خلفيات ثقفنة التحرر من (القضية)

السعودية تحدّ سكينة نحر فلسطين

توفيق العباد

فوجيء الحضور في إحدى المنتديات الأكاديمية أن أستاذاً جامعياً سعودياً بدا مدافعاً بطريقة غير مألوفة عن موقف حكومته من القضية الفلسطينية، في سياق دعم مبادرة التسوية التي تقدّم بها ولي العهد حينذاك عبد الله (الملك الحالي) في بيروت سنة 2002، وشدّد بطريقة ملفتة للنظر على أن مسؤوليته تقتضي تبني الموقف الرسمي لحكومة بلاده.

لم يلتفت الأستاذ الجامعي إلى كونه خارج الحدود، وليس هناك من سيمنحه مكافأة على تقريضه للموقف الرسمي، والأهم من ذلك أنه نسي بلوغه مرحلة الرشد العقلي التي تخوّله التفكير بصورة مستقلة كصاحب رؤية وليس كأحد الرعايا الذين يردّدون بعفوية وسذاجة ما يسكب في أذهانهم من بيانات وتصريحات من على شاشات التلفزة أو المذياع أو على صفحات الجرائد.

كان يمكن للمشاركين في المنتدى أن يعتبروا ما حدث مجرد حالة منفردة، أو هفوة غير مقصودة، أو ربما لطيفة لتغيير الأجواء الصارمة في المنتديات الأكاديمية. وأجزم، بأنه لم يتوقّع أحد منهم بأن ثمة فئة من المثقّفين السعوديين، وبفعل عوامل متعددة: تبرير الإنعزال عن العمل السياسي المكلّف، اليأس وانسداد أفق التغيير، انبعاث الميول الذاتية والإنحباس في إطارات أقل من قطرية، الوقوع تحت تأثير المخدر المالي السعودي، وغيرها، خرجت بتنظيرات أول ما يقال عنها أنها غير مبدئية.

لا شك أن حالة الاستقطاب الشديدة التي سادت المشرق العربي في السنوات الثلاث الأخيرة، دفعت بعض المثقفين لإعادة التموضع ضمن الخارطة السياسية المرسومة أميركياً بدرجة أساسية. ولحظنا في سياق التناظر على الملفات الخلافية: لبنان، فلسطين، العراق، السلام مع الكيان العبري، أزمة الملف النووي الإيراني والتهديدات الأميركية بالحرب، كيف تحوّل بعض المثقفين السعوديين إلى مجرد ناطقين غير رسميين بإسم الحكومة السعودية، وصار بعضهم يشارك في تهيئة أجواء الخصومة في مكان والتسوية في مكان آخر.

فقد ظهر أحدهم على شاشة فضائية عربية بالزي التقليدي السعودي مدافعاً عن خيار سياسي في لبنان وفلسطين، وظهر آخر على فضائية أخرى يتحدّث بلغة التهويل الأميركي، وظهر ثالث بلغة التحريض على الطائفية، ورابع ظهر يطالب بمحاصصة سياسية متوازنة، يفتقرها في بلاده..ونخشى أن يأتي خامس يتحدث على شاشة فضائية عربية بلغة عبرية فصحى مطالباً بضرورة توفير عوامل القوة والإستقرار للدولة اليهودية..

بقيت تلك الأمثلة حتى وقت قريب خارج اهتمام المتابعين لحركة بعض الفاعلين الثقافيين السعوديين في غمرة الاحتقانات السياسية والمذهبية التي سادت المشرق العربي، وبالتالي أصبحت تلك الحركة جزءً من نسيج ثقافي وسياسي مؤقت، ما يلبث أن يستعيد عقلانيته بعد زوال تلك الاحتقانات. ولكن ما جرى أن تنظيرات للتسوية بدأت تصدر عن مثقفين سعوديين في الآونة الأخيرة وبوتيرة منتظمة تعكس جنوحاً نحو إزاحة القضية الفلسطينية من مركز الإهتمام العربي، باعتبارها المسؤولة عن كل أشكال التخلف التي أصابت الشعوب العربية، وبالتالي فإن تحرير إرادة العرب إنما يتم من خلال تطوير الوعي السياسي العربي بقضايا أخرى، تفضي في نهاية المطاف إلى إخراج القضية الفلسطينية من أولويات العمل العربي.

