معسكر الحكومة، في نظر أنصاره الأولين، بل سبقه ولحقه جمع من مشايخ الصحوة الذين تمسّكوا بأفكارهم المتشددة، ولكنهم أعادوا تفسيرها لتكون على غير الغاية السياسية الموجّهة إليها فيما مضى من السنوات. فقد أرادوا أن يخلقوا خصماً جديداً غير ذاك الذي ناضلوا من أجل إنزال الهزيمة به، ولا محاربته في الداخل، فالخصم، من وجهة نظر مشايخ البلاط الجدد، يقبع خارج حدود السلطة سواء في الداخل أو الخارج، ويجب أن يبقى كذلك، وهذا ما تتطلبة عملية إعادة ترسيخ التحالف بين الديني والسياسي.

ثالثاً: أن البيان يشدد كما شدّد من قبل على أن ثمة عناصر خارجية، وتحديداً من بلدان عربية في إشارة الى العراق والأردن، فقد أناطت بيانات وزارة الداخلية قيادة (تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين) بشخص عراقي قيل حينذاك بأنه تولى القيادة على خلفية تشكيل مجلس شورى المجاهدين بقيادة أبي مصعب الزرقاوي، بهدف إقامة مركزية قيادية لتنظيم القاعدة تدير شؤون فروع الشبكة في بلاد الشام والخليج. وفي أبريل الماضي، قيل بأن عناصر الخلايا السبع قد تعاهدوا أمام الكعبة بعد مبايعة شخص من بلد عربي على السمع والطاعة، وعادت المعلومات الأمنية التي يتم تسريبها بين فترة وأخرى لصحف محلية، ومنها أن قيادة التنظيم تعود لشخصية أردنية بحسب صحيفة الوطن السعودية.

تصنيف المتحدّث بإسم وزارة الداخلية اللواء منصور التركي للخلايا تثير إهتماماً خاصاً، فخلية مؤلفة من 22 شخصاً تحمل الفكر التكفيري، ومنها تشكّل فريق إغتيالات لاستهداف العلماء ورجال الدين، وخلية أخرى متخصصة في تهريب واطلاق الصواريخ مؤلفة من 18 عنصراً، وهناك 112 شخصاً تم اعتقالهم في عمليات أمنية متتالية في مناطق متفرقة من المملكة (من المرتبطين بدوائر تنسيق خارجية، تعمل على تسفير المغرر بهم، من سعوديين ومقيمين، إلى المناطق المضطربة، بهدف تبني المنهج التكفيري، ومن ثم العودة للمملكة بقصد الإخلال بالأمن ونشر الفتنة). يضاف الى هؤلاء أيضاً، 32 شخصاً، بين سعودي ومقيم، نشطوا في توفير الدعم المالي لأتباع الفكر الضال. وأما الخلية السادسة فتألفت من 16 شخصاً في المدينة المنورة، شكّلوا خلية إعلامية، تهدف للترويج لأفكار الفئة الضالة، من خلال إصدار نشرة (صدى الرافدين) التي تعنى بنشر أخبار الجهاد في العراق.

فيما يبدو من كلام المتحدث بإسم وزارة الداخلية، أن ثمة توجيهاً مقصوداً للعامل الخارجي، الذي يحضر على الدوام سواء في تهريب الأسلحة، والعناصر المنتمية للتنظيم، وكذلك للأفكار الجهادية، فيما يتم تصنيف العنصر المحلي في خانة الضحية، المغرر به، ما يسهل سرقة أمواله وعقله وأخيراً جسده. وللقارىء أن يتخيل كيف أن خلية تخطط لعملية أمنية واسعة النطاق، تشكّل خلية إعلامية تضطلع بإصدار نشرة مهتمة بأخبار المجاهدين في العراق، فيما تكون مهمة خلية أخرى تشجيع العناصر المحلية على السفر للخارج، وكل ذلك بتحريض وتنسيق مع دوائر خارجية. كيف يتم ذلك؟ ثمة توجيه مقصود كما أسلفنا من أجل إبقاء مساحة التأويل مفتوحة على قراءات متضاربة، فخيوط مبتورة لا توصل الى معنى واحد.

