الوهابية والعمل السياسي

المحازبة الإقتلاعية

يحي مفتي

يحدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ستة أصول بيّنها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام، وجاء في الأصل الثالث منها: (أن من تمام الإجتماع، السمع والطاعة لمن تأمّر علينا، ولو كان عبداً حبشياً..)(انظر: الدررس السنية في الأجوبة النجديّة، الجزء الأول ص 173)، وفي مكان آخر يقول (وبعد يجينا من العلوم، أنه يقع بين أهل الدين والأمير بعض الحرشة (أي خلافات وسوء تفاهم)، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدين، صار بطانته أهل الشر، وأهل الدين عليهم جمع الناس على أميرهم، والتغاضي عن زلته، وهذا أمر لا بد منه من أهل الدين، يتغاضون عن أميرهم، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم).

ويشكل هذا الرأي خلاصة الرؤية الأيديولوجية الوهابية حول الدولة، ومن شأنه التحريض على قراءة الخلفية التاريخية التي يستند إليها المذهب الوهابي في التأسيس النظري لنظام الحكم الإستبدادي. وطالما أن ثمة نصيّحة يمرّرها جامع كتاب (الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية) تنص على إقتفاء أثر آل الشيخ لكون (العدول عن طريقة آل الشيخ رحمهم الله، ومخالفة ما استمروا عليه في أصول الدين، فإنه الصراط المستقيم الذي من حاد عنه فقد سلك طريق أصحاب الجحيم)، فإنه يشير إلى ما تعنيه الإجتهادات الوهابية في السياسة الشرعية من أهمية كبيرة داخل المدرسة السلفية.

وتنطلق الوهابية، كما يفصح رأي الشيخ إبن عبد الوهاب سالف الذكر، من مبدأ التعيين والغلبة في تشكيل السلطة، وليس من منطق الإختيار والتعاقد، حيث يستمد الحاكم سلطانه أو سيادته من الأمة التي يمثلها. فالإمارة في الرؤية الثيولوجية الوهابية تنعقد بالتسلّط ثم بالتوارث ولا دور لأهل الحل والعقد إلا في موضع إضفاء الشرعية على الإمارة المفروضة. يزعم أحمد دحلان بأن أهل الحل والعقد تنحصر في خمسة أطراف: أسرة آل سعود، أصحاب الفضيلة العلماء، رؤساء المحاكم والقضاة، أعضاء مجلس الوزراء، أعضاء مجلس الشورى) (السيد أحمد دحلان، دراسة في السياسة الداخلية للمملكة العربية السعودية، ص 146).

والحال أن الأطراف الأربعة الأخرى يتم تعيينها بأمر ملكي، ما يعني أن صلاحية أهل الحل والعقد تقف عند مستوى توفير الغطاء الديني بعد قيام السلطة وكذلك للماراسات السياسية السعودية، هذا إن قبلت، من حيث المبدأ، الصيغة المذكورة، حيث من الثابت حكماً أن تعيين الملك يتم بالتوارث بحسب التسلسل المتفق عليه داخل الأسرة المالكة، ويتولى الملك تعيين ولي عهده المحدّد سلفاً، فيما لا دخل لأي فرد من خارج الأسرة المالكة في المشاركة في معادلة الحكم في أي مستوى. وقد أوجد علماء الوهابية مسوّغات ليست بالضرورة مستندة على معطيات شرعية صلبة تذهب إلى حد التسامح في مسألة توارث العرش. ومن اللافت أن السيد أحمد دحلان تحدّث بكل تفانٍ عن مبدأ التوارث وقال (جرى التقليد على حصر وراثة العرش في أبناء الملك عبدالعزيز فيتولى العرش منهم الأخ بعد أخيه لا الولد بعد أبيه بعد ترجيح الأكبر سناً). (المصدر السابق ص 142). كما حظي التقليد برضى وتأييد علماء الوهابية، بل أفاضوا في تمجيده واعتبروا الدولة السعودية بأنها الوحيدة من بين دول العالم كله التي تطبّق أحكام الإسلام، الأمر الذي يواري الجدل حول شكل الحكم وآليات تداول السلطة، بل تجاوزوا كما أوصى مؤسس المذهب عن أخطاء النظام تبعاً لممليات التحالف الديني ـ السياسي بين الوهابية وآل سعود.