في مقالة الدكتور تركي الحمد (العرب والمعضلة الإسرائيلية) في صحيفة (الشرق الأوسط) في 17 نوفمبر الماضي، ما يستوجب المراجعة، كونه ينطلق من رؤية سياسية مثيرة للجدل، حيث يلمح إلى أن القضية الفلسطينية تحوّلت الى ما يشبه الكابوس داخل الثقافة السياسية العربية المعاصرة، تماماً كما هي محدد رئيس للسياسة في المنطقة. ما دعا إليه الحمد ببساطة هو تخفيض القضية الفلسطينية الى مستوى قضايا أخرى عربية وربما أقل من ذلك، أي اخراجها من مركز الاشتغالات الثقافية والسياسية وجعلها قضية كباقي قضايا أخرى (فلسطين قضية عربية لا شك في ذلك، ولكنها ليست القضية الوحيدة، ويجب أن لا تكون القضية الوحيدة. فباسم هذه القضية، احترق في عالم العرب الأخضر واليابس، فلا حلُت القضية، ولا حصل العرب على رفاه الفرص التي كانت متاحة. ليس المطلوب التخلي عن هذه القضية، بصفتها قضية من القضايا، ولكن المطلوب هو إخراجها من تهويمات الأسطورة إلى وقائع الأرض، بحيث لا تبقى بوصلة اتجاه أو محور ثقافة ومحدد سياسة).

ويضيف (إن حل قضية فلسطين، أو قضايا فلسطين، لا يعني أن يكون على حساب قضايا التنمية في ديارنا، وليست هي إسرائيل التي صاغت لنا: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ودفعتنا إلى دفع ثمنه الباهظ في المادة والإنسان، بل نحن من كان له من الصائغين، ونحن من كان له من المنفذين..).

ليس المثقف العربي ولا الشعوب العربية هي من استعملت القضية الفلسطينية مشجباً لتبرير تعطيل التنمية، والاستبداد السياسي، وحرمان الجماهير من الحريات العامة، ولا القضية الفلسطينية هي التي حجرت على المثقف العربي البحث في قضايا التنمية والتعليم وحقوق الإنسان، ولكن الحكومات العربية التي أرادت توظيف القضية الفلسطينية لتبرير العطالة التاريخية، والاستبداد السياسي، والتخلف الإقتصادي، فكل شيء كان معلّقاً لأجل غير مسمى فداء للقدس، هكذا كان الحاكم العربي يواجه دعوات الإصلاح، والتغيير، بل وضع بعضهم قوانين طوارىء بذريعة الصراع من أجل القضية الفلسطينية.

فلم تكن الأمة هي من شوّهت وأسطرت القضية الفلسطينية، بل جرى تشويه مركزية القضية من قبل القادة السياسيين، الذين حوّلوها إلى مسوّغات لإدامة أمد الطغيان السياسي، والتخلف الإقتصادي، والتراجع الإجتماعي والتعليمي.

تركي الحمد: ضد فلسطين

على أية حال، فإن مقالة تركي الحمد، ومقالات أخرى كتبها مثقفون سعوديون، دفعت بردود فعل نقدية في مواقع عربية متعددة. ففي رد فعل على مقالة الحمد كتب رئيس تحرير جريدة (القدس العربي) عبد الباري عطوان مقالاً في 17 نوفمبر بعنوان (خطاب ليبرالي سعودي غريب)، إنتقد فيه الحملات الإعلامية السعودية المكثّفة والمدروسة (لالغاء قضية فلسطين ومحوها من العقل العربي كقضية مركزية تشكل لب الصراع الاسلامي الاسرائيلي، وتحويلها الى قضية ثانوية تحتل مكانة متدنية على سلم الأولويات..).

واعتبر عطوان مقالة الحمد جزءً من استراتيجية جديدة (بدأت تنعكس بقوة في سلسلة من المقالات لبعض الكتاب السعوديين ظهرت في الآونة الاخيرة، متزامنة مع جولات انعقاد مؤتمر حوار الاديان تركز في جوهرها على ضرورة فك الارتباط العربي بالقضية الفلسطينية..). وتستدعي تلك الحملة بحسب عطوان بحملة مقالات (سادت في الصحافة المصرية قبيل وأثناء وبعد زيارة الرئيس الراحل محمد انور السادات الى القدس المحتلة، حيث شنت مجموعة من الكتاب حملات ضارية ضد العرب والفلسطينيين وصلت الى حد الشتائم وتحريض الشعب المصري وتكريهه بالعرب الذين ينعمون بالمال والرخاء بينما يغرق هو في الفقر والحرمان)، في إشارة واضحة الى المسعى التطبيعي مع الدولة العبرية والذي تأمل السعودية إنجاحه، بما يؤول في نهاية المطاف إلى اتفاقيات تطبيع وتبادل سفراء وسفارات.

ويشير عطوان إلى تباين بين المنهجين السعودي ونظيره الساداتي، حيث أن الأخير إعتمد إسلوب الصدمة، إذ توجّه الرئيس المصري أنور السادات بطائرته الى مطار بن غوريون في تل أبيب ضيفاً على الحكومة الاسرائيلية، ومتحدثا في الكنيست عن مشروعه للسلام. اما المنهج السعودي فيميل، بحسب عطوان (إلى التدرّج، والتريث، والخطوات الصغيرة وصولاً إلى الخطوات الأكبر، بسبب حساسية وجود الأماكن المقدسة في مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وعدم وجود أراض سعودية محتلة تبرر الرغبة في استعادتها فتح حوارات وتطبيعاً..).

ويعرّج عطوان في هذا السياق على اللقاءات السعودية ـ الإسرائيلية التي بدأت (سريّة على مستوى القادة الأمنيين البارزين في عواصم عربية وأجنبية، في تواز ملحوظ مع لقاءات علنية مع قيادات روحية يهودية في الولايات المتحدة، تمخضت عن دعوة بعضها لزيارة المملكة في اطارات متعددة، من بينها حوار الاديان)، بحسب عطوان، الذي اعتبر (أول لقاء علني 'غير رسمي' جرى في مدينة اكسفورد في إطار ندوة نظمتها مجموعة أكسفورد للعمل، برئاسة الناشطة البريطانية غبرائيل ريفكند، المقربة من تل ابيب، تحت عنوان (تحريك) مبادرة السلام العربية، وشارك فيها الامير تركي الفيصل قائد الاستخبارات السعودي والسفير السابق في واشنطن ولندن، والجنرال داني روتشيلد منسق الاستيطان السابق في الحكومة الاسرائيلية، الى جانب سفراء ومسؤولين امنيين عرب سابقين).

وبعد استعرض لمجمل التحركات السعودية الرسمية في إطار التقارب السعودي الإسرائيلي يردّ عطوان على رأي الحمد بأن (الإهتمام بالقضية الفلسطينية وجعلها القضية المركزية الأولى جاءا على حساب التنمية وحقوق الانسان والتعليم. وغيرها من القضايا الحياتية الهامة)، ويرى عطوان في ذلك (مغالطة كبيرة لا يمكن المرور عليها دون تفنيد ورد). ويقول عطوان (فآخر حرب خاضها العرب تحت مسمى تحرير فلسطين كانت قبل 35 عاماً. وبعدها بسنوات، وبالتحديد منذ توقيع اتفاقات كامب ديفيد، جرى اسقاط الخيار العسكري كلياً، وشاهدنا دولاً عربية تستغل إتفاق أوسلو المرحلي الذي جاء بعد حصار وعزلة قاتلة لمنظمة التحرير، لتوقيع معاهدات سلام مع الدولة العبرية. فلماذا لم يتوقف انتهاك حقوق الانسان وتعم العدالة والديمقراطية والمساواة والقضاء المستقبل؟).

ويذكّر عطوان بأوضاع مصر ما قبل السلام مع الدولة العبرية وما بعدها (ففي أوائل السبعينات، وبعد أشهر من تولي الرئيس السادات الحكم خلفاً للراحل جمال عبد الناصر، كانت الصحافة تتندر بنقص الفراخ في الجمعيات، وتنشر الرسوم الكاريكاتورية عن طوابيرها. الآن وبعد ثلاثين عاماً على السلام واتفاقات كامب ديفيد تنشر الصحافة نفسها رسوماً ساخرة عن طوابير الخبز، وتحول الجيش المصري إلى جيش من الخبازين وموزعي الأطعمة، وادارة معامل تربية الدواجن وصنع أعلافها).

وعلى صعيد السعودية، يقول عطوان (أزمات التعليم والخدمات الطبية وارتفاع معدلات البطالة والنقص الحاد في المياه، وانعدام وجود شبكة مجار في مدينة كبرى مثل جدة، واتساع نطاق مدن الصفيح والفقر حول الرياض، هذه الأزمات كلها ليست بسبب قضية فلسطين وانشغال الحكومة السعودية بها وتقديمها على قضاياها المحلية، وانما بسبب الفساد وسوء الادارة، وصمت الكتاب عن الحديث بجرأة عن القضايا الحقيقية في البلاد). ويرى عطوان بأن منحى الكتابات السعودية على شاكلة مقالة الحمد، تتجه ليس لمجرد تخفيض القضية الفلسطينية بل صناعة عدو جديد هو إيران بدلاً من إسرائيل، ويقول (إن أخطر ما نراه حالياً على الساحة الفكرية العربية هو محاولة البعض تحويل ايران الى عدو، ونقل اسرائيل من خانة الأعداء الى خانة الاصدقاء، واغراق المنطقة العربية، بل والعالم الاسلامي بأسره، في حرب طائفية مذهبية دموية ربما تمتد لعقود ان لم تكن لقرون مقبلة، بسبب الخوف من القوة الايرانية النووية والعسكرية المتنامية).

ويخلص عطوان للقول بأن (النشطاء الأجانب يركبون البحر لكسر الحصار والتضامن مع هؤلاء المحاصرين، وبعض الكتاب العرب يتحامل على الصامدين ويحملهم وقضيتهم مسؤوليات أعمال حكومات فاسدة ومستبدة).

ليس عبد الباري عطوان وحده من تنبّه إلى ما يشبه حملة منظمة للتخلي عن قضية فلسطين، فقد كتبت رشا عبد الله سلامة من جريدة (الغد) الأردنية مقالاً في 22 نوفبر الماضي بعنوان (حملة منظمة للتخلي عن قضية فلسطين)، حيث تبدأ مقالتها بعبارة تنطوي على ألم: (لم يكد الفلسطينيون يفيقون من صدمة تصريحات الإعلامي السعودي تركي الدخيل، التي أطلقها ضدهم سابقاً، حتى وقعت عليهم تصريحات الإعلامي السعودي الآخر تركي الحمد). واعتبرت رشا عبد الله أن مقالات عدد من السعوديين جاءت محملة بـ (مصطلحات وعبارات لم تسبب جرحاً نفسياً للفلسطينيين فحسب، على قاعدة (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة)، بل هي أشارت وأفصحت عن وجهات نظر إعلامية وسياسية مرعبة حيال شعب منكوب منذ ما يزيد على الستين عاماً).

كانت لغة تركي الدخيل في مقالة بصحيفة (الوطن) في 7 يوليو الماضية بعنوان (السعودية.. أولاً) مؤلمة وجارحة خصوصاً سلسلة المقارنات التي أجراها بين آلام غائرة في فلسطين وآلام عابرة استثنائية، حين خاطب جمهوراً عريضاً بقوله (يا قوم لا غضاضة أن أقولها بملء فيّ، فقضية الوادي المتصدع في جازان كانت تعني لي ما هو أهم من القضية الفلسطينية، واحتمالات أن يصيب إعصار غونو المنطقة الشرقية يؤذيني أكثر من أن يصاب سكان غزة، بل إن ألمي لأن هذا الإعصار ضرب مسقط وقطع الكهرباء وروّع أشقائي العمانيين أكثر من ألمي لو كان الإعصار ضرب الضفة الغربية ذلك أن الأقربين أولى بالمعروف). فمتى كانت القضية الفلسطينية موضع مساومة في الألم، ومتى كان جرح فلسطين يخضع للمقايضة المبتذلة والهابطة بهذه الطريقة؟. أليس من حق هؤلاء المكلومين أن يجهروا بسوء الطالع الذي بدا في كتابات مثقفين يتماهون مع نهج حكومتهم التي تسير نحو حتف التطبيع. تنظر رشا عبد الله إلى تلك المراجعات بأنها تأتي على قاعدة (كلمة حق أريد بها باطل)، إذ يتم استغلال اخطاء القيادات الفلسطينية من أجل إعلان الخلاص ونحر القضية من جذورها.

تركي الدخيل، بدوره ردّ على مقالة رشا عبد الله في 26 نوفمبر الماضي في صحيفة (الوطن) بعنوان (سعوديون ضد فلسطين!)، حمل فيها على أصوات فلسطينية لا تقدّر للسعودية صنيعها وما تقدّمه شعباً وحكومة، بل يصلها انتقادات في أحيان كثيرة وشتائم.

لم تتخفف لغة الدخيل في مقالته ـ الرد، بل زادها جرعة تقريع على الشعب الفلسطيني الذي حمّله أخطاء قلة من قادته، ليزفّ بشارة للقضية الفلسطينية بالقول (وأصبح في الذين يدعمونكم منذ أكثر من ستين عاماً، من يقول إننا لم نجن من هذا الدعم - وأصحاب القضية يتقاتلون - الكثير، أفنكون أكثر وفاءً وولاءً وعطاءً لفلسطين من أهلها؟!).

كثيرة هي المقالات التي بدأت تكسر محرماً ثقافياً وسياسياً تنشر في الصحافة السعودية المحلية والخارجية، وتبشّر بمرحلة قطرية ضيّقة، حيث يجري تصوير قضية فلسطين والمسجد الأقصى باعتبارها قضية شعب تحت الإحتلال يجب أن يتحمل مسؤولية خلاصه بنفسه، وليست قضية أمة ساهمت أكثر قياداتها السياسية، والسعودية في طليعتها، في التفريط بالقضية، فإذا كانت فلسطين قضية شعب فلماذا تقدم السعودية وقياداتها وكتّابها على بيعها عبر مبادرات تسوية سياسية وتطبيع ثقافي!

الصفحة السابقة