رؤية إثنولوجية على الوهابية النجدية

دعوة للدولة أم دولة للدعوة

عبد الوهاب فقي

حسم علم الانثروبولوجيا الإجتماعية العلاقة بين الإنسان والطبيعة المحيطة به، مفتتحاً لأفق البحث في الحياة في مجتمع ما والمعتقدات التي تنشأ فيه وفق ظروف تلك الحياة والوشائج الناظمة للأفراد ضمن البيئة الإجتماعية التي تحكمهم. وكان السؤال الكبير الذي رافق علماء الإثنولوجيا أو علم الإجتماع يدور حول دور الطبيعة في تشكيل وعي الأفراد والجماعات بما يجعل إمكانية رسوخ معتقد ما وانحسار آخر، أو بالأحرى تحوّل فكرة ما الى عامل توحيد إجتماعي فيما تصبح فكرة أخرى عامل تمزيق في حال انتقالها خارج التربة التي نشأت فيها.

نعلم تماماً في ضوء التجربة السعودية منذ منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، أن نجد مثّلت الحاضنة النموذجية للوهابية التي نسخت كل المعتقدات الفرعية والخاصة في النطاق الجغرافي للمجتمع النجدي، وتحوّلت الى قوة توحيدية جبّارة بحيث شكلّت قوة إدماج إجتماعية وأنتجت مجتمعاً توحيدياً بالمعنى السيسيولوجي والأيديولوجي والسياسي، فيما أخفقت الوهابية في اختراق المجالات الإجتماعية الأخرى المحصّنة عقدياً، بالرغم من انتقال وحدات إجتماعية نجدية خارج نطاقها الجغرافي.

ويمكن، بقدر من الإطمئنان، المجادلة بأن الإطار العام للمذهب الوهابي الذي تشكّل في نجد كان محكوماً لطبيعة العلاقة الحميمية بين الظروف السائدة في منطقة نجد وخصوصيات المجتمع النجدي المتجانسة والنزوع الصارم للعقيدة الوهابية إن على مستوى الأفكار أو على مستوى التطبيق، فثمة في هذا التجانس ما يصوغ قوة مجتمعية تمثل القاعدة الأساسية لانطلاقة حركة الوهابية، بعد ان تكيّف الأخيرة نفسها ضمن محدّدات التقاليد والعقلية النمطية المهيمنة على الواقع النجدي. هذه المعطيات تؤسس لرؤية حادّة تتأمل في الأمكانيات والبدايات التي من شأنها تظهير سمات المجتمع النجدي قبل ان تتمخض عنه ولادة الوهابية والتي يمكن اختصارها في التالي:

أولاً: الاستقالة الحضارية

من موقع المراقب للتحوّلات الإجتماعية والثقافية في إقليم نجد، يمكن إدراك المعنى المحدد لمقولة (نجد خرجت من تاريخ الإنسانية عشرة قرون)، فثمة دلائل سابقة وحالية تعين على فهم طبيعة المخاضات التي شهدها المجتمع النجدي وفرضت نفسها على تحوّل الدولة السعودية ذاتها، لا بوصفها تعبيراً جماعياً عن إرادة القاطنين داخل الإقليم الذي تتسيّد عليه الدولة، ولكن بوصفها ترجمة واقعية عن جدل الإنتقال بالواقع الإجتماعي النجدي. ولأن ثمة دلائل تؤكد هذه الحقيقة، فإن مصادر التاريخ البعيد والقريب لم تشر الى نشاط حضاري كانت ساحته منطقة نجد، فغالبية النشاطات الاجتماعية في الأبعاد المختلفة للحضارة لاتدل على أن سكان هذه البقعة الجغرافية كانوا على اطلاّع ولو بسيط لما يجري خارج أسوار صحراء نجد، حيث كان الإعتقاد السائد بأن الأخير تشكّل مجالاً نهائياً وفي الحد الأدنى أفقاً رحباً يستوعب المجالات الجغرافية المجاورة، في زواياها المختلفة ولذلك طغى عليهم الشكل البدائي في العيش وافرازات الفكر.

وفي المجال العلمي، كمعيار لقياس مستوى التطور والتقدم في النشاط الانساني، فقد كان التعليم في نجد (رغم كونه تعليماً تقليدياً ولا صلة له بالزمان الذي يعيشون فيه) محصوراً في نطاق ضيق للغاية، وكان مرتبطاً بصورة محدّدة إما بعوائل دينية (بيوتات العلماء) أو بالعوامل الحاكمة (بيوتات الأمراء)، والى حد ما بالعوائل المنشغلة بالزراعة، أما باقي السكان فكان التعليم بالنسبة لهم تجاوزاً واقترافاً لمحظور إجتماعي، وكان القسم الاكبر من سكان نجد، وحتى القسم الذي من المفترض أنه نال قسطاً ضئيلاً من التحصيل العلمي، مشغولاً بتحصيل لقمة العيش.