في الرؤية الإسلامية المثبّتة في مصادر التشريع الإسلامي نقرأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال، ورع يحجزه عن معاص الله، وحلم يملك به غضبه وحسن الولاية (أي حسن التدبير)على من يلي حتى يكون لهم كالأب الرحيم).

ومن الثابت أن الملوك السعوديين جميعاً قد حازوا على مرتبة (تربية القصور)، كما يشهد بذلك مؤرخو العائلة المالكة، ولنا أن نتخيّل كيف يمكن لمن أتقن ثقافة القصور أن يقود البلاد الى مرحلة التحول الديمقراطي، أو يكون رائداً للإصلاح والحوار.

إن مجرّد إسباغ طابع ثيوقراطي على الدولة السعودية لا يحيلها دولة دينية بالمعنى الحرفي للكلمة، فممارسات الأمراء في السياسة لا تجعل منهم خلفاء دينيين، وفي الوقت نفسه على قدر من التأهيل السياسي والفكري ما يجعلهم ديمقراطيين أو إن شئت شوريين. فثمة وظائف محدّدة للدولة ترسمها النخبة الحاكمة، لا شأن لها بالمجال الحقوقي في بعديه الديني والمدني، ولا صلة له بما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فهناك مصالح تستوجب فعلاً دؤوباً لثنائية دينية وسياسية تمنع إنتقال السلطة إلى آخرين، ينظر إليهم على أنهم خارج نطاق الشراكة والقسمة، فالدولة تأسست بالقوة ويجب أن تدار بالقوة، هكذا نظّر لها العالم وبهذا المسوّغ يمسكها الحاكم.

قليل من لفت إنتباهه غياب كتابات وهابية تنظّر لمبدأ الشورى في الإسلام، بل يكاد كبار علماء المذهب يصرفون النظر عن تناول أسس الدولة الإسلامية والمبادىء التي تحكمها، على الأقل من أجل شرعنة العلاقة مع السلطة، بالرغم من أن الدولة السعودية قائمة، من الناحية النظرية والتاريخية، على أساس تحالف عقدي بين العلماء والأمراء.

بن باز: الإنتخابات جائزة ولكن في الخارج

ورغم ما عرف عن الشيخ محمد بن عبدالوهاب من تشدد وتطرف في تطبيق الاحكام الدينية والترويج لدعوته الاّ أنه كان متسامحاً الى الحد الأقصى في موضوع الإمرة، وكان له ما يبرر هذا التسامح فقد استفاد من بعض الاحاديث ليخرج بحكم ديني يقضي بالتسليم للأمير وإن كان فاجراً ظالماً وأن الوعد والوعيد لمن يعصي الأمير الظالم لأنه ظل الله في الارض، وهذا الحكم تلقفّه أتباعه من بعده وطبّقوه بحذافيره حتى ابتلع آل سعود الجزيرة العربية والوهابية معاً، والسبب في ذلك يعود الى (أن التعاليم الوهابية قد بررت وثبتت الحكم السعودي على الجزيرة العربية. وقد شدّد محمد بن عبد الوهاب على أن طاعة الحكام واجبه حتى ولو كان هؤلاء ظالمين..ونصح الشيخ بالصبر على ظلم الحكام، وشجب الإنقضاض المسلح عليهم). (أنظر: أيمن الياسيني، الدين والدولة في المملكة العربية السعودية ـ ص 36).

