لا حلّ إلا بمعالجة تطرف الفكر الوهابي

.. وبقيت المعالجة الفكرية

سـعد الـشـريف

ليست دعوة جديدة، وربما لن تكون ولن تتوقف إذا ما أصرّت الحكومة على المعالجة الأمنية كخيار وحيد ونهائي من أجل قطع جذور التطرف.. لقد أعلنّاها منذ سنوات بأن لا سبيل أمام الحكومة والمؤسسة الدينية سوى خوض غمار المراجعة الفكرية الشاملة، التي تتطلب فحصاً دقيقاَ لتراث ثقيل من المصنّفات الدينية، والفتاوى، والنشريات الشعبية، ومناهج التعليم الديني والتي تنطوي في مجملها على نزوعات تحريضية مباشرة وغير مباشرة، وهي المسؤولة عن صنع خطاب راديكالي يغذي مشاعر التطرف والعنف.

مثال واحد يكفي، والأمثلة كثيرة في هذا الصدد، فمطالعة في موقع اللجنة الدائمة للدعوة والإفتاء والإرشاد على شبكة الإنترنت تكشف قدراً كبيراً من الفتاوى التكفيرية لأديان ومذاهب وأيديولوجيات، يتم الرجوع إليها بصورة دائمة من قبل عوام الناس، وتسهم في تشكيل مناخ خصامي ضد الآخر. للتذكير فحسب، أن اللجنة هذه ليست سوى مؤسسة رسمية ترعاها الدولة مالياً ومعنوياً، وتمثّل مرجعية تشريعية لها.

ليس جديداً ما نذكره هنا، وقد نبّه إليه عشرات غيرنا، فمجرد إلقاء القبض على عناصر متشددة تتبنى العنف خياراً إستراتيجياً في التغيير أو إخضاعهم لدورة تثقيفية مكثّفة من قبل (لجنة المناصحة)، لن يفي بالغرض بعيد المدى، فثمة مصادر تغذية أيديولوجية مازالت ناشطة وتتربى عليها أجيال أخرى، فهل تكتفي الدولة في سكب الماء في كأس مفتوح من طرفيه؟ أما أن ما تبنيه الدولة تهدمه المؤسسة الدينية، أو هكذا تكون لعبة اللوم التي يحلو للسياسي أن يخوضها من أجل التنصّل من مسؤولية إنتشار التطرف، وهو الذي كان لعقود طويلة يرعاه.

كتب بعض المراقبين لما يعتقده البعض بالحملة السعودية على المتطرفين، بأن ثمة مطالبة بشن حرب فكرية ضد القاعدة، وفي ذلك تعمية لحقيقة كبرى، إذ لا يمكن الفصل بين فكر القاعدة ومصدره، فهذا الفكر المتطرف نشأ وترعرع في أروقة الدولة وتحت إشرافها، إذ لا يعقل أن تعمل المؤسسة الدينية الرسمية دون علم الحكومة، فلماذا يشدد إذاً الأمير نايف على سلفية الدولة، ويؤكد ولي العهد على تطبيق الدولة لأحكام الشريعة، ولماذا يحفل مجلس الملك بحضور كثيف للعلماء، ولماذا تكون مناهج التعليم الديني الرسمي من مهمة المؤسسة الدينية الرسمية؟.

في ضوء ذلك، يرى محللون كثر بأن المعالجة الأمنية غير مأمونة ولا مضمونة النجاح ما لم تكن جزءً من إستراتيجية شاملة تعتمد على المراجعة الفكرية الدقيقة لمجمل التراث السلفي.