واذا صح توصيف قرية أشيقر في نجد بكونها مركزاً دينياً، فقد كانت وقفاً على عناصر محدودة من قبيلة آل وهبة وفروعها. وهذه الصورة عن نجد لم تبد عليها تغيرات سوى طفيفة حتى بعد قيام الدولة السعودية إذ بقي التعليم من القضايا الأشد حساسية طيلة تاريخ الدولة السعودية. وترصد كتب التاريخ السعودي قصصاً عن المساجلات العقيمة التي كانت تتفجر بين علماء الدين والأمراء حول إدخال مواد حديثة في منهج التعليم الرسمي، وكان العلماء يبدون آراء في موضوعات علمية جرى حسمها بصورة نهائية، مثل كروية الأرض ودورانها حول الشمس. وما لا يعرفه كثيرون أن تعليم البنات لم يبدأ سوى في بداية العقد السادس من القرن العشرين، بعد جدالات متواصلة بين العلماء والأمراء، ولم يتم الحصول على قبول العلماء إلا بعد أن ضمنوا سيطرتهم على إدارة تعليم البنات.

هذه الجدالات بقدر ما أبطأت حركة التحوّل الإجتماعي في نجد وفي المملكة السعودية بصورة عامة، فإنها عزّزت من سلطة العلماء بوصفهم قوة لا يمكن تجاوزها بسهولة، وكان خيار التسوية والترضية مهيمناً بصورة دائمة، وقد ساهمت تلك الصورة وإلى حد كبير في انجاح المشروع الوهابي والقبول بكل ما بشّرَ به، أولاً لغياب المشروع البديل وحتى القائم ـ انذاك ـ ثم لموجة التهويل المتواصلة التي أطلقتها الوهابية وسط المنتمين إليها في غياب الوعي الديني والحضاري والعزلة الثقافية والاجتماعية عن الخارج، والتي مكّنت عبر جرعة الترهيب الديني من تحصين وجودها الإجتماعي وتسويره. يفضي ذلك لمناظرة أخرى أشد حساسية، ولا تعتني كثيراً بسبر النوايا الدينية، ولكن من شأن هذا السلوك الصارم أن ينجب أفراداً يتوسّلون بالأشكال الدينية الظاهرية بهدف ضمان المصالح الفردية والجماعية المترتبة على الإنتماء للمجتمع الديني وفق القواعد المفروضة عليه، ولا ضير حينئذ القول بأن إنتماء المجتمع النجدي للإسلام كان رمزياً، وفي أحسن الأحوال كان تقليداً ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. وينقل اليكسي فاسيلييف في كتابه (تاريخ العربية السعودية ص 86) عن الرحالة الفنلندي فالين الذي طاف الجزيرة العربية في منتصف القرن التاسع عشر "إن قبيلة" عنزة" شأن أغلبية القبائل.. لا تعرف إطلاقاً الدين الذي تعتنقه، وبالكاد أتذكر، يقول فالين، أني صادقت أحداً من أفراد القبيلة الذين كانوا يؤدون الفرائض الاسلامية أو لديهم أبسط فكرة عن أصول الإسلام وأركانه الأساسية.

ثانياً: التضامن القبلي

ليس ثمة ذرة من وجود للدولة أو حتى للعالم خارج النطاق الحيوي لعمل الإتحادات القبلية النجدية، وإن ما يغلّف تلك النزوعات الضارية وجود قشرة الدولة المحيطة بتلك الإتحادات التي تمثل المعنى التام للوجود الفردي والجماعي داخل إقليم نجد. ثمة وعي قبلي لم يضعف تحت تأثير الدولة والمذهب، بل جرى تكييف العناصر الثلاثة مجتمعة كيما تحمل سمات المجتمع النجدي، الأمر الذي يحيل الى رؤية كونية شاملة تمحور المحيط العام حول الذات وتجعلها مركز الأشياء ونهاياتها.

من خلال نظرة الى هيكلية البناء القبلي تبدو أنها تقوم على أساس تكتل قبيلة أو اتحاد قبيلتين متقاربتين في النسب تقيم كيانها على موقع جغرافي تتوفر فيه ظروف العيش ويتولي زعيم القبيلة إدارة شؤون قبيلته ويقوم بدور القاضي في حل النزاعات داخل القبيلة ويتسنّم قيادة الجيش الذي تتشكل عناصره من أبناء القبيلة. تلك كانت الصورة المكثّفة لنشأة القبيلة ووظيفتها، الاّ أن التوغل في حقيقة النظام القبلي نجد أنه بالمفهوم الحديث ـ نظام مغلق يصعب التعاطي معه ويستحيل ـ غالباً ـ الدخول إليه فالتزاوج بين القبائل ـ كقضية بالغة التعقيد ـ تكاد تنعدم لان ذلك في مفهوم رؤساء القبائل يعرّض باستقلال وكرامة وهوية وتكوين القبيلة، وأن أية مغامرة يقدم عليها أحد أبناء هذه القبيلة او تلك في اختراق التقاليد القبلية الصارمة في الزواج من إمرأة خارج إطار قبيلته قد تنتهي الى اصطكاك السيوف والأسنّة في حرب لاتضع أوزارها إلاّ بعد أن ترد فيها الإعتبارات لقبيلة المرأة غالباً. إن هذه الصورة تضيء على الأحكام القضائية الجائرة التي صدرت في السنوات الأخيرة بتفكيك بعض الأسر وإبطال عدد من الزيجات بذريعة (عدم تكافؤ النسب)، وهي حالات فريدة لا تجد نظائر لها في مناطق أخرى من المملكة فضلاً عن مناطق أخرى خارج الحدود.