وبالرغم من أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يكن منخرطاً بصورة مباشرة في الكتابة حول طبيعة الدولة الإسلامية وفق تصوّره العقدي، إلا أن كتاباته بصورة إجمالية تنطوي على دلالات حول نموذج الدولة التي يناصرها، أي الدولة القائمة على أساس تطبيق حرفي للشريعة، بحسب الميراث الإجتهادي للمدرسة الحنبلية.

ولذلك، يعتقد علماء الوهابية بأن العلماء والأمراء يتقاسمون مسؤولية رسم وتطبيق السياسات ذات الصلة بالشؤون العامة. وكان التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود سنة 1744 يقضي بأن تكون الشؤون الدينية بيد العلماء، وبصورة حصرية في المتحدّرين من الشيخ إبن عبد الوهاب فيما تقع الشؤون السياسية ـ الزمنية في أيدي آل سعود حصراً.

وكان انفجار ازمة الخليج الثانية سنة 1990 ـ 1991، قد بدّل بصورة دراماتيكية المشهد السياسي ـ الديني في المملكة السعودية لينشق عن ظاهرة إحتجاجية من داخل المجتمع الديني الوهابي، في رد فعل على تصدّع أسس التحالف التاريخي المشار إليه سابقاً، حيث عبّر مشايخ المؤسسة الدينية من الطبقة الثانية عن اعتراض شامل على تآكل سلطة العلماء، بفعل انجراف الدولة في تيار التحديث، في طابعه الإداري المحض، إذ فقد العلماء، بحسب فحوى العرائض السلفية حينذاك، جزءً جوهرياً من صلاحيات كانوا يأملون الإمساك بها بصورة دائمة، وبوصفها إمتيازات حصرية بهم دون سواهم، في مجالات التعليم ووسائل التوجيه التربوي والإجتماعي، والقضاء، والإعلام..

عند هذا المقطع، من الضروري القول بأن القوة الدينية السلفية كانت تعارضان على الدوام المناظرة بشأن الصلاحية الدينية للتوافق بين الإسلام والديمقراطية، والتي تصوّر بوصفها مفهوماً دخيلاً، وأحد منتوجات الصليبيين، وإشراك وثن في العبادة مع الله. وما يدعو للغرابة، أن هذا الوثن الديمقراطي يصبح مقبولاً في بلدان أخرى مثل الكويت والجزائر ومصر والأردن التي أفتى علماء الوهابية بجواز المشاركة في الإنتخابات، بكونها أحد مكوّنات وتمظهرات الممارسة الديمقراطية.

إن الدور الفارط وتمدد سلطة المؤسسة الدينية كانا دائماً ينطويان على اعتراض أيديولوجي لكل أشكال التغيير. ومن وجهة نظر النخبة الدينية الوهابية، أن الإصلاح السياسي يفضي أولاً إلى تناقص سلطتها السيادية وحصّتها في الدولة، وثانياً سيغيّر دون مناص طبيعة الدولة، وثالثاً، سيؤدي الإصلاح إلى تفتيت سلطة التوجيه الثقافي والأيديولوجي التي كانت تحت سيطرة المؤسسة الدينية، بما يؤول إلى تعددية مصادر التوجيه، وصولاً إلى تخفيض سلطة العلماء وربما زوالها في مرحلة لاحقة. وفي الحاصل النهائي لتلك المخاوف، فإن رد فعل المؤسسة الدينية كان يميل على الدوام نحو معارضة الإصلاحات، ببساطة لكونها الخاسر الأكبر.

وأمكن القول في ضوء هذه الخلفية الأيديولوجية، أن علماء الوهابية كانوا مسؤولين، وليس وحدهم بطبيعة الحال، عن إجهاض المناظرة حول الديمقراطية، وتوفير مسوّغات بطش الدولة ضد الإصلاحيين. بكلمات أخرى، كان الخطاب الديني الرسمي ومازال يساهم في إعاقة عملية الإصلاحات السياسية، بل وتقويض أية محاولات لعقد مناظارات حول الإصلاحات والديمقراطية.

