في بلد الخمسة ملايين فقيراً

السعودي الأكثر سعادة!

سعد الشـريف

الأمراء يتفجر الورع من جوانبهم، والأدلة على ذلك كثيرة!.

في تعليق له على مسح قامت به مؤسسة دولية شمل 96 دولة، أظهر بأن السعودي الأول عربياً في قائمة الشعوب الأكثر سعادة وفي المركز 26 على المستوى العالمي، كتب الأكاديمي علي سعد الموسى في صحيفة (الوطن) في 5 يوليو الماضي بأن أهل هذا المسح قد أجروا دراستهم من مراكز المملكة وغرناطة والجمجوم ورد سي مول وسوق حراء الدولي ومجمع الراشد بالظهران. وأضاف (كما يبدو لي فإن الاستطلاع مرّ على عوائل الراجحي والعليان وبقشان وعبداللطيف جميل والعثيم وباخشب وباسمح وعرفان والقزاز والفتيحي والبترجي وابن محفوظ والنهدي وباخشوين والحمراني وهيف ومالكي درعة للعطور والعيسائي وعلي بن حسين بن حمران وسليمان فقيه وبخش والمغربي والمهيدب..) إلخ..

ماذا بعد أن عرفت أيها الملك؟

وفي رد على نتائج الإستطلاع قال موسى (في ثنايا ذات الإستطلاع نسي الإخوة أن يمروا على أرملة يحيى بن هادي، وأيتام صالح بن مفرح، وأمام بيت شايعة بنت جارالله، وغامية بنت عبدالهادي. بقي عليهم أيضاً زيارة هاروب وجبل منجد والزاوية الجنوبية الغربية من درب آل موسى والشمالية الشرقية من درب بني شعبة، حيث الآلاف الذين يلتحفون زرقة السماء ويتملكون في جوفهم كل غبار الأرض النقي. هؤلاء هم الطبقة الذين لا يعرفون ثقب الأوزون ولا ثقوب الجيوب. هؤلاء هم أهل السعادة الكاملة، هؤلاء لا يردون في مسح سكاني ولا في نشرة أخبار ولا في استطلاع شارد عن الحب والكراهية ولا السعادة ولا البؤس. هؤلاء يعيشون اليوم بلا مصطلحات).

يضيء الإستطلاع والتعليق على المساحة الأكبر المجهولة قصداً أو سهواً، حيث يغمر النفط المشهد الإقتصادي لبلد يراد له أن يصوّر على أنه فردوس الأرض. وكما جرت العادة دائماً أن يتم تقديم الوقائع النافرة في هيئة حقائق تامة، بدءً من التكوين الإجتماعي للسكان، والإلتزام الديني الصارم، والمستويات المعيشية المتكافئة والمزدهرة، وصولاً إلى النظام السياسي المستقر.

يبدو مستغرباً دائماً أن يعاني بلد يعمل فيه مايربو عن 6 ملايين أجنبياً (ويستعد لاستقبال مايربو عن مليون ونصف المليون عاملاً أجنبياً جديداً) من البطالة بنسبة عالية، كما يبدو مدهشاً أن يعيش مواطنون في بلد يحصد ما يقرب مليار ونصف المليار دولار يومياً في بيوت من الصفيح، أو أن يسكن أكثر من نصف سكانه في بيوت مستأجرة، أو أن يكون 70 بالمئة من مدارسه عبارة عن بيوت مستأجرة، بعضها غير صالح للدراسة أو الإستعمال.

كان إرتفاع مداخيل النفط بوتيرة متسارعة قد بعث آمال ملايين المحرومين، الذين بلعوا أحزانهم، ومعاناتهم، وأيضاً أحلامهم بانتظار فرج إقتصادي. ولكن ما لبثت تلك الآمال أن تبدّدت، حيث تحوّلت الزيادة في مداخيل النفط الى نقص في حاجات الناس، وزيادة في متطلبات الحياة. فمنذ بدأت أسعار النفط بالإرتفاع، أصبح حديث الناس يدور حول (الغلاء)، غلاء أسعار المواد التموينية، ليشمل كل شيء تقريباً قابل للبيع والشراء. فقد وصلت أسعار بعض المواد الغذائية الى ضعف ما كانت عليه قبل عام، وتذكر المصادر الرسمية بأن نسبة التضخم قد بلغ 10 بالمئة، ولكن حقيقة الأمر كما يدركها المواطن العادي غير ذلك، فالزيادة في مرتبات موظفي القطاع العام التي أعلن عنها الملك قبل عام بنحو 15 بالمئة قابلها تضخم بنسبة 45 بالمئة.

هذا مثال على نجاح (صندوق الأجيال)!

تأتي أزمة الغلاء بعد عام تقريباً على انهيار سوق الأسهم، الذي أفضى الى تآكل سريع في الطبقة الوسطى، وأدخل أعداداً غفيرة من العوائل في مجتمع الفقراء، إضافة إلى أكثر من مليون مضارب يعانون من أمراض نفسية. في هذا البد النفطي الذي يزعم الاستطلاع بأنه الأول عربياً من حيث السعادة، مازال يعاني السكّان من تردّي الخدمات العامة: الكهرباء، والماء، وتفشي الأمراض. في هذا البلد السعيد جداً يتم إيصال المياه الى البيوت عبر صهاريج، وقد تنقطع المياه لعدة أيام، أما المياه الصالحة للشرب فذلك حلم لا يجوز البوح به حتى لا يكون مورد سخرية.

الزيارة التي قام بها ولي العهد حينذاك عبد الله بن عبد العزيز (الملك حالياً) لبعض الأحياء الفقيرة في الرياض في نوفمبر 2002، قدحت شرارة نقاشات واسعة على امتداد حدود المملكة بشأن أوضاع ملايين الفقراء الذين لم تشأ أضواء الإعلام المحلي والخارجي أن تصل إليهم أو التعرّف عليهم بسبب الرقابة الصارمة المفروضة على النشاط الإعلامي أو بفعل الصورة النمطية عن مملكة النفط والتي شكّلت غمامة كثيفة غطّت على حقائق مستورة.

ليس هناك في الخارج من يتخيّل أن يسكن الفقر إلى جانب الثروة النفطية، فتلك مساكنة مستحيلة في مخيال كثيرين خلف حدود المملكة. فالأمراء والعوائل المتحالفة معهم ينعمون في تحالف تجاري واسع النطاق، وهم وحدهم من يرسم صورة المملكة لمن لا يعرف تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين، ولذلك لا غرابة أن يقع القائمون على استطلاعات حول أوضاع السكّان في السعودية تحت تأثير خديعة السعادة الموهومة. وإذا كان المشهد العام للمجتمع يجري إختزاله في عشرات الأفراد من أمراء وتجّار كبار يملكون مئات المليارات من الدولارات، ويكفي واحداً منهم أن تشمل حساباته البنكية في سويسرا ما يفوق موازنات دول عربية، وأن يجني من حساب من واحد فحسب (من أصل عشرين حساباً) أرباح تقدّر بثلاثة ملايين دولار في اليوم الواحد. وكل هؤلاء قد تخرّجوا من مدرسة الملك فهد سابع ثري في تاريخ البشرية بثروة قدّرت بنحو 400 مليار دولار، وها هو الأمير سلطان، ولي العهد الأمين جداً للملك عبد الله، ينوي كسر الرقم ليحتل مرتبة متقدّمة في الثراء.

حفنة من الأمراء تسيطر على نسبة 80 بالمئة من مداخيل النفط سواء عن طريق المخصصات المباشرة، أو في هيئة عقود تجارية نفطية وصفقات تسلّح فلكيّة يتم إبرامها على هيئة مقايضة السلاح بالنفط. في مقابل تلك الصورة، تختفي صورة حقيقية مأساوية تضم غالبية السكّان، حيث تندثر الطبقة الوسطى، وتتسع مساحة الحرمان.

إرفع رأسك أنت في دولة ملك الجيوب!

وفي بلد تبدو فيه الإستجابة لحاجات المواطنين خياراً إضطرارياً وطارئاً، لم يكن تشكيل (لجنة مكافحة الفقر) من قبل ولي العهد حينذاك، الملك حالياً مجرد سبق إنساني على وضع لم يكن موجوداً، وإنما لأن ثمة أزمة عميقة بات إنكارها منكراً عظيماً. وقد أوردنا في أعداد سابقة ما ذكره مدير اللجنة سالفة الذكر سنة 2003 بقوله أن 30 بالمئة يعيشون تحت خط الفقر، وأن المملكة بحاجة إلى 20 سنة لوقف تمدّد الفقر إلى شرائح إجتماعية جديدة. وبلغة الأرقام، فإن 30 بالمئة تعني نحو خمسة ملايين مواطن يعيشون تحت خط الفقر. المشكلة لا تقف عند هذا الحد، فثمة مشكلات أخرى لا تقل خطورة، وبلغة الأرقام أيضاً فإن مايربو عن عشرة ملايين مواطن يواجهون أزمات قروض طويلة الأجل. ولابد من التذكير هنا إلى أن إنهيار سوق الأسهم سنة 2007، ومن ثم غلاء أسعار المواد التموينية قد ضاعف من اعتماد الغالبية العظمى من السكّان على نظام الإقتراض البنكي الذي ضاعف في الفترة الأخيرة من وتيرة نشاطه في ظل تراجع القدرة الشرائية لدى المواطنين، وتضاعف متطلبات العيش.

لقد أفضى انهيار سوق الأسهم إلى تآكل سريع في الطبقة الوسطى، وأصبحت ثمانية ملايين محفظة عرضة للإفلاس التام، فيما تحوّل كثير من أصحاب المحافظ إلى فقراء حقيقيين، دع عنك التداعيات النفسية والإجتماعية والإقتصادية التي تركها الإنهيار على العوائل والأفراد. وبالرغم من غياب مؤسسة إحصاء معتمدة تضطلع بتقديم أرقام دقيقة عن تأثيرات انهيار سوق الأسهم، فإن ما رشح من معطيات ينطوي على دلالات بالغة الخطورة، فقد لوحظ بأن معدل الإنتحار في السعودية قد تضاعفت خلال العامين الماضيين.

وليس ذلك مستغرباً، فبعد أن إضطر وزير العمل غازي القصيبي للكشف عن الرقم الحقيقي للبطالة بعد أن كان الرقم المتداول 60 ألفاً من أصل 150 عاطل بعد حملته الشهيرة، حيث تبيّن أن عدد العاطلين كان أعلى من ذلك بكثير وما أعلن عنه قد يخفي جزءً جوهرياً من الحقيقة أيضاً، فقد أصبح نصف مليون، بحسب القصيبي، عاطلاً عن العمل، (وحقيقة الأمر أن عدد العاطلين عن العمل تجاوز المليون عاطلاً). ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى ارتفاع نسبة الجريمة. وبحسب إحصاءات رسمية فإن نسبة الجريمة ارتفعت بين العاطلين عن العمل الى 320 بالمئة.

شاهدة على منجزات (لجنة مكافحة الفقر)!

وبالرغم من صعوبة التعويل على الاحصاءات الرسمية المعلنة بخصوص عديد العاطلين والفقراء والمنتحرين، فإن ثمة ما لا يمكن إخفاؤه من وقائع ماثلة للعيان تعكسها الحياة اليومية لملايين المواطنين، مهما بشّرت تصريحات الأمراء والوزراء بغير ذلك، من قبيل ما ذكره وزير الشؤون الإجتماعية قبل نحو عام بأن الحكومة قضت على الفقر المدقع عام 2006 وبقي فقر ما دونه، بشارة ما لبثت أن خضعت للتعديل من قبل وزير الإقتصاد والتخطيط خالد القصيبي حين قال بعيد ذلك بأن الحكومة ستقضي على الفقر المدقع في عام 2009. لكن ما غاب في (بشارات) الوزراء كان كفيلاً بتبديد آمال الملايين، أعني أزمة غلاء الأسعار، حيث بات كثيرون عاجزين عن الإيفاء بالحد الأدنى من الحاجات المعيشية الضرورية.

من الطبيعي أن تطلق الأزمات المعيشية المتصاعدة موجات سخط وأشكالاً من التمرد التي قد تتبلور في إطار حركات عنفية يحرّكها الحرمان في التعبير عن مطالبها المشروعة، خصوصاً مع تهافت مبررات الحرمان من قبل الدولة، التي تشهد طفرة إقتصادية غير مسبوقة في تاريخها. لماذا لم نسمع عن نتائج ملموسة لمشاريع مكافحة الفقر، وإسكان الفقراء، ومحاربة البطالة، فيما تملؤ أسماعنا وأبصارنا أنباء وصور الفقراء والعاطلين، وزيادة معدلات الجريمة والطلاق والمرضى النفسيين والإنتحار..وهو سؤال برسم من أجروا المسح، الذين كان يفترض فيهم الإطّلاع على أحوال البلاد والعباد قبل أن يعلنوا نتائج ليست فقط حالمة وغير واقعية بل تثير شكوكاً في من أجراها، خصوصاً في ظل أحاديث كثيرة عن (تمويل سعودي) لكثير من المؤسسات الإعلامية والبحثية والإستطلاعية في العالم من أجل تحسين صورة المملكة. فهل سأل هؤلاء المسحيون عن مصير الفائض المالي في موازنات الاعوام الثلاثة الماضية، وفي أية بنوك أودعت، وعن سر الصفقات العسكرية الفلكية التي جرت بين السعودية والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.. في وقت مازالت فضائح اليمامة تتدفق بمرور الوقت.

كيف يقنع المسحيون خمسة ملايين فقيراً، وعشرة ملايين مديوناً، وتسعة ملايين مستأجراً، ومليون عاطل عن العمل، بأنهم من أسعد الخلق عربياً، فيما تنعم الشعوب المجاورة لهم في الجانب الغربي من الخليج بأحوال معيشية أفضل بكثير مما هي عليه في بلادهم (راجع الأعداد السابقة من الحجاز)؟

هل لأن البلاد تجني مليار ونصف المليار دولار يومياً، يجعل أهله من الأكثر سعادةً وكأننا نتحدث عن مملكة يحكمها أمراء يتفجّر الورع من جوانبهم، وتقصر أيديهم عن المساس بالمال العام الذي هو حق للعباد كافة في هذه البلاد. مع أن القاصي والداني يعلمان بأن أمراءنا مشغولون بتحرير المال العام من قبضة الدولة، التي أصبحت متاعاً لهم ولأبنائهم.

الصفحة السابقة