لنقرأ ما نقله مسؤول أمني على لسان قائد خلية (مقيم حسب المصدر)، مكوّنة من ثمانية أشخاص تنوي الهجوم على منشأة نفطية مساندة في المنطقة الشرقية، وينقل المصدر عن القائد ـ المقيم طريقة تجنيد أعضاء الخلية (من خلال البدء بتبني التكفير كمنهج حياة ومن ثم تأكيد مشروعية القتال في الخارج والتركيز على تهيئتهم كانتحاريين حيث يسهل عليه بعد ذلك إقناعهم بمكان التنفيذ سواءً في الداخل أو الخارج). فالعنصر الخارجي حاضر بكثافة في هذا النص بدءً من القيادة ومروراً بـ (التجربة ـ ديمو) على العمل الانتحاري، وصولاً الى عنصر التنفيذ. فهو سيناريو للتوظيف في تبرير وتبرئة ذمة المحرّضين المحليين من رجال دين ومسؤولين أمنيين، الذين اكتشفوا بعد سنوات أن أنصارهم يعشقون الموت الغبي، الذي يوفّر لجماعات أخرى قنابل بشرية لا تستهلك أكثر من حزام محشو بالمتفجرات وصاعق. إذاً، هكذا يتنصل المسؤولون عن قتلاهم، وعن أفكارهم، في لعبة هابطة يكون فيها الدم مادة مزايدة تفوح منها الخديعة برائحة نتنة.

فمالذي يجعل شباباً لم يكملوا عقدهم الثاني أو الثالث يقدمون وبسذاجة لا متناهية على الإنتحار السادي، لو كان الأمر يتعلق بأشخاص مجهولي الهوية يغرسون أفكاراً في الموت من أجل العقيدة، إن لم يكن قد وقعوا تحت تأثير أجواء روحية أوصلتهم الى طمأنينينة نفسية ويقين بما هم مقدمين عليه، وهو الموت. وهل خفي خبر الإنتحاريين السعوديين على أهل الدعوة ورجال الأمن والصحوة معاً حتى يأتوا بسيناريو مفبرك لا يصمد في تبرئة من أذاقوهم الموت والعار بعد ذلك، حتى يأتوا بعد أربع سنوات ليقولوا لأهالي القتلى بأن قرصنة وقعت في الداخل لتهريب أبنائكم للخارج في غفلة منكم ومن الدولة ومن تيار الصحوة الذي يحصي من حضر ومن غاب عن صلاة الفجر في المسجد.

وكمن رمتني بدائها وانسلت، ألقت أجهزة الأمن مسؤولية تأجيج الفتن، والخروج الى المناطق المضطربة، والتستّر على المطلوبين، وتمويل عملياتهم على جهات خارجية في أحسن الأحوال أو غيبية في أسوأها. وكأن تلك الأهداف ليست هي ذاتها التي عكف محرّضو الداخل على استخدامها حين كانوا يشيعون بين الشباب خطراً محدقاً بأهل الدعوة لتحريضهم على الجهاد، وإقحامهم في مهب النفير العام من أجل مناصرة إخواننا في العراق أولاً، ثم أخواننا في لبنان ثانياً، بعد أن أخفقت الأخوة الإيمانية في تحقيق أهدافها في أفغانستان، والشيشان..

لماذا بات العامل الخارجي حاضراً على الدوام في كل عملية ذات طبيعة محلية وأهداف محلية، وكأنه يراد منه تعويض المشاركة السعودية الكثيفة في الخارج، وخصوصاً في العراق، وإلى عهد قريب في لبنان، أليس في ذلك هروباً الى الأمام؟.

يقول المصدر الأمني بأن هدف توفير الدعم المالي هم لأتباع الفكر الضال، ولكن لم يحدد هويتهم، ثم نكتشف إنقطاعاً في الرواية الأمنية لتضع نشرة (صدى الرافدين) دالّة على الفكر الضال، فيما تحتجب المنابع الأيديولوجية المحلية عن الصورة، لتأكيد العامل الخارجي مجدداً.

في التحليل النهائي، يظهر أن الإعلان عن الخلايا الست هي عملية أمنية إستعراضية بدرجة أساسية، يراد منها تأكيد المشاركة في الحرب على الإرهاب، من خلال (خبطات) أمنية لافتة، وهي وإن تضمنت حقائق معروفة، فإنها حجبت حقائق أخرى أو ألبستها زيّاً آخر على غير مقاسها. وقد لا تبرح عملية التناوب التي تتم منذ شهور بين رجال الأمن ومشايخ الصحوة والعناصر المسلّحة الذين يراد إعادة تأهيلهم وإعادة إدماجهم في المجتمع، الى جانب، بطبيعة الحال، أهداف أخرى سياسية محلية وخارجية، منها تأكيد حضور الجهاز الأمني، وقدرته على القيام بعمليات إستباقية، وكذلك تهدئة خواطر من خسروا أبناءهم في عمليات إنتحارية محلية وخارجية، ولهم في ذلك مآرب أميركية كثيرة.

الصفحة السابقة