كتب مقتدر خان، مدير الدراسات الدولية في كلية أدريان، يقول: توجّهت إلى عضو مجلس الشورى في أستوديو تلفزيوني حيث كنت أسجّل مقابلة لمدة ساعة كاملة حول الديمقراطية الإسلامية، وعنّفني ـ أي عضو مجلس الشورى ـ لكوني لم أعقد نقدياً ـ ضد النظام السعودي ـ كما كنت سابقاً، واستمتعت إلى هجومه على الجامعة وعلماء الوهابية كونهم مصدر مشكلة الإرهاب في السعودية. ويقول، بحسب نقل مقتدر خان: كل ما يدرّسونه هو كراهية من يختلفون معهم. ونحن بلد في القرن العشرين من الناحية الإقتصادية ولكننا في القرن الرابع عشر من الناحية الفكرية). يقول مقتدر خان: (نصحته بأن يتحدّث أمام شعبه وملكه كما تحدث بنفس القدر من الصراحة والعلانية هنا).

بطبيعة الحال، لم يسمع خان إن كانت نصيحته قد طبّقت بحذافيرها، وأهل الدار يدركون تماماً بأن ما يقال في المجالس المغلقة أو في المنتديات التي تعقد خارج البلاد، لا يجد قنوات مناسبة لمروره الى الشارع، فثمة مصالح ومحاذير جمّة تحول دون كسر التابوات التي فرضتها العائلة المالكة بالتعاون مع حليفها الديني ما يجعل الحديث في السياسة أمراً محظوراً ما لم يكن متناغماً مع الخطاب المتبنى من قبل الدولة.

الألباني: الأصل حرمة الإنتخابات.. ولكن..

ولذلك، أرغمت القوى السياسية من مختلف الطيف الإجتماعي والأيديولوجي على تفادي الإنتقادات العلنية المباشرة للنظام السعودية كيما لا تعكّر صفو مضاجع العلماء الذي سيتصرّفون على وجه السرعة للدفاع عن المواضع الإجتماعية التي يتمتّعون بها، وكذلك المصالح المشتركة مع العائلة المالكة. يضاف إلى ذلك، يؤسس الخطاب الديني الوهابي، كما هي مهمته التقليدية على الدوام، الأرضية للحكومة السعودية كيما تتخذ كل الإجراءات ذات الطبيعة القاسية والقمعية ضد أولئك الذي يطالبون بإحداث تغييرات في بنية الدولة أو تحويلها الى ديمقراطية.

فالتفسيرات الرسمية للإسلام تحظر المجادلات من أي نوع، خصوصاً تلك التي لا تتوافق مع الخطاب الوهابي التقليدي. وبالرغم من أن كثيراً من الإسلاميين لا ينتمون للمدرسة الوهابية، إلا أنهم لا يفضّلون البوح بقناعاتهم السياسية، وإن جاءت في ضوء تفسيرات دينية مخالفة للتفسير الوهابي الرسمي. ولذلك، إنه الخطاب الديني الوهابي المسؤول عن غياب أي كتاب أو ندوة أو مؤتمر في هذا البلد حول الديمقراطية، ما لم تكن هذه الفعاليات مكرّسة بصورة حصرية لإثبات التعارض التام بينها وبين الإسلام، بما يؤكّد في نهاية المطاف الرؤية الدينية ـ السياسية الرسمية.

إن غياب البنية التحتية للديمقراطية، يمهّد دون مناص لجهود النظام السعودي في عزل، وقمع بل وجلد أو إعدام أولئك الذين يتجاوزون فتاوى العلماء. كتبت سامية ناخول في مارس 2004: (حين أفتى أعلى سلطة دينية في السعودية (المفتي الأكبر الشيخ عبد العزيز آل الشيخ) بأن الإسلام يمنع الرجال والنساء من الإختلاط في الأماكن العامة، فإنه وضع حدوداً أمام الإصلاحيين الذي ينادون بحقوق المرأة في المملكة المحافظة). ولم يكن الأمير نايف، وزير الداخلية، مخطئاً في تقدير الموقف الوهابي من قيادة المرأة للسيارة، حين استعمل لغة الفتوى بأن الإسلام يمنع المرأة من قيادة السيارة، فهو يعي تماماً الروح الخفية للوهابية المتناغمة مع توجّهات رعاتها.