فاعتقال مئات من المتورطين بالإنتماء لتنظيم القاعدة في السعودية لا يكفي لدفن التطرف وقطع دابر العنف، إذ لا يواجه الفكر بالرصاص، وإنما بمواجهة فكرية من سنخها. الشيخ محسن العواجي يقول أن (الدولة قضت على الخطر الظاهر بالمعالجة الامنية، لكن الخطر الكامن موجود وهو خطر جسيم. ليس هناك ضمانة أن المعالجة الامنية ستنجح إن لم يكن هناك تصدي للفكر المنحرف) الذي يتبناه المتطرفون. ويؤكّد العواجي بأن (على الرياض أن (تستنفر المجتمع بكامل طاقاته ورموزه الفكرية والدينية والنفسية والاجتماعية للتصدي للفكر التكفيري). ولم يوضّح العواجي، أين تقبع مصادر الفكر التكفيري، وطريقة المعالجة الفكرية المطلوبة، بالنظر الى إشادته بما وصفه بالمشروع التوعوي في السجون، في إشارة الى (لجنة المناصحة)، إذ لا يمكن أن تتم المعالجة مقتصرة على المتطرفين الظاهرين أو من وقعوا في قبضة الأجهزة الأمنية، وإغفال المتطرفين الكامنين والمرشّحين والذين مازال الفكر التكفيري يمثل مصدراً أساسياً لوعيهم الديني. ولذلك تبدو مقاربة التطرف كمشكلة مجتمعية أكبر من أن تعالج أمنياً، أو داخل الغرف المغلقة، أو محصورة في فئة محسوبة على تنظيم القاعدة، فمشروع كهذا يتطلب مشاركة رجال الدين والأكاديميين والأطباء النفسيين (لتوعية المجتمع بخطورة هذا الفكر الذي يهدد أمنهم) على حد المراقب لنشاطات القاعدة فارس بن حزام، الذي يرى بأن (الفكر التكفيري موجود، والأرضية الخصبة لوجود هذا الفكر موجودة مثل نشر الكراهية والخصومة لغير المسلمين والأجانب) وهو موجود على حد قوله: (في الشارع وفي المسجد وفي الندوات والمحاضرات). ويشكك حزام في نجاح المعالجة الأمنية إذ (ليس هناك ضمانة بأن هذا النجاح سيستمر بسبب غياب المعركة الفكرية).

من جهة ثانية، نقلت وكالة (رويترز) من الرياض في الثاني من ديسمبر تصريحات لوزير الداخلية الأمير نايف قال فيها أن (رجال الدين السعوديين لا يبذلون جهداً كافياً لمكافحة التشدد بين الشبان السعوديين بمن في ذلك من يريدون القتال في العراق). وهذا هو ثاني إنتقاد لرجال الدين من الأمير نايف هذا العام. وفي يونيو حزيران قال في كلمة أمام المئات من رجال الدين أنه يتحتّم عليهم وقف السعوديين الذين يشنون هجمات إنتحارية في العراق. وفي جوابه على سؤال لصحيفة (عكاظ) في الأول من ديسمبر حول ما إذا كان يشعر أن (تقدماً) أحرز منذ هذا الإجتماع قائلا (لا.. ليس بالمستوى الذي أتمناه).

ونقلت الوكالة أن ثمة تقارير في السعودية تحدثت عن محاولة أبناء رجال دين سعوديين بارزين الإنضمام للمسلحين من تنظيم القاعدة في العراق. وتشعر السلطات السعودية بالقلق من إمكانية عودة السعوديين الى البلاد لمواصلة قتالهم في المملكة. ويقول معلقون أن التقارير بوجود سعوديين في العراق أصابت البلاد بحرج.

وأقرّ الأمير نايف بوجوب (أن يكون هناك عمل فكري قادر وقوي) يكون داعماً للمعاجلة الأمنية ومن أجل تصحيح النظرة حول الإسلام، وحقيقة الإيمان بالله. هذا الإكتشاف المتأخر لضرورة المعالجة الفكرية جاء على خلفية التقارير الأمنية التي نشرت مؤخراً حول ضلوع عدد كبير من الشباب السعوديين في العمليات الإرهابية داخل العراق، وتصاعد الإتهامات ضد أطراف في الحكومة السعودية تقوم بتسهيل سفر بعض الراغبين في القتال داخل العراق ولبنان، أو عدم قيام السلطات السعودية بالإجراءات اللازمة في الحرب على المتطرّفين.

الصفحة السابقة