صراع الأجيال السلفية

بين تصنيم الدولة وتجريمها

محمد الأنصاري

الوهابية الرسمية: نموذج تسويقي

على الضد من الإيمان التقليدي بمفهوم الأمة، تبدو إشادات علماء المذهب الوهابي بالدولة السعودية تعبيراً عن حاجة، ومصلحة، وهدف أكثر من كونها تعبيراً عن موقف ديني مجرّد. بعد تشكّل خطوط أيديولوجية على قاعدة سياسية داخل المدرسة السلفية خلال العقدين الماضيين، بات العلماء التقليديون الذين ينتمون إلى كبار السن يشكّلون طبقة متجانسة تمارس دوراً مزدوجاً في الحراسة على العقيدة وحماية المشروعية الدينية للدولة.

قبل الإنشقاق العمودي في التيار السلفي إبان حرب الخليج الثانية سنة 1991، كان كبار العلماء يواجهون معارضي الدولة من القوى الوطنية والعلمانية واليسارية بخطاب عقدي شمولي، تعكسه كلمات التزكية والتنزيه للدولة السعودية التي أطلقها العلماء. ففي كلمة للمفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز إن (العداء لهذه الدولة عداءٌ للحق، عداءٌ للتوحيد)، وفي كلمة للشيخ محمد بن عثيمين (لا يوجد ـ الحمد لله ـ مثل بلادنا اليوم في التوحيد وتحكيم الشريعة)، فيما أشاد الشيخ صالح بن فوزان الفوزان بدعم الدولة للمناشط الدعوية، وقال بأنها (منذ نشأت وهي تناصر الدين وأهله، وما قامت إلا على هذا الأساس، وما تبذله الآن من مناصرة المسلمين في كل مكان بالمساعدات المالية، وبناء المراكز الإسلامية والمساجد، وإرسال الدعاة، وطبع الكتب وعلى رأسها القرآن الكريم، وفتح المعاهد العلمية، والكليات الشرعيّة، وتحكيمها للشريعة الإسلامية، وجعل جهة مستقلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كل بلد؛ كل ذلك دليل واضح على مناصرتها للإسلام وأهله..).

ابن باز: العداء للدولة عداء للحق!

هذه الإشادات، على أية حال، لا تقف عند مستوى تزكية الدولة، وإنما تنطوي على إلزام لها أيضاً، فهي ليست إشادة مفتوحة وغير مشروطة، بل هو توصيف لما تجب أن تكون عليه الدولة، وهو ما يدركه رجال الدين والدولة معاً، وقد عبّر عن ذلك الشيخ ناصر العمر في مقالة له عن مفهوم (ولي الأمر)، حين أوقف مشروعية الدولة على امتثالها بالتعاليم المذهبية.

يتم تفسير موقف العلماء من الدولة بصورة موحّدة وتكرارية على هذا النحو: لا بد لكل دعوة من دولة تضطلع بحمايتها ومناصرتها، وأن ضمان ديمومة الدعوة يتوقف على وجود السلطان المؤازر لها، لأن في بقائها بقاءها وفي قوتها قوتها، وإنما تنتصر الدعوة باحتضان الدولة لها ودعمها. تملي هذه الحميمية إلتزاماً متبادلاً، كما تفرض على الدعاة تنزيه الكيان الضامن لوجودهم، وتذكير المجتمع/ المحكوم/ الرعيّة بمشروعية الدولة وطهرها الديني بدرجة أساسية، وما يستتبعه من فروض الطاعة والولاء للسلطة.

يشي الربط بين الدين والسلطة في رجال الدولة بنزوع نحو إبقاء الأخيرة ضمن الضوابط الدينية والإجتماعية والسياسية التي رسمها التحالف التاريخي بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكانت المرحلة المعيارية في التاريخ الإسلامي، نموذجاً إرشادياً يراد إعادة إنتاجه في التجربة الوهابية السعودية، حيث يتم التأكيد على أن الدولة السعودية هي (خلافة نبوة)، ولهذا يمكن تفسير إسباغ صفة إمام المسلمين على محمد بن سعود، وقد عكس علماء الدولة السعودية الثانية الذين نعوا زوال الملك السعودي الوهابي، بفعل انحراف السلطة عن حدود الشرع، فحوّلوا السلطة إلى شأن دنيوي وملك.

القراءة السلفية لتجربة الدولة السعودية وأيضاً مشروعيتها تتوسّل بالمتابعة المتوالية للدعوة والامتثال الصارم لتعاليمها، كشرط الجمع بين مهمتي الدعوة والدولة، أو بالأحرى تحويل الدولة إلى مشروع دعوي، وإسباغ لقب الإمام على الحاكم من آل سعود.

تحتفظ الذاكرة السلفية بتجارب ملوك سعوديين نالوا وسام الإمام، بفعل تطبيقهم الأمين للتعاليم الوهابية، فبعد رحيل محمد بن سعود، الذي تقلّد منصب الإمام بالرغم من وجود مؤسس المذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، تولى عبد العزيز بن محمد، الوارث لسلطتين دينية زمنية بعد وفاه والده الحاكم، ووفاة الشيخ إبن عبد الوهاب، فمسك بزمام الإمامة، وتولى بنفسه إمامة المصلين وخطبة الجمعة، وشجّع دراسة العلوم الشرعية في الجوامع. ولكن من جاء بعده لم يقتف ذات السيرة فأحال الدولة إلى شأن دنيوي، الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف إلى نهاية الدولة السعودية الأولى. في تقويم العلماء، أن حفظ الدولة وديمومتها متوقف على امتثالها بخط الدعوة، وأن الدين وحده الكفيل بتزويدها بضمانة البقاء على قيد الحياة.