وفي حقيقة الأمر، فإن غياب المناظرة حول الديمقراطية في السعودية ليس عائداً فحسب للتدابير القمعية للدولة، أو فشل الأخيرة في تطوير بناها ووسائلها كيما تتطابق مع شروط الديمقراطية، ولكن أيضاً عائداً الى الدعم الديني الواسع والحازم الذي يقدّمه علماء الوهابية للحكم السعودي.

وتجدر الإشارة الى أنه حين تكون القضية متّصلة بالحكم والدولة، فإن التباينات داخل المجتمع الوهابي الديني تتلاشى. ولذلك، فإن الخلاف بين متشدّدي الوهابية ومعتدليها لا يحوم حول الديمقراطية إن كانت متوافقة مع الإسلام أم خلاف ذلك، حيث أن الطرفين متمّسكان بموقف عقدي متوّحد يقوم على اعتبار الديمقراطية بضاعة الكفّار والمشركين. ولكن الخلاف يترّكز حول المدى الذي يمكن تصل إليه سلطة وصلاحية العلماء في الدولة. فما الذي يجعل الشيخ عبد الله التركي والشيخ ناصر العمر يلتقيان على موقف واحد في موضوع (ولاية الأمر)، واعتباره مفهوماً لا يمكن تطبيقه بحسب الرؤية الشرعية والتاريخية للوهابية إلا على العلماء وحدهم دون سواهم؟

إن محاولات العائلة المالكة، وخصوصاً الملك وبعض الأمراء المقرّبين منه، في فبركة شكل جديد للوهابية مشتق من الوهابية الأصلية، أي شكل قابل للتسويق في الغرب، واجهت فشلاً ذريعاً في تطوير تفسيرات جديدة للوهابية. فالضجيج المصاحب لنموذج الوهابية الليبرالية كما بشّر به الملك ورجاله وكتبت عنه بعض الصحف الغربية والأميركية مالبث أن توارى سريعاً، لأنه نموذج مقطوع الصلة بالجذور الفكرية والإجتماعية والتاريخية للوهابية نفسها التي لا تقبل تشويهاً لهويتها، وأسسها العقائدية، وبالتالي بقي النموذج بلا أتباع كبار أو صغار في التراتبية الوهابية الرسمية والشعبية. فالذين يتحدّثون عن تجديد في الوهابية، يحتاجون إلى قدرة تأويل جبّارة من أجل الحصول على إشارات في كتابات وخطب وندوات المصنّفين على الوهابية الجديدة.

على أية حال، فإن الصورة النمطية عن الوهابية بوصفها حركة طهرانية إصلاحية بدأت في التشظي، ليس بسبب تداعيات هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن بفعل تفجّر التناقضات داخل الدولة السعودية ذات الصلة بالمزاعم الدينية، والعدالة، والثروة، والحريات، وأخيراً الإصلاح السياسي. فاللهاث خارج الحدود من أجل تزيين صورة العائلة المالكة، وتسويق نموذج للوهابية غير حائز على إجماع الحراس الحقيقيين للوهابية الأصلية، أدى إلى توليد إنطباع عام بأن الإزدواجية السعودية باتت مقرفة، لأنها تنطوي على خديعة، فالصورة الخارجية للدولة ليست سوى غطاءً مزوّاً لأشكال التخلف، والاستبداد، والانتهاك المقيت للحقوق والحريات في الداخل. ولم تفلح تلك المحاولات المفتعلة في تغيير حقيقة أن العائلة المالكة فاسدة، وأنها تستعمل الإسلام لمصالح خاصة.

في مقابل المناصرين لخيار التجديد في الوهابية، هناك من ينتقدها بشدّة لأنها لا تسمