إنهيار ما تبقى من أسس الدولة

قضاء يستحق المقاضاة!

محمد شـمس

القضاء أحد صمامات الأمان للدولة، أية دولة، وحين ينهار ركن القضاء، وهو عادة آخر ما ينهار، فإن ذلك مؤشر على أن الدولة في طريقها الى الإضمحلال، وأن نظام الحكم فيها قد فقد آخر قلاعه، وآخر ما تبقى له من عوامل المقاومة والصمود.

السلطة التنفيذية في المملكة فاسدة، ويقف على رأسها الأمراء كما هو معلوم.

والسلطة التشريعية غائبة، إذ لا يوجد إلا ديكور لها يتمثل في برلمان تعيّنه العائلة المالكة، وترفض أن يكون منتخباً لا جزئياً ولا كليّاً.

وأما السلطة القضائية، فهي كانت على الدوام فاسدة، ولكن فسادها لم يصل الى الأعماق كما هي عليها اليوم.

إذ يظهر للمراقب أن السلطة التنفيذية لم تعد معنيّة فحسب بتسويغ ممارسات الحكام، وتأصيل فسادهم وشرعنته أو السكوت عنه، ولكنها زادت فغطّت على القمع وأصبحت في العقدين الماضيين أداة تستخدمها السلطة التنفيذية بشكل مباشر وغير مسبوق في تاريخ المملكة. وغالباً ما تستخدم الحكومة السعودية القضاة في صالحها ضد جماعات مدنية أو شخصيات أو وجاهات.

رأينا تحيّز القضاء في قضية الدكتور ربيع دحلان، ورأينا دماء الكثيرين تسال ظلماً وعدواناً دون اعتراف أو تعويض. ورأينا كيف أصبح القضاء أداة بيد الحكومة ضد دعاة الإصلاح، حيث فقد القضاء أبسط معالم العدالة حتى الشكلية منها، بل كان يعمل تحت إمرة السلطة التنفيذية بصورة مخلّة تدعو للإستغراب. ولعل مطالعاتنا لحيثيات محاكمة الإصلاحيين الذين اعتقلوا في مارس 2003، وكذلك حيثيات محاكمة الإصلاحيين اللاحقين، وحيثيات الأحكام التي تصدر مبرّئة جناة ومجرمين من رجال الحسبة.

أخطر من هذا كله، أن القضاء صار جزءً من الصراع السياسي والإجتماعي والمناطقي والمذهبي والفكري والثقافي الدائر بين جماعات عديدة وبين المنطقة الأقلوية الحاكمة (نجد) ومذهبها وحكامها، فصار يغطّي على فساد المؤسسات الدينية ورجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما نلاحظ ذلك في هذا العدد، وصار معنياً بتبرئة فئات من الناس والحكم على غيرهم بالإرهاب والعدوان ومخالفة الدين والسحر والعمالة وغير ذلك!

هنا مقتل القضاء، بل مقتل العدالة، بل مقتل الدولة نفسها.

إن تحيّز القضاء والقضاة صار من الشيوع الى حدّ ضجّ معه الناس، حتى المقربين من الخط الديني السلفي الرسمي.

وعليه فإن الخلل الذي أصاب القضاء، ليس شكلياً، بل هو ضربة (في) و (لـ) صميم الجهاز نفسه، وضربة قاصمة لنظام الحكم والعائلة المالكة، التي تعتقد بأنها أصبحت قوية بتدخلاتها في القضاء والقضاة ورشوتهم. هذا القضاء بمثل هذا التحيز والفساد والتخلف وعدم التنظيم لا يطيل عمر الدولة والنظام السعودي، بل يقصّره، ويعجّل بفوران المجتمع واستخدامه للعنف بعد أن تسدّ منافذ نيل الحقوق العادية ـ وليس السياسية! ـ للأفراد عبر الوسائل الطبيعية في كل دولة.

نحن هنا بإزاء انحدار كبير لأسس الدولة السعودية، بحيث صار الجهاز القضائي ليس ملجأ للمواطن العادي، بل هو رصيد بيد الحاكم وشلّته ولجماعة التيار السلفي المتعصب الأقلوي الذي يشارك آل سعود في طغيانهم وفسادهم.

إننا نرى أكبر الجرائم (القتل مثلاً) ينجو منها المجرمون المحسوبون على التيار الديني الأقلوي الوهابي، بحيث يتحول القاضي الى مدافع عن الإجرام. وإننا نرى أن أقل الجرائم يطبق بحقها الإعدام والإعتقال لمدى سنين طويلة بدون محاكمات وخلافاً للقوانين التي وضعها آل سعود وقضاتهم أنفسهم.

بالأمس طلقوا امرأة رغماً عنها وعن زوجها، ولديها أولاد، تحت مبرر لا يقره دين أو عقل وهو: عدم تكافؤ النسب، فهي من قبيلة عالية القدم وزوجها من قبيلة أقلّ! وحاولوا تزويجها رغماً عنها، فاضطرت للعيش في ما يشبه المجأ!

وقبلها طلقوا امرأة من زوجها لعدم التكافؤ المذهبي!، فزوجها اسماعيلي من الجنوب، وهي من (نجد) تنتمي الى الصفوة! وتلتزم (بأصفى العقائد الوهابية)!

وبعدها حكموا على فتاة مغتصبة بالسجن والتعزير جلداً، فيما كان الجناة قد خففت أحكامهم، والسبب أنها شيعية!

وبعدها حكموا ببراءة قتلة من هيئات الأمر بالمعروف لمواطن أخرجوا دماغه ضرباً بآلات حادة! وهو سلمان الحريصي.

وقبلها سجنوا الإصلاحيين الذين يعرف الجميع في الداخل والخارج بأنهم ليس فقط ضد الإرهاب، بل وأعداء للإرهابيين الوهابيين، بحجة أنهم إرهابيين. والغريب أن بينهم أناس يعدهم القضاة ومشايخ الوهابية كفرة وملحدين!

وقبلها حكموا على شاب لم يتجاوز عمره 15 سنة بالقتل باعتباره مرتداً لأنهم وجدوا عنده نسخة من الإنجيل.

وفي السجن اليوم في نجران شخص قضى نصف عمره، أي 15 سنة في السجن، وهو محكوم بالإعدام، لأنه قال وهو مراهق صغير كلاماً اعتبر تعريضاً بالمقدسات، ورغم أنه اعتذر، وتاب، ولكنه لازال ينتظر حكم الإعدام في السجن منذ 15 عاماً.

وقبل أيام برّأت أعلى سلطة قضائية (ديوان المظالم) رجل من هيئات الأمر بالمعروف، لاحق فتاة (18 سنة) الى منزلها واغتصبها فيه بعد أن اقتحمه، وذلك بحجة عدم كفاية الأدلة وعدم وجود اعتراف أو شهادة شهود أو أي قرائن في اثبات الاعتداء الجنسي لعضو الهيئة. وعدم كفاية الأدلة صارت المشجب لتبرئة المتطرفين الوهابيين. في حين زعم عضو الهيئة مطاردته الفتاة من مدينة الخبر الى مدينة الدمام بأن كل ما قام به هو من أجل: (مناصحة ألفتاة بعد أن لمس تبرجاً في لباسها.. مما يثير الشباب ويحملهم على خطفها)! وقد تعرضت عائلة الفتاة لضغوط من إمارة المنطقة الشرقية بغرض التنازل عن القضية.

وقبل هذه القضية تمت تبرئة أعضاء في هيئات المنكر بتهمة اقتحام منزل مواطن في بيته والإعتداء عليه، وقبله قتل مواطن في تبوك على يد أعضاء نفس الهيئات.

وقبل أيام حكم على مواطنة من القريات بالإعدام بتهمة ممارسة السحر، وهو ما أخرج الأمور عن حدها الطبيعي.

إن قضاء سعودياً كهذا، يتسمى بالإسلام، ويزعم تطبيق شريعته، لهو من التزوير والإهانة للإسلام نفسه، كما أنه إهانة لمشايخ الوهابية لو يعلمون، وإهانة للدولة ونظام حكم العائلة المالكة وللشعب السعودي نفسه. ونظام قضائي كهذا حري به أن يغرق آل سعود والوهابية نفسها في الدركات السفلى دينياً وأخلاقياً وسياسياً.

الصفحة السابقة