تنبّه أمراء آل سعود إلى أن دولتهم تبقى على الدوام عرضة لخطر الفناء ما لم تستعر معنى دينياً تحققه العلاقة الحميمية مع العلماء. ولذلك، قرر تركي بن عبد الله، في الدولة السعودية الثانية، العودة إلى إحياء المفهوم الديني الصارم لعقيدة التوحيد، وترسيخ قواعد الدولة في الوسط الإجتماعي السلفي من خلال تفعيل العلاقة بين العلماء والأمراء، حيث استعان بالشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ ومن بعده إبنه الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ، الذين توليّا الشؤون الدينية للدولة.

ذات الإشكالية تكررت في عهد عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة، حين قرر خوض معاركه نحو السلطة مستقلاً عن دعم العلماء. وكما أسلفنا في العدد السابق، فإن عبد العزيز كان يراهن في الفترة ما بين 1902 وحتى 1914 على مشروع سياسي على قاعدة (إستعادة ملك الآباء والأجداد)، ولكنه اصطدم بحقائق كبرى على الأرض التي يقف عليها، فهو أمام سلطة آل الرشيد، وحركة الأخوان التي أسسها عبد الكريم المغربي وقادها لاحقاً فيصل الدويش وسلطان بن بجاد، إضافة إلى سلطة العلماء المتمثّلة في آل الشيخ وعوائل أخرى دينية شكّلت شبكة من التحالفات الإجتماعية النجدية التي لا يمكن لأية قوة قبلية تجاوزها، ما لم تؤسس لرابطة من نوع ما معها.

وبالرغم من إنتماء آل الرشيد إلى العقيدة الوهابية، إلا أنهم لم يؤسسوا لسياسة إستيعابية تخترق الخطوط القبلية الأخرى أو تمهّد لتحالف مع القوة الدينية الكبرى في منطقة نجد، ويعود ذلك إلى غياب تجربة تحالف سابقة بين آل الرشيد والعلماء الوهابيين. ولم يكن عبد العزيز بارعاً بدرجة كافية في اختراق المجالات الحيوية للقبائل النجدية لولا استعانته بتجربة التحالف الوهابي السعودي، وتقاربه مع العلماء الذين مهّدوا لنجاح مشروعه السياسي من خلال تقديمه كوارث شرعي للسلطة، وأيضاً تثمير تحالفهم مع زعماء القبائل القويّة والمسلّحة في إقليم نجد.

في الفترة ما بين 1914 ـ 1926، أظهر عبد العزيز نزوعاً متطرّفاً في التزامه بالتعاليم الوهابية، وتقمّص شخصية رجل الدعوة المتزّمت، فكان يكفّر سكان المناطق الأخرى سواء في الحجاز أو الأحساء، وكان يردد ما يعتقده علماء المذهب في سكّان العراق وبلاد الشام ومصر، الأمر الذي منحه موقعاً فريداً وسط أنصاره الجدد، وكذلك العلماء الذين اعتبروه إماماً للدين، وحارساً على دعوة التوحيد، ودعوتهم الى تمكينه ونصرته كيما يوحّد الجزيرة العربية على العقيدة السلفية، وإرغام سكّانها على الدخول فيها.

ابن عثيمين: دولة التوحيد الوحيدة!

وكان إنشقاق قادة الإخوان عن مشروع عبد العزيز بعد احتلال الحجاز، على خلفية تعطيل الجهاد، وتنصّله من التزاماته الخاصة بمدّ مساحة الدعوة الى المناطق المجاورة، وقبوله بالمعادلة الجيوبوليتيكة الإقليمية والدولية التي رسمها البريطانيون بالاتفاق مع الفرنسيين، وتداعياتها على الوحدة الداخلية للجيش العقائدي لابن سعود، قد أفضى إلى تخليه عن صفة الإمام الأعظم، ما يجعله مجرد إمام أصغر، تمهيداً لمرحلة إنتقالية يكون فيها عبد العزيز ملكاً دنيوياً.

ولكن، بالرغم من ذلك، إلا أن إبن سعود وحتى بعد إعلان دولته سنة 1932 حافظ على صفته الدينية، ولم يقرر التخلي عن لقب الإمام بصورة نهائية. ونلاحظ أن ثمة إصراراً متواصلاً على تأكيد الصفة الدينية للحكّام السعوديين. ففي الفترة ما بين 1954 ـ 1962 تعرّضت المصداقية الدينية للدولة السعودية إلى إمتحان خطير خلال عهد الملك سعود، الذي كان ينظر إليه بوصفه خروجاً صارخاً عن خط العلاقة بين الدعوة والدولة، وقد نأى العلماء الوهابيون بأنفسهم وأتباعهم عن البلاط السعودي، الذي بات الفساد المالي والإخلاقي يحيط بجوانبه كافة، الأمر الذي سهّل مهمة توظيف العلماء في صراع الأجنحة على السلطة، ونجح المناهضون لسياسة الملك سعود في الحكم بإقناع العلماء بإصدار فتوى داعمة لتنحيته عن العرش.

وبعد صعوده الى العرش، واجه الملك فيصل تحديات داخلية وخارجية ترتبط بالأيديولوجية المشرعنة للدولة السعودية، في ظل الصعود المتواصل وبوتيرة متسارعة لنجم القومية العربية بقيادة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، والتي تركت تأثيراتها المباشرة والفاعلة على الداخل، برزت في تشكيلات قومية تطالب بتعميم النموذج الناصري في الجزيرة العربية. أعاد الملك فيصل في رد فعل على انتشار الثقافة القومية، إحياء المفهوم الديني للدولة السعودية، وقرر إسباغ صفة الإمام على منصبه السياسي، فأصبح ملكاً وإماماً، وفتح الباب أمام العلماء كيما يمارسوا دور العاضد لمشروعية الدولة، وبرز الشيخ محمد بن إبراهيم كمفتي عام للمملكة يمدّها بالفتاوى الدينية، ويستقطب العلماء الكبار من أجل تشكيل ما يمكن وصفه بجبهة ردع ديني في مواجهة تحديات القومية الناصرية، التي تعرّضت لانتقادات حادة من العلماء. وبالرغم من أن الشيخ محمد بن إبراهيم عارض تسرّب بعض القوانين الأجنبية التي يصمها بالكافرة الى النظام القضائي السعودي، إلا أنه عبّر في مواقف عدّة عن معارضته للخروج على الدولة السعودية أو تعريض وجودها للخطر.

لم يحد الملوك السعوديون اللاحقون عن ممليات التحالف التاريخي بين الوهابية وآل سعود، بالرغم من الصدامات المتقطّعة التي وقعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة سواء من خلال حركة التمرد التي قادها جهيمان العتيبي في نوفمبر 1979، أو النشاطات الإحتجاجية التي قادها مشايخ الصحوة في التيار السلفي الناشط إبان أزمة الخليج الثانية، والتي أنجبت معها خطوطاً فكرية وسياسية متنوّعة، ثم تظهّرت في هيئة راديكالية بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001.

في انتفاضة جهيمان العتيبي، لم تكن المشروعية الدينية للدولة السعودية قد خضعت بعد لتحدّ جاد، ولذلك لم يكن الملك خالد بحاجة إلى زيادة الجرعة الدينية، رغم ما عرف عنه من بساطة ومحافظة، لا يخفف ذلك من غلواء الأمراء السديريين الذين مارسوا في عهده اقترافات غير مبررة، مثل تصفية عوائل المتمرّدين في انتفاضة الحرم جسدياً خشية الثأر.

وبعد وصوله الى العرش سنة 1982، جنح الملك فهد إلى تصعيد الخطاب الديني لمواجهة النموذج الديني الذي بشّرت به الثورة الإيرانية، فأضفى على منصبه لقب خادم الحرمين الشريفين، وفتّح الأبواب أمام العلماء والدعاة وطلاّب الشريعة كيما يحققوا أكبر اكتساح في تاريخ الدولة السعودية الثالثة. وكان من المفارقات المثيرة للدهشة، أن تلتقى نزعتان في عهد واحد، الإنفتاح الفارط على الغرب والولايات المتحدة بما تنطوي عليه من أشكال فساد متنوّعة، وإحياء للنزعة الدينية المتزّمتة التي أطلقت العنان لنشوء تيار سلفي واسع تمدّد خارج حدود سيطرة الدولة، وفي باطنه نشأت أنوية الجماعات المسلّحة التي وجدت طريقها في المرحلة الأولى الى أفغانستان ومنه إلى جمهوريات آسيا الوسطى، ثم أخذت شكلها التنظيمي المسلّح بقيادة أسامة بن لادن.

ما يلفت في عهد الملك فهد، وخصوصاً في فترة احتدام الصراع بين التيار السلفي والدولة، أن ثمة إصراراً لدى الإدارة الأميركية على ضرورة إدخال إصلاحات جوهرية في النظام السياسي السعودي من أجل تخفيف الإحتقان الداخلي، خصوصاً بعد أن عبّرت قوى سياسية مختلفة في عرائض عدّة عن مطالب صريحة بضرورة وضع دستور للدولة، وإجراء إنتخابات تشريعية، وإصلاح النظام القضائي، وتطوير النظام التعليمي، وتخفيف القيود المفروضة على الحريات العامة، والسماح بمشاركة المرأة في الحياة السياسية. إلا أن الملك فهد تمسّك بخيار المواجهة مع الظواهر الاحتجاجية.

الوهابية التكفيرية: النموذج الأصلي

(كيف يصبح السعودي إرهابياً عالمياً؟) سؤال طرحه الاعلامي السعودي المقرّب من العائلة المالكة عبد الرحمن الراشد بعيد مواجهات المسجد الأحمر في باكستان، وتعقيباً على إعلان السفير السعودي لدى باكستان نفى فيه وجود سعوديين بين مقاتلي المسجد الأحمر. لم يكن سؤالاً محايداً، بطبيعة الحال، وإنما هو منتوج تجربة مريرة وبيئة متلبّدة بهواجس التورّط من قبل أشخاص ينتمون إلى المدرسة السلفية، أو خضعوا تحت تأثير التعليمات الدينيوية من قبل أمراء الجهاد.

العمر: بدون الوهابية الدولة كافرة

ما عنى به كثيرون بمن فيهم كتيبة الإعلاميين السعوديين المقرّبين من العائلة المالكة هو الآثار التي تركها الفعل القتالي للجماعات السلفية، في محاولة تنطوي على نزعة هروبية من تشخيص بدقة بالغة (المضخ الأيديولوجي) الذي يمارس دور الشاحن للعاطفة الدينية الفطرية كيما تتحوّل في لحظة ما الى مادة شديدة الإنفجار.

كل أولئك الذين تشكّل وعيهم بالفعل الجهادي السلفي ينطلقون من موعد الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 بوصفه التظهير المدوّي لأيديولوجية دينية متطرفة عكفت على إخفاء هويتها العملانية لعقود طويلة. الهوية العالمية للإرهاب السعودي لم يبدأ في الحادي عشر من سبتمبر، وإنما بدأ قبل ذلك التاريخ بقرنين حين تم صوغ نظرية كونية تقوم على ثلاثة أضلاع: التكفير، العزلة، الجهاد وصولاً إلى تأسيس الخلافة بالمقاييس السلفية.

يمثّل كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية)، الذي جمعه الشيخ عبد الرحمن بن محمد القاسم الحنبلي النجدي، وطبّع عدّة مرات بتمويل من الأمراء، مصدراً أساسياً للذاكرة الوهابية، إذ يضم (مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عصرنا هذا)، علماً بأن الشيخ عبد الرحمن ابن القاسم توفي عام 1392هـ. يشتمل الكتاب، إضافة إلى جوانب أخرى هامة، أحكام بالتكفير ضد فرق، وقبائل، ومناطق، ومذاهب وعلماء. فقد وصف علماء المذهب الوهابي علماء نجد غير الوهابيين وكذلك القضاة بالجهل بالإسلام، وأن علماء الحنابلة وغيرهم الذين عاصروا الشيخ محمد بن عبد الوهاب مشركون شركاً أكبر يخرجهم من الملّة، وأن المسلمين بنجد والحجاز ينكرون البعث، وأن مكة والمدينة ديار كفر وأهلها كفّار، وتتسع قائمة الكفار لتشمل: البدو، وقبيلة عنزة، والظفير، وأهل العيينة والدرعية، لتستوعب السواد الأعظم من المسلمين، وتكفير من يتحرّج من تكفير من (كفّرهم الله!)، وتكفير أهل الوشم وسدير والإحساء ونجد، بحجة عبادة الحجر والشجر، وتكفير بلاد الشام ومصر والعراق.

ويظهر من منهج التكفير الوهابي أنه يؤسس لأيديولوجية كونية ترى في العالم كفراً مباحاً، يقتضى الإنسلاخ منه من أجل التأهّب للإنقضاض عليه في مرحلة لاحقة.

لم يكن من قبيل المصادفة المحض أن يتسنّم السعوديون المرتبة الأولى في قائمة المقاتلين أينما كان للفعل الجهادوي جولة منذ الحادي عشر من سبتمبر (15 من أصل 19 إنتحارياً)، أو في العراق حيث احتّل السعوديون المرتبة الأولى في قائمة الإنتحاريين، أو في عدد المقاتلين المعتقلين، واكتشاف أن ثلثي المقاتلين في نهر البارد هم إما من السعوديين أو من المنخرطين في مجاميع قتالية يقودها سعوديون، إلى جانب سلسلة طويلة من العمليات القتالية في المغرب العربي (الجزائر والمغرب وموريتانيا)، وجنوب شرق آسيا، دع عنك أفغانستان وباكستان.

ما يخطىء الإعلامي السعودي في تشخيصه هو أن تحوّل السعودي السلفي إلى مشكلة عالمية لم يكن طارئاً، تماماً على الضد من دعوى المسالمة التي لم تكن واردة في التكوين الأيديولوجي والتربية الجهادية لدى أنصار المدرسة السلفية السعودية. فمن يتحدّث عن (المعضلة السعودية) ينطلق من لحظة وعيه بظهور زعيم القاعدة أسامة بن لادن، فيما يجهل تاريخاً ناشطاً من العمل العنفي الداخلي والإقليمي، مع إلفات النظر إلى أن من يتحدث عن البعد العالمي للعنف السلفي السعودي لا يقدّم بالضرورة شهادة براءة للبعدين المحلي والإقليمي.

وكما جرت العادة، فإن المشكلة لا ينظر فيها ما لم تأخذ بعداً عالمياً، خصوصاً حين يكون لهذا البعد إرتدادات محلية، مرتبطة بمكانة وسمعة وروابط الدولة بالعالم الخارجي ـ الغربي ـ الحليف. ومهما يكن، فإن من ينزع نحو توظيف كل أدوات الدفاع العفوي أو المقصود ضد الإتهامات الخارجية، قد استنفذ كل طاقته بعد أن توصّل إلى حقيقة كونه يدافع عن قضية خاسرة سلفاً، فالأدلة المتراكمة لا تعطي مجالاً للإبداع في الدفاع، فضلاً عن ابتكار وسائل مراوغة بعد أن ضاقت مساحة المناورة، فالتطرف السعودي ليس مخلوقاً جديداً، تماماً كما أن الرؤية السياسية المتمرّدة ليست مستوردة من الخارج، فالمكتبة السلفية الحديثة حافلة بكل ما من شأنه إقناع العالم كله بأن التطرف ليس بحاجة إلى معين من الخارج، بل فيها ما يكفي للتصدير إلى أرجاء العالم.

الدويش: قائد مطير الإخواني

بالنسبة لأولئك الذين يشعرون بالقلق من الوقوع في مصيدة (هوية) الإرهاب ومصادره، لا يجادلون طويلاً في تحديد مغذّيات التطرّف، بقدر انشغالهم بعدد الضحايا المحليين الذين يقتنصهم من في الخارج لتحقيق مآرب سياسية، تكون بالضرورة حسب الرواية الإعلامية السعودية الرسمية، خارجية هي الأخرى.

نجزم بأن هناك من يشعر الآن بخيبة أمل من إعادة إنتاج التراث السلفي الحديث، لأنه سهّل على الباحثين مهمة العثور على أدلة دامغة حول الدور الكامل في تنشئة التطرف وتجنيد المقاتلين وتوفير مصادر تمويلهم، فمنظومة المهمات التي يضطلع بها الداخل باتت تعبيراً مطلقاً وشاملاً عن (الخصوصية السعودية)، وأن مجرد إقحام أسماء جماعات دينية في الخارج سواء من مصر أو سوريا أو الأردن، لا يؤدي أكثر من وظيفة تشويشية مؤقتة، لأن الدراسات الأكاديمية التي أعدّت منذ عقود حول هذه الجماعات لا تدع مجالاً للشك في حدود التطرّف التي يمكن أن ترسمها الأفكار المتشددة المنتجة في بلدان المنشأ.

بالنسبة للسعودية التي بقي المفعول القتالي لفكرها الديني السلفي خارج النشاط الأكاديمي لعقود طويلة، ولم يتنبّه لهذا المفعول إلا بعد أن دكّت الطائرات الإنتحارية البرجين العملاقين في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر، بات رأسمالها الثقافي متداولاً في الأسواق، في وقت إنكبّ فيه الباحثون الشرقيون والغربيون على سبر الأبعاد المسكوت عنها في المدرسة السلفية.

تحرّكت السلطات السعودية على نحو عاجل من أجل التمويه على مفاعلها الأيديولوجي الراديكالي من خلال الإنخراط واسع النطاق في نشاطات تندرج تحت عنوان الحرب على الإرهاب، لجهة صنع غمامة من التجهيل بالجذور الخفية للتطرّف والمنبع الأساسي للأيديولوجية القتالية.

وفيما يصيب اليأس كل المنافحين عن الموقف الرسمي، خصوصاً حين يكتشفون وقد تحوّل المقاتل السعودي إلى مجرد سلعة للتداول بين جماعات ودول لتحقيق مآربهم السياسية، إذ يتحوّل المقاتل السعودي الى قنبلة بشرية جاهزة للإستعمال في أي وقت وفي أي مكان، بعد أن ينهي الطرف المستغل برمجة القنبلة بطريقة تخدم هدفاً مرسوماً سلفاً، يتحوّل المنافحون بعد ذلك إلى مجرد (نعاة) يندبون حظ شركائهم في الوطن وربما المنطقة والمذهب لأن هناك من نجح في تثمير (سذاجة) المقاتل السعودي كيما يصبح (ألعوبة) بيد الموت، الذي يسوقه نحو قضية لا يعرف طبيعتها ولا الهدف من وراء التضحية تحت عنوانها.

الآن، وبعد أن هدأت زوبعة الدفاع العفوي والمقصود، وبات الحديث يدور عن تسوية جذرية لمعضلة بالغة التعقيد وعميقة الغور، تصبح الوجهة الصحيحة نحو البحث عن مصادر الوعي السلفي المنتجة لجماعات عنفية، يتحوّل أفرادها الى كارهين للحياة، من أجل جنة موعودة أوحى الماسكون زعماً بمفاتيحها بأنها قد أعدّت للقتلة دون حساب لنوع القتال وأخلاقيات المقاتل المسؤول قبل غيره عن تطبيق حدود الشرع، وحفظ الأرواح وليس وأدها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في القصاص حياة، ولم يرده تأسيساً لحالة تحارب داخلي بين الناس.

في هذا السياق تضيء دراسة نشرتها مجلة (ميدل إيست مونيتور) في يونيو ـ يوليو 2007، بعنوان (السعودية والوهابية وانتشار الفاشية الدينية السنيّة) أعدّها كورتين وينزر ـ المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط في بداية عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان ـ على ملاحظات ونتائج تستحق إمعان النظر. فالمصاهرة بين العقيدة والدولة ضمن إطار الخلافة الإسلامية كتأسيس أيديولوجي للتحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود، وهبت الأخير وأبنائه سلطة لا يمكن لغير الدين توفيره، فيما شكّلت الدولة رافعة لرسالة كونيّة تقوم على (تطهير الأرض من الكفّار). هي ذات الرسالة، بحسب وينزر، التي أهّلت محاربي الوهابية ـ السعودية سنة 1801 لغزو العراق واجتياح مدينة كربلاء، ونهبها وقتل أربعة آلاف من أبنائها. وبعد سيطرة آل سعود على مكة والمدينة في سنة 1925 ، قاموا بتدمير الآثار والأضرحة في مقبرة البقيع.

يمضي وينزر في مقاربته للنهوض الوهابي الراديكالي، ويرى بأن قيام المملكة في العام 1932 أعطى رجال الدين الوهابيين الذراع الأطول في إدارة الشؤون الدينية والتعاليمية. وبقيت الوهابية محصورة داخل الجزيرة العربية حتى الستينيات من القرن الماضي، عندما هاجر إليها عدد من قيادات الأخوان، صنّفهم وينزر خطأً بكونهم من أتباع سيد قطب، هرباً من بطش نظام عبد الناصر. وهنا ينحرف وينزر في مقاربته والتي تؤسس لسياق تحليلي مختلف، وبالتالي يؤصل لنتائج لا تستند على مقدّمات صحيحة.

يرى وينزر بأن وصول قيادات الإخوان المسلمين الى السعودية أسس لتحالف ديني يتبنى الجهاد (ضد الحكومات العلمانية الكافرة). ويقول وينزر (إن التلاقح بين الوهابية المحافظة إجتماعيا وثقافيا بالقطبية ((سيد قطب)) السياسية الراديكالية أنتج الإسلام السياسي الوهابي الذي بدوره أنتج تنظيم القاعدة). هنا بالدقة تقع نقطة الإفتراق الأساسية في مقاربة وينزر، كونه يسدل ستاراً من الإهمال على تراث ضخم يعود تشكيله إلى منتصف القرن الثامن عشر، حين بدأ الأباء المؤسسون في إرساء أسس البنى النظرية للمذهب الوهابي القائمة على ثلاثة أضلاع: التكفير، الهجرة، الجهاد.

جيش الإخوان

ما يبدو من السياق التحليلي الذي رسمه وينزر، أنه عقد رابطة زمنية متوالية بين سياقين تاريخيين على قاعدة أيديولوجية، بالرغم من أن الرابطة هذه تنطوي على غواية، حين يصرف النظر عن الجذور الأيديولوجية لجماعات العنف التي بلغت ذروتها التنظيمية في شبكة القاعدة. فثمة منابع أيديولوجية مكتومة تتوارى خلف مشهد يراد إحضار بدائل عنه من الخارج (الإخوان المسلمين في مصر)، ما يبعث رسالة خفيّة بوجود ضحايا محليين لخارج مسؤول عن تنشئة ثقافة راديكالية وسط المتحمّسين للدفاع عن الدين وإن تطلب الإيثار بالدم والروح.

وحتى النزعة العالمية للجماعات السلفية المسلّحة التي تتفيأ شبكة القاعدة، لم تكن تتغذى على الفكر الإخواني أو القطبي، وإن مثّل البعد العالمي ركناً أساسياً في استراتيجية عمل جماعة الإخوان. ففي التراث السلفي الوهابي ما يكشف بوضوح عن رؤية كونية تقوم على تكفير العالم بمتطلباتها العملانية: الهجرة والجهاد. هكذا هي الصياغة الأيديولوجية التي قدّمها الشيخ المؤسس محمد بن عبد الوهاب، واشتغل أبناؤه وحواريّوه وروّاد مدرسته الفكرية على تطويرها. وربما كان الشيخ الفوزان في كتابه (التوحيد) شديد الإفصاح في التعبير عن تلك الرؤية الكونية للوهابية حين عارض وضع العالم بأسره في غمار الجاهلية الأولى، واقتطع مساحة صغيرة تستوعب الجماعة الوهابية وتفصلها عن عالم الجاهلية، على أساس أنهم وحدهم من أفلحوا في الوصول الى الحقيقة الدينية وتطبيقها في حياتهم، وبذلك حملوا شعلة الإيمان الديني إلى أرجاء العالم.

ما يجعل وينزر مفتوناً بربط السياقين السلفي والإخواني إبتداءً من الستينيات، ما يتوفّر لديه من مشتركات سواء على مستوى الأفكار، أو الأشخاص، وأخيراً إستراتيجات العمل. ولكن سبراً جاداً وعميقاً للمنابع الفكرية للجماعات القاعدية، على سبيل التمثيل، يضعنا أمام تراث مستقل لا صلة له بالرساميل الحركية والمذهبية في مصر وبلاد الشام.

ما يجدر الإشارة إليه، أن إنتفاضة الحرم في نوفمبر عام 1979، وبالرغم من انخراط عناصر من جنسيات عربية وإسلامية متعددة، لم تطرح قضية المنابع الفكرية الخارجية لقادة الإنتفاضة، كون جهيمان العتيبي ورفاقه درسوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة. يضاف إلى ذلك، أن الكتيبات التي تركها جهيمان مستمدة من التراث العقدي للوهابية حصرياً، وكذلك من تجربة العلماء في الدولة السعودية، والمحن التي واجهوها في معارضة انحرافات آل سعود عن العقيدة.

وكرد فعل، وجدت العائلة المالكة في الغزو السوفيتي لأفغانستان قناة واسعة ومثالية لتصريف التشدد الديني، ومخرّجاً لعبور المتشددين، فقاموا بتشجيعهم بدعم من كبار العلماء وتوفير المال لآلاف من المقاتلين الذين انخرطوا في مشروع الجهاد الأفغاني بالتنسيق مع الاستخبارات الأميركية. ويضيف وينزر بأن السعودية قامت بإنشاء مدارس دينية وهابية للاجئين الأفغان في الباكستان، وهي نفس المدارس التي أنشأت حركة طالبان التي سيطرت على كابول في 1996. وعقب خروج السوفييت، إنتشر (الأفغان العرب) على عدد من البلدان، وشكّلوا خلايا تنظيم القاعدة.

تكفير الدولة السعودية مثّل نقطة انعطاف حاد في فكر الجيل السلفي الجهادي الذي شكّل بدوره ظاهرة إجتماعية وتنظيمية مستقلة عن تأثير العلماء، فأصبح لهذا الجيل، رؤيته العقدية، ومشايخه الذين يصدرون له الفتاوى، وأمراء حربه. لم يكن يتم ذلك إلا بعد أن أخضع مصداقية كبار العلماء للنقد والتكفير، كونهم مالئوا العائلة المالكة ورضوا بقوانين وضعية كيما تندمج في النظام القضائي، وسمحوا بقدوم قوات أجنبية صليبية للدفاع عن جزيرة العربية. ومنذاك بدأ رفع الحديث النبوي (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) شعاراً للعمل الجهادي، والذي طرحه مشايخ الصحوة في التسعينيات من القرن الماضي، وأصبح في عهدة الجماعات القاعدية في الجزيرة العربية التي نفّذت عدّة عمليات عسكرية ضد الأجانب تحت هذا الشعار.

وما قيل عن اتفاق بين رئيس الإستخبارات السعودية السابق الأمير تركي الفيصل وزعيم القاعدة بن لادن في منتصف التسعينيات بأن يلتزم الأخير بعدم القيام بهجمات مسلّحة ضد أمراء العائلة المالكة، مقابل الكف عن ملاحقة بن لادن أو قنوات التمويل المالي للقاعدة، وهو ما يفسر عدم قيام الأخيرة بأي عمليات عسكرية نوعيّة ضد منشآت حيوية حكومية، بالرغم من امتلاك القاعدة لصواريخ وقذائف قادرة على دك مصافي النفط وتعطيل خطوط الإنتاج والتصدير لفترة من الوقت، إلا أن القاعدة أقدمت على ما يعرف بـ (العمليات التذكيرية)، حيث كان الطرفان يضربان في مواقع طرفية يراد منها التحذير من تجاوز الخطوط الحمراء. وبحسب بعض المصادر المقرّبة من القاعدة أن الإكتشافات الأمنية لشبكات قاعدية تخطّط لضرب منشآت نفطية ليست سوى مونتاج لقصة تغيب الحقيقة عن أجزائها الكبرى، ويبرز فيها الاستعراض الأمني مع بعض الرسائل التحذيرية.

في المقابل، واصلت الحكومة دعمها للمدارس الدينية التي تخرّج متطوّعين للقاعدة، كما سمحت للفكر المتطرف المسؤول عن تربية مقاتلين وانتحاريين بالإنتشار. يعيد وينزر تأكيد ما ثبت في تقارير سابقة عن كثافة الجرعة الدينية في المناهج الدراسية الرسمية، حيث أن أكثر من ثلث المناهج في المدارس السعودية مكرّس لتعاليم الوهابية. وإن تأكيدات الحكومة السعودية بحذف الأجزاء ذات الطبيعية التحريضية ضد الأديان الأخرى، إلا أن تقريراً نشره (فريدوم هاوس) سنة 2006، أشار إلى أن الكتب المدرسية مازالت تشتمل على عبارات تحرّض على الكراهية الدينية، ضد الأديان والمذاهب الإسلامية غير المتوافقة مع المبدأ الوهابي. وكان زعيم القاعدة قد عارض في أبريل 2006 تصحيح المناهد الدراسية، في تعضيد لافت لبيان صادر عن رجال دين متشددين ضد إجراء تعديلات أو حذف للمواد الدينية التي تحرّض على العداء ضد الأديان.

ابن سعود: الوهابية للإستخدام

لم تتوقف الفتاوى الجهادية في الداخل، من شخصيات وهابية رسمية وشعبية، بالرغم من البيانات العلنية التي تشكك في مشروعية العمل الجهادي في العراق، وقد جاءت البيانات تعضيداً لموقف سياسي بعد أن واجهت الحكومة السعودية انتقادات واسعة بتورّط مواطنيها السلفيين في دوامات عنف في العراق ولبنان والشمال الأفريقي.

بيانات رجال الدين غير المنتمين للمؤسسة الدينية الرسمية في مناسبات عدّة (الحوار الوطني، تغيير المناهج الدراسية، إجتماع علماء المسلمين في مكة المكرمة، حوار الأديان)، والتي كان فيها الإفتراق بين رجال الدين المتشدّدين المدعومين من الأمير نايف والملك توحي بأن ثمة شكلين للوهابية يتبلوران على وقع التجاذب داخل العائلة المالكة، ويمكن توصيفهما على هذا النحو: وهابية رسمية تمثّل الوجه الخارجي الناعم المنفتح، وهي الصيغة التي يراد تسويقها للعالم الغربي وتحسين صورة المملكة بعد الحادي عشر من سبتمبر يدعمه بعض وسائل الإعلام الفضائي المموّلة بصورة مباشرة من السعودية، ووهابية شعبية، تمثل الوجه الحقيقي المتشدد، وهو النموذج الأصلي التاريخي النقي، الذي منه تستمد العائلة المالكة مشروعيتها الدينية والشعبية في الداخل، وهو أيضاً النموذج الذي يجري تعميمه من خلال حملات التبرع وبناء المدارس الدينية والمساجد في قارات العالم، بل والأخطر أنه المسؤول عن تشكيل حواضن تنمّي نزوعات التطرّف وتخرّج المحاربين العقائديين. وهنا نتفق مع الخلاصة التي توصّل إليها وينزر وهي تفسّر إزدواجية الخطاب الديني الرسمي بأن (همّ السعوديين هو تفادي الصورة الإعلامية السيئة أكثر من التخلي عن هيمنتهم على المؤسسات الإسلامية في أمريكا).

ينقل وينزر عن اليكسي اليكسيف ما ذكره أثناء جلسة الإستماع أمام لجنة العدل التابعة لمجلس الشيوخ في 26 يونيو 2003م بأن (السعودية أنفقت 87 بليون دولار خلال العقدين الماضيين لنشر الوهابية في العالم)، ويعتقد أن مستوى التمويل قد ارتفع في السنوات الأخيرة نظراً لارتفاع أسعار النفط. ويعقد وينزر مقارنة بين هذا المستوى من الإنفاق بما أنفقه الحزب الشيوعي السوفييتي لنشر أيديولوجيته في العالم خلال الفترة من 1921 ـ 1991 حيث لم يتجاوز 7 مليارات دولار.

الوهابية وتأصيل التكفير والقتل

في مقالة بحثية رصد فيها مطلق المنشداوي ما ورد في المصادر الأصلية للوهابية من مسائل في التكفير والقتل، حيث أثبت ما نفاه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من إتهامات بالتكفير. وعدّد مطلق المنشداوي أمثلة كثيرة من الأمور التي نفاها الشيخ عن نفسه وأكثرها موجود في فتاواه، ومنها: إنكاره أنه يبطل كتب المذاهب الأربعة، مع أنه في موضع آخر يسميّها (عين الشرك). وكذلك إنكاره الإجتهاد والخروج عن التقليد، ونفي القول باختلاف العلماء نقمة، أو تكفير التوسّل بالصالحين والبوصيري لقوله: يا أكرم الخلق. وكذلك نفيه بأنه قال لو قدر على قبة رسول الله لهدمها، ولو قدر على الكعبة لأخذ ميزابها وجعل لها ميزاباً من خشب، وإنكاره أنه حرّم زيارة قبر النبي، وزيارة قبر الوالدين، أو تكفير من يقسم بغير الله، وإبن الفارض، وابن عربي، مع أنه في مواضع أخرى يرى بأنه أكفر من فرعون، بل يكفّر من لم يكفّره وطائفته، وأنكر أنه يكفّر جميع الناس إلا من تبعه.

والكثير من الأمثلة مما تبرأ منه موجود في كتبه، وجاء من يقتفي سيرته ويواصل نهجه التكفيري، فقالوا بتكفير من وافق أهل بلده في الظاهر وان كان يرى خطأهم ومحب الشيخ في الباطن، وتكفير قبائل قحطان والعجمان، وأهل حايل، وكل من خرج إلى البلدان إذا كان يرى إسلام أهلها، وتكفير الدولة العثمانية وتكفير من لا يكفّرها وسكّان الحجاز. ويقسّم المنشداوي مسيرة التكفير إلى قسمين: قسم إمتثل لغلو الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التكفير، فكفروا من وافق أهل بلده كالحجاز أو اليمن أو الشام، إضافة إلى تكفير المسافر إلى خارج بلاد الدعوة، كما كفروا إبن عربي وابن فارض، ناهيك عن التصريح بأن مكة والمدينة ديار كفر، وتكفيرهم للدولة العثمانية. وتكفيرهم لقبيلة قحطان وقبيلة العجمان واعتبروا أهل حايل كفار، ناهيك عن تكفيرهم للأباضية والجهمية، والمعتزلة والخوارج والأشاعرة، وتكفير الناس بالحرمين ومصر والشام واليمن والعراق ونجران وحضرموت، وتكفير من لم يكفر أهل مكة، وتكفير من سمى الوهابية خوارج، ثم تكفير من بلغته الدعوة ولم يسلم، وتكفير من دخل في الدعوة وادعى أن آباءه ماتوا على الإسلام، وتكفير مانعي الزكاة، ومن قال لا إله إلا الله حال الحرب يقتل، وكفروا أولئك الذين يستخدمون الخدم الكفار في بيوتهم ومكاتبهم وأشغالهم، ثم أشاروا إلى أن من أكرم النصارى أو أثنى عليهم أو عاشرهم أو لم يعلن البراءة منهم فهو مرتد، وأخيراً تحريمهم السفر إلى بلاد المشركين للتجارة إلا أن يكون المسلم قوياً له منعة.

قسم آخر يضعه الكاتب تحت عنوان مواقف المتأخرين من التعليم. وقال بأن ثمة تطابقاً بين المتقدّمين والمتأخرين في مسألة الغلو في التكفير. فقد اعتبر المتأخرون المعلّمين الذين تستقدمهم وزارة المعارف من الدول العربية ملحدين ، وأشاروا إلى أن هؤلاء المعلمين القادمين قد جاؤا لقلع شجرة لا إله إلا الله التي جاء بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب (في هذا غلو ظاهر في الشيخ محمد، فشجرة لا إله إلا الله جاء بها محمد والأنبياء من قبله)، واعتبروهم من أفراخ الإفرنج وعباد الأولياء. كما أجازوا هجر كل من سافر إلى الدول المجاورة لغرض التعليم أو التجارة أو غيرها حتى يتوب، وكان الشخص القادم من تلك البلاد يغمس بالماء بثيابه بعد صلاة الجمعة ليمتنع عن السفر لبلاد المشركين. وفي فتاواهم تحريم ونهي عن كل العلوم غير الشرعية، كالرسم والرياضة والألعاب والحقوق والطبيعة والتعليم العصري وتعليم البنات. ونصحوا كل مسلم أن لا يدخل إبنه أو إبنته في هذه المدارس، كما اعتبروا إن فتح مدارس البنات مصيبة وطامة كبرى، واعتبروا كل شخص يرضى بهذه المدارس لا غيرة عنده ولا رجولة ولا دين.

كما حرموا لعب الكرة للطلاب وأنها من التشبه بأعداء الله، وذكروا أن أوجه تحريم الكرة أن فيها نوعاً من المرح وقد قال الله عز وجل (ولا تمشي في الأرض مرحاً)، كما اعتبروا التلفاز آلة بلاء وشر داعية إلى كل رذيلة ومجون، إضافة إلى مبالغتهم في تحريم الدخان حتى أوصلوه لدرجة الخمر، وأفتوا بجلد شاربه ثمانين جلدة. ومبالغتهم في تحريم التصوير بكافة أشكاله وأنواعه ما له ظل وما ليس له ظل وجعلوه أصل الشرك. واعتبروا لباس الشرطة من المحرمات، لأنه من التشبه بالكفار، فهو مشابه للباس الإفرنج المشركين، وكذلك القبعة والبنطلون. وأخيراً جاء تحريمهم للضرب بالرجل على الأرض والتحية العسكرية والتصفيق الصادر من الرجال لأنه تشبه بالنساء وهو من جملة الأمور التي تدل على التخنث وهو من الكبائر.

وكان الإسراف في استعمال التكفير قد ارتد الى الداخل، حيث شهر العلماء فتاوى التكفير في وجه خصوم الدولة وفي أحيان أخرى ضدها. فقد أصدر الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن فتوى يتبرأ فيها من الأمير عبد الله بن فيصل لاستعانته بالدولة العثمانية (الكافرة)، فلما تغلّب على الرياض بايعه الشيخ عبد اللطيف ورأى أنه أسلم مجدداً. ومثال آخر بارز في تبادل الإتهام بالكفر بين العلماء المؤيدين للملك عبد العزيز وبين جماعة فيصل الدويش، فقد أصدروا فتوى بتكفير الدويش والعجمان وإثبات ردتهم، وجاءت الفتوى من عدد من العلماء منهم محمد بن عبد اللطيف ومحمد بن إبراهيم وسليمان بن سحمان وصالح بن عبد العزيز، أكدوا فيها على أنه (لا شك في كفرهم وردتهم...)، وأن أعظم الأدلة على ردتهم دعواهم أنهم (لم يدخلوا تحت إمرة ابن سعود إلا مكرهين).

الصفحة السابقة