وكما القبلية، فقد كانت البداوة صنواًً للتزمت والإنغلاق، بل إن الوعي القبلي يتشكّل ضمن حدود تقاليد وأعراف القبيلة نفسها، وما يجري خارج هذا السور المحكم فلا يثير الإهتمام من أي نوع، إلا بما يحرّك في صاحبه شهوة الغزو، وكانت النظرة السائدة بين القبائل وبعضها أن التشكيلات الإجتماعية التي تعيش قرب بعضها يضطرم لديها عنصر التحدي والعداء من العناصر المتفوّقة في اهتمامات القبائل كافة، لأن كل قبيلة تنظر إلى الأخرى كطرف منافس يهدد حياتها ويطمع في ابتلاعها.

الغزالي: السلفية ليست فقه أحمد بن حنبل

ثالثاً: اخلاقيات الصحراء

توضح بحوث وكتابات علماء النفس الاجتماعي والإنثروبولوجيا الإجتماعية أن للطبيعة دوراً أساسياً في بلورة وتنميط أخلاقيات المجتمعات البشرية، ويترافق التمايز في البقع الجغرافية مع السلوك الأخلاقي والتكوين النفسي لكل جماعة. فالمجتمعات النهرية مثلاً تكون مفعمة برقّة القلب، وبساطة الطبع، وانشراح الصدر، وبشاشة الوجه، وكذلك المجتمعات الزراعية التي تخاطب جنساً طبيعياً وتتعامل معه بالرعاية والاهتمام، فإنها تكتسب أخلاقيات التربة التي تزوّد صاحبها بكل آيات العطاء وقيمة العمل والعلاقة الروحية مع الطبيعة، وكذلك بساطة العيش وتواضعه والإحسان إلى مصدر الخير.

إن التركيب النفسي والاخلاقي لكل مجتمع يتأثر سلباً أو إيجاباً بظروف الطبيعة، وعليه فان أخلاقيات المجتمع الصحراوي تختلف عن غيرها من أخلاقيات المجتمعات الأخرى التي تتباين في الظروف الطبيعية المعاشة. فإذا أقام على الصحراء القاحلة مجتمع قبلي غير مستقر، يرى في غزو الآخر ومصادرة ممتلكاته، والمكر به حقاً ومصدر وجود، وفي مرحلة لاحقة يتحوّل هذا الغزو جهاداً وفريضة دينية، تصبح العلاقة بين الأنا والآخر قائمة على الإفتئات والإثرة والهيمنة وليس التكافؤ والمساواة والعدل.

وفي دراسة المجتمع النجدي يظهر أنه كان مجبولاً على الخشونة، وتتعزز الأخيرة من خلال العلاقة مع الصحراء القاحلة، التي كان ينظر اليها إنسان نجد على أنها عدو يحب محاربته والتغلب عليه فقد ازداد إصراراً على شق الصحاري وإن طال عليه الأمد. ربما نجحت الدولة السعودية في ترويض الصحراء بعد الهيمنة على المناطق الأخرى التي تزوّد الجماعة الغالبة بمصادر الثروة، حيث حصد النجدي ما جعله ثرياً مكتفياً عن الخصومة مع الصحراء بتحويلها الى مصدر إمتاع وإيناس له. ولكن ذلك التحوّل لم يكسر أنساق التفكير النجدي المرتبط بنمط العلاقة مع الصحراء، فقد حافظ على نظرته المواربة تجاه الآخر غير النجدي، وبقي يقظاً لما هو مهيمن عليه، حتى لا يعود أسيراً لصحراء جلبت إليه معاناة وأنهكته في رحلات متواصلة للبحث عن لقمة العيش.

لم يجد بدو الصحراء وقتاً لاسترداد العواطف وإيقاظ الرحمة والحب في قلوبهم لأن قساوة الصحراء فرضت عليهم أن يحاربوها بسلاحها حتى أصبح هذا السلاح أصلاً أخلاقياً في حياتهم الإعتيادية، وبساطة الرؤية لدى النجدي حول العالم من حوله لم تغيّر في طبعه وتفكيره، بل وموقفه من الآخر، سواءً كان هذا الآخر شريكاً له في الوطن، أو نظيراً له في الإنسانية، فالكل يصبح سواء حين تكون المصلحة وحدها معياراً في العلاقة.

رابعاً: التمذهب النجدي

لنجد طريقتها في فهم الدين، ولها أيضاً طريقة في التعبير عنه واعتناق الشكل الذي ترتضيه، وتريد تعميمه. وإذا كان مذهب الإمام أحمد بن حنبل قد عرف عنه التشدّد في الإلتزام الحرفي بأحكام الدين، فإن الوهابية النجديّة قد جعلت منه مذهباً مغالياً في التطرف ضمن رؤية خاصة تختلف عما هي عليه في باقي المذاهب، بحيث أن التحليل الوهابي المحنبل للتراث الديني يكاد يكون أسلوباً غير مألوف لدى المكوّنات المذهبية الأخرى كونه لا يعكس ديناميكية المفاهيم الاسلامية المنسجمة وتطورات المجتمعات البشرية. فقد تميّز المذهب الوهابي كرائد للإتجاه السلفي في الوقت الراهن والتزم في تطبيق الأحكام الدينية بصورة حرفية دون النظر في المصلحة العامة للمسلمين ودون التركيز على المقاصد النهائية لروح الأحكام.

اما كيف انتقل المذهب الحنبلي الى منطقة نجد قبل القرن التاسع الهجري، فيجد إبن عثيمين (تاريخ المملكة العربية السعودية ص 51) مبرراً لذلك بقوله (لم يكن غريباً ان يجد المذهب الحنبلي أرضاً خصبة في نجد ذلك انه اقرب المذاهب الى ظاهر نصوص القرآن والسنة وهو بهذه الصفة يمثل البساطه الى حد ما. والبساطة من الأمور المحببة الى نفسية الفرد النجدي..). وبالرغم من أن هذا المبرر يبدو بسيطاً في ظاهره، ولا يعكس طبيعة العوامل المساهمة في احتضان نجد للمذهب الحنبلي، إلا أنه يلمح إلى عامل هام يتمثّل في الإنسجام بين طبيعتي المذهب الحنبلي والمجتمع النجدي.

وفي تكثيف شديد لدور العوامل الأربعة مجتمعة في صوغ العلاقة بين نجد ـ الأرض، ونجد ـ المجتمع، ونجد ـ المذهب يظهر أن تظافراً صلباً لسمات محدّدة مشتركة شكّلت مقومات المشروع الوهابي النجدي، وإن نجاح هذا المشروع يتّكل على مسرح إجتماعي يتوافر على شروط خاصة فريدة تفتقر إليها الأقاليم الأخرى ومجتمعاتها.

نهج المؤسس

ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1703م في بلدة العيينة بنجد وعاش في بيت والده الذي كان يزاول مهمة القضاء حسب الفقه الحنبلي، فتربّى على المذهب الحنبلي وأخذ عن أبيه تحصيل العلوم الدينية مستفيداً منه في التعرّف على الأحكام القضائية وطرق تطبيقها ثم سافر إلى الحجاز والتقى بالشيخ عبدالله بن سيف، وتوثقت علاقته به في رحلته الثانية إلى الحجاز فدرس على يد الشيخين بن سيف ومحمد حياة السندي وشجّعاه على دراسة وقراءة كتب إبن تيميه، وكان السندي من أشد المعارضين للتعصب المذهبي وانفرد في دعوته الى فتح باب الاجتهاد.

أتمّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب شوطاً في مضمار علوم الفقه والحديث والتفسير مستلهماً من طريقة شيخ الإسلام إبن تيمية (1262 ـ 1328) في نمط التفكير والتزمت في إصدار الاحكام. وكان ابن تيمية الذي ترك نحو 500 مؤلفاً حسب بعض التقديرات يقول بالإجتهاد ويخالف الحنابلة في ذلك، غير أنه ملتزم بكل ما جاء به ـ فيما دون ذلك ـ الشيخ أحمد بن حنبل، وشهر سلاح التكفير ضد من خالفوه في اعتقاداته الفلسلفية كالغزالي والشافعي حتى قالوا عنه: أنه كفّر الأمة الإسلامية جمعاء (راجع النقشبندي: ردود على شبهات حول السلفية ص 247).

على أية حال، لم يمض وقت طويل من التحصيل العلمي حتى أصبح الشيخ محمد بن عبد الوهاب أشدّ تطرفاً من ابن تيمية و أحمد بن حنبل، فكان يعلن صراحة عن آرائه المتطرفة بين علماء المدينة الى أن تم طرده منها، حسب جون فيلبي (تاريخ نجد ص 35). وعاد أدراجه الى مقره في العينية، الاّ أنه باشر في التعبير عن معتقداته. يقول بن عثيمين في (تاريخ المملكة العربية السعودية ص 65) ما نصه: (ولكنه لم يكن مؤهلاً تأهيلاً علمياً كافياً حتى أنه كان ينكر بعض الأمور دون دراية بأمور الدين الاسلامي). ويوضّح أيمن الياسيني هذه النقطة في كتابه (الدين والدولة في المملكة العربية السعودية ص 29): (ويبدو أن انتقاده كان من العنف بحيث قابله العلماء حتى والده لمعارضة شديدة).

عثر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في نجد، بادئ الأمر، على أرضٍ لم تكن على درجة كافية من التأهيل للقبول بأفكاره العقدية ذات الطبيعة الصارمة والإقتلاعية، خصوصاً وأنه لم يكن يحرز مستوى علمياً عالياً وقدرة ذهنية كافية للوقوف قبالة أساطين نجد، فقرر مغادرة العيينة بعد سنة من قدومه من الحجاز باتجاه البصرة، فعكف على دراسة الفقه والحديث وبقي ملاصقاً للشيخ محمد المجموعي وأخذ عنه علوم المذهب الحنبلي ما غرس في داخله تطلعاً راديكالياً جرى ترجمته في هيئة تغيير إنقلابي في المجتمع النجدي..لم يفلح في تسييل أفكاره وسط المجتمع البصراوي، سوى إثارته للخلافات العقدية بصورة حادة ومثيرة، ولذلك (رأى المسؤولون هناك أنه مثير للقلاقل واضطروه الى مغادرة البصرة) بحسب إبن عثيمين في (تاريخ المملكة العربية السعودية ص 67).

ربما تكون التجربة الفاشلة التي مني بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في البصرة قد نسجت قناعة جديدة بعد أن أوصدت الأبواب أمام دعوته، وألا سبيل الى فتحها سوى عبر التوسّل بالقوة، أي عبر سلطة قادرة على تأمين وحماية الدعوة الوهابية. وجد الشيخ إبن عبد الوهاب في مسقط رأسه وبين أهله وعشيرته من يتعهّد حمل مشروعه الدعوي، فعاد الى العيينة وتداول الأمر مع حاكمها عثمان إبن معمر فقدّم الأخير ضمانات لابن عبد الوهاب لحماية دعوته بعد أن زوجّه إبنته (الجوهرة)، وبحكم الروابط العائلية إنتقلت الدعوة إلى مرحلة جديدة لتكون بداية المسيرة الوهابية لتلتقي مع المشروع السعودي في رحلة طويلة من العمل المشترك بما يحقق غايتين زمنية ودينية.

أيمن الياسيني: ابن عبدالوهاب كان عنيفاً

الوهابية..مدرسة إصلاحية أم حزب السلطة؟!

أطلق التحالف الوهابي السعودي سنة 1744 مشروعاً طموحاً يقوم على التصاهر بين مفهومي الأمة والدولة، أو بين الغايات الدينية العليا والأغراض السياسية الخاصة. إن التأمل في الطريقة التي تمّ بها تحويل الوهابية الى مشروع سياسي طموح نواجه حقيقة كون النتائج لا تعبر بالضرورة عن المفاهيم الجوهرية للإسلام بقدر ما تعكس تطويع تلك المفاهيم في الحياة الإجتماعية والسياسية بالقدر الذي يجعلها قابلة للتثمير السياسي، ولا شأن لها بالضرورة بالتفاوت في القرب والبعد من تلك المفاهيم. يكفي نفي ذلك الزعم بأن الشعارات الدينية التي حملتها الوهابية كانت تتعارض مع واقع التعددية المذهبية على المستويين المحلي والإسلامي بصورة عامة، كما هو الحال في موضوع الإجتهادات الفقهية والتي لاتخرج من كونها أحكاماً ظنية قابلة للموافقة أو المخالفة مع جوهر الأحكام الإسلامية سيما في الموضوعات ذات الطبيعة الخلافية وغير المحسومة والتي هي موضع اختلاف بين المذاهب الإسلامية وخاصة مع تطورات الزمن وبروز قضايا جديدة في واقع المجتمع الإسلامي والتي هي بحاجة إلى حلول إجتهادية مستندة إلى الأصول الدينية وتتوافق وروح العصر، وهو أمرّ طالما أكدَّ عليه فقهاء المذاهب الإسلامية بالإجماع وتأتي الوهابية كانبثاقة لمبادرة غضّة وكشكل متطرف للحنبلية في محاولة لإيجاد بعث سلفي متزمت لا يقر بحقائق التطور الإجتماعي والتعددية المذهبية والثقافية وإشكالات التوفيق مع متطلبات كل مرحلة، فاستندت الى التوجيه السلفي، وأوصدت باب الإجتهاد، وذلك بعد أن قال علماء الحنابلة أن لا باب بعد الخلفاء الراشدين للإجتهاد، (وأن كل ما في الكتاب واضح جلي)، أمين الريحاني ـ تاريخ نجد الحديث، ص 48.

جاءت مؤلفات ابن عبد الوهاب التسعة عشر لترسم خطّاً صارماً في السلفية الفقهية والمعرفية لتصب في توظيفات فقهية طويت منذ زمن بعيد، وتناولها العلماء منذ قرون. يقول جلال كشك في كتابه (السعوديون والحل الإسلامي): (إن قراءة كتب محمد ابن عبد الوهاب ومنشوراته تعطي انطباعاً وكأنه يعيش خارج التأريخ، فليس له من تعليق على حدث معاصر خارج محيطه بل يناقش قضايا فقهية سبق بحثها وصدرت فيها إجابات حاسمة.. قبل مولده بقرون عديدة). يوافقه في الرأي الباحث أحمد مصطفى أبو حاكمة (تاريخ شرقي الجزيرة العربية) بقوله (ليس ثمة شيء جديد في مذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب).

ان مجرد القراءة في كتابات الأمام للشيخ محمد بن عبدالوهاب امثال: التوحيد ، وكشف الشبهات ، الكبائر ومسائل الجاهلية، ومفيد المستفيد في حكم تارك التوحيد، ونواقض الاسلام وغيرها من المؤلفات والرسائل نخلص الى أنها ليست ذات عمق أيديولوجي ورصانة فكرية، ومن جهة ثانية إن ما ورد فيها من أحكام قطعية مستمدة من التراث التيولوجي الحنبلي.

وتبدو السلفية كمحور رئيسي في منطلقات العقيدة الوهابية والطريقة المتبعة في الممارسات العبادية أقوالاً وافعالاً عند اتباع هذه العقيدة ، واستدل السلفيون على أن الحلال هو ما حلله رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وجرت عليه عادة السلف من بعده، وأن كل جديد طارئ من بعده صلى الله عليه وسلم بالضرورة لم يحلله وأن سيرة اصحابه تدل على عدم المخالفة!!

والحال أن الوهابية وقعت في خلط مفهومي ولم تميّز بين الجانب الديناميكي والمتطور في الاسلام والجانب الثبوتي، كما في مثال الصلاة كفريضة دينية ثابتة، فهل ينكر على المسلم أن يؤدي الصلاة على سطح القمر لأن سيرة السلف الصالح خالية من هذه الوقائع؟.

وبتعبير فقهي أن علماء الاصول في عامة المذاهب الاسلامية تتفق على أن هناك اختلافاً بين القضية التعبدية والقضية التوصّلية وأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم سالفة الذكر تأتي في سياق القضية التعبدية من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وما اشبه اما في القضايا التوصّلية كغسل الثياب وخياطتها ولبسها وركوب الدابة وبما في ذلك السيارة والأعتقاد بكروية الارض ليست من القضايا التي شملها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، إذ لم يركنوا الى طريقة واحدة مع وجود أفضل منها، ويقول الدكتور محمد رمضان البوطي في (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي ص 14 ـ 15) ما نصّه: (ولكن السلف أنفسهم لم يكونوا ينظرون الى ما يصدر عنهم من أقوال وأعمال وتصرفات، هذه النظرة القدسية الجامدة التي تقتضيهم أن يسمّروها بمسامير البقاء والخلود ويجعلوا من شأنهم معها ما يشبه المدينة المسحورة).

وباستثناء المفاهيم العقدية الكبرى التي أريد لها أن تتحوّل إلى ساحة حرب الوهابية مع الآخرين، فإن موضع الإثارة يكمن في قشرية التوجيهات الوهابية، حيث كانت معالجاتها محصورة في قضايا جزئية في مجال العبادات بينما لم تطرق باب المعاملات (وهو مجال رحب وواسع وضروري ويحتاج الى مواكبة ورأي حاسم في المستجدات الطارئة عليه) سوى في مرحلة متأخرة وبصورة بدائية أحياناً.

ويمكن الزعم، أن مجهودات الوهابية بلغت من التسطيح الى حد الانشغال الكثيف على موضوعات عقدية محسوبة مثل الشفاعة والنذر وزيارة القبور، معتبرة إياها مجتمعة المفهوم الكلياني للإسلام دون أن تدخل في هذا المفهوم موضوعات ذات صلة بالواقع المعاش وخصوصاً موضوعات النظام السياسي الإسلامي، والحلول الإسلامية للمشكلات الإقتصادية والإجتماعية والفكرية المستجدة، وبذلك لم تستوعب نظرية متكاملة حول الدين. ويبدو الوعي الديني لدى الوهابية منحبساً في مجالات العقوبة والردع والأبعاد الأخروية التي تلتقي وأغراض ترسيخ السلطة السياسية وتعزيز وجودها.

لقد صوّرت الوهابية الدين الإسلامي وكأنه حقل مزروع بألغام من كل جوانبه، ممثلة في قائمة المحرمات التي أوجدتها الوهابية، وأن المباحات تمثّل تلك الطرق الرقيقة المحفوفة بالمخاطر في ذلك الحقل، بحيث أبطلت فعل الأصول في رسم نسق متوازٍ وفي الوقت نفسه متوازن بين الفطرة البشرية وطبيعة الحاجة في إطارها المشروع. ولأن الدعوة الوهابية إنطلقت من قاعدة أن كل ما هو في خارج إطارها كفر محظ لتوجد لنفسها مبررات الدعوة والإنتشار العنيف، لذلك لم تتعامل مع المفاهيم الدينية إلا بما يعزز موقفها فكثّفت في مراحل طويلة إهتمامها على المحكوم لا على الحاكم، فجاءت أحكامها على المجتمع في صيغة رعب ديني ينذر بالجحيم والهلاك والعقارب والقطران بينما ذهبت في تسامحها الديني في أمر الحاكم الى أن أعطته صفة (ظل الله في الارض) لا يجوز مخالفته أو حتى مسائلته عما يزاوله من أعمال، وان تعارضت مع مصالح الأمة، لأن مخالفة الحاكم، في الأدبيات العقدية الوهابية، خط أحمر يودي بصاحبها في النار وكما يقول فاسيليف (تتضمن مؤلفات مؤسس الوهابية أحكاماً لا لبس فيها، وهي تجسّد مصالح الوجهاء وموجهة ضد الفقراء فالجمهور البسيط يحب أن يخضع لأصحاب السلطة.. وأن عذاب الحجيم من نصيب كل متمرد على الأمراء)، (تاريخ العربية السعودية ص 91).

أما كيف نجحت الوهابية في بناء وتعميم نموذجها الديني بما يشتمل عليه من نتائج فقهي بطابعه النقدي، فإنها ركنت في صياغة أحكامها على أساس مصادر أربعة في التشريع: الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح والإجماع. كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما نصه بأن (الحق والصواب ما جاءت به السنة والكتاب وما قاله وعمل به الأصحاب وما اختاره الأئمة الأربعة..في الأحكام المتبّعة فقد انعقد على صحة ما قالوه الإجماع). (أمين الريحاني، تاريخ نجد الحديث ص 49).

فأرست الوهابية الأساس النظري للإسلام وفق الكتاب والسنة، والجانب التطبيقي منه وفق سيرة السلف الصالح والإجماع. بيد أن هذا التحديد يبقى في حدوده النظرية المحض، فثمة تحديد توضيحي لتلك المصادر التشريعية، حيث تبقى الأخيرة خاضعة للتفسير الوهابي المحض، كما يتجلى في الإعلاء من مكانة الرموز المدرسية السلفية. فقد ذكر الشيخ محمد ابن عبد الوهاب (لست أعلم أحداً يجاري ابن تيمية في علم الحديث والتفسير بعد الإمام أحمد بن حنبل)، وذكر الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتاب (الرسالة ص 53) كلاماً مماثلاً بما نصه (وعندنا أن الإمام إبن القيم الجوزية وشيخه ـ أي إبن تيمية ـ إماما حق من أهل السنة وكتبهما عندنا من أعز الكتب).

الشيخ البوطي: السلفية ليست مذهباً

وقد جاء من سلالة الشيخ من نقض هذين القولين، حيث ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في كتاب (فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 454) ما نصّه: (والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان بل نهوا عن تقليدهم اذا استبانت السنة لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلّموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء).

وقد واجهت المدرسة الوهابية انتقادات واسعة من قبل علماء المسلمين، ووضعت نزوعاتها المتشددة في إطار التصادم مع المفاهيم الإسلامية النقيّة، خصوصاً بعد أن بدأت تكشف الوهابية عن سلوكها العنفي. فقد كتب إبن سند البصري في (تاريخ بغداد ص 23): (أن أتباع ابن سعود عندما قتل طعيس العبد الأسود ثوينياً (شيخ المنتفق في الفرات الاوسط) مدحوه وحمدوه بقتل ثويني لكونهم يعتقدون كفر ثويني بل كفر جميع من على وجه الارض من المسلمين الذين لم يعتقدوا معتقداتهم).

وبلغ الحال في حروب الوهابيين ضد مناطق المسلمين إلى حد استباحة تلك المناطق ونهب ثرواتها وقتل سكانها وسبي نسائها وقتل رجالها دون تمييز وتخريب دورها وعمارها وإشعال النار في مكتباتها، التي تضم كتب الفقهاء الذين يرون كفرهم ثم يعودون الى مقارهم وكأنهم عادوا من فتح إسلامي مبين وتأدية واجب ديني عظيم، في مقاتلة الكفار والمشركين. وكتب أحمد أمين في (زعماء الإصلاح في العصر الحديث ص 20): (إنها ـ أي الوهابية ـ حيث استولت على بلد نفّذت تعاليمها بالقوة ولم تنتظر حتى يؤمن الناس بدعوتها).

والسؤال الكبير يبقى شاخصاً: هل حققت الوهابية أهدافها؟ وهل استجابت المناطق التي خضعت تحت تهديدات المشروع الدعوي الوهابي؟

كل المؤشرات تفيد بأن الوهابية أوجدت حالة من التماسك في صفوف أتباع المذاهب الإسلامية الاخرى (فبعد مضي عشرات السنين على الدعوة الوهابية وبعد تنظيم عشرات الغزوات ماذا كانت النتيجة؟ فالمسلمون في عامة اقطار العالم الاسلامي لم يتغيرا فهم كما هي عليه) (أحمد أمين، المصدر السابق). بل ربما أحدثت الوهابية ردود فعل متطرفة على ممارساتها العنفية، وربما على الإسلام أحياناً. وينقل جلال كشك في (السعوديون والحل الإسلامي ص 45) تجربة زعيم مصر الفتاة أحمد حسين مع النظام السعودي بقوله (جاء المملكة عام 1948 إنقلابياً متطرفاً وعاد منهعا إشتراكياً أكثر تطرفاً.. وقيل أنه قبض وأصدر بالمال السعودي جريدة الإشتراكية)، وذلك بهدف الاطاحة بالملك فاروق حاكم مصر الاسبق.

وإذا نجحت التجربة الوهابية في الجزيرة العربية لظروف قد أشرنا إليها فإن محاولات تكرار هذه التجربة لم يكتب لها النجاح، بل كان الفشل حليفها منذ البداية وهو ما حدث في الهند التي قاد منها السيد أحمد خان بعد حج عام 1822م رغم علاقته الوطيدة بالإنجليز وهكذا شريعت سنجلجي الذي حمل لواء الوهابية في إيران وكان على علاقة وثيقة برضا شاه الذي قدّم له الدعم المادي والمعنوي للتبشير الوهابي وهكذا محاولات الإمام السنوسي والامام الشوكاني والشيخ محمد رشيد رضا، وهي محاولات إنتهت إلى الفشل.

واذا كان مذهب الشيخ محمد بن عبدالوهاب قد سبق هذه الوقفة وقفات من قبل عشرات العلماء ممن ناقشوا أو عارضو وردّوا عليه بدءً من أبيه عبدالوهاب وأخيه سليمان وبعض علماء نجد والحجاز والأحساء وانتهاءً بعلماء من مختلف الاقطار الاسلامية والذي وردَّت أسماؤهم في كتاب السيد إحسان عبداللطيف البكري (الوهابية في نظر علماء المسلمين) فإن هذه الوقفة تحاول أن تضيف شيئاً جديداً وهو البعد السياسي للمشروع الوهابي على ان لا تحيد عن استعراض الأبعاد الأخرى ولا سيما البعدين الديني والإجتماعي.

وقد واجهت النزعة السلفية الضيّقة لدى الوهابية اعتراضات من قبل علماء المسلمين، وكتب الشيخ محمد الغزالي في كتابه (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين) (رأيت أناساً يفهمون السلفية على أنها فقه أحمد بن حنبل). وترتب على مفهوم السلفية في عقيدة محمد بن عبدالوهاب مفهوم آخر بعد المرحلة التالية المنشق عنها من الناحية الموضوعية وهو مفهوم البدعة، الذي يأخذ معنيين مختلفين فيعرّف الوهابيون البدعة بأنها (كل اعتقاد او عمل لايقوم على اساس من القرآن او الحديث اوسابقة من الصحابة) (أصول الإيمان وفضائل الإسلام المجلد الأول ص 225)، وهو تعريف يخالف ما تواطأ علماء المسلمون عليه من أن البدعة هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية. أما المعنى العام للبدعة فهي حسب الشيخ البوطي (إحداث شيء جديد على الأصل يقصد بها المبالغة زيادة أو نقصاناً في السلوك التعبدي).

وفي واقع الأمر أن الوهابية تطلق البدعة ـ دون تمييز ـ على كل أمر حادث جديد توصلياً كان أم تعبدياً طالما لم يرد عليه نص صريح ولفظ ظاهر من الكتاب والسنة ولم يعمل به الأصحاب وبذلك تنسحب البدعة على كل النتاجات العلمية والإجتماعية الحادثة بعد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، وبذلك تكون الوهابية قد انفردت في هذا الحكم بين عامة المسلمين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم وطوائفهم.

وبالطبع أن الاشكال الذي وقع فيه اصحاب هذه العقيدة سيمكّن المزج بين الأصول العامة في الشرع الاسلامي والسيرة الاسلامية المجتمعية التفصيلية. وقد تحولت البدعة، وفق هذا التفسير، إلى رادع ديني عند الوهابية لفرض معتقدها على العامة، لتصبح أيديولوجية مشرعنة للسلطة السياسية التي أفادت من النزوع المتشدد في الوهابية لجهة ضبط المنضوين داخل تخوم سلطانها.

ونتيجة لذلك، وتلخيص لما سبق فإن الوهابية جمعت بين شروط المشروع الدعوي والحزب الحاكم، الأمر الذي جعل التوجّه الإصلاحي داخل المذهب الوهابي مغموراً بفعل ضراوة الارتهان السياسي ما سلبه إمكانية التحوّل إلى حركة إصلاح ديني محض، مع فارق جوهري أن الوهابية قد تحوّلت الى أيديولوجية السلطة وحزباً لها ولكن لم تمكّنها السلّطة من الهيمنة عليها، فهي توفّر مبررات السلطة دون الحكم عليها.

الصفحة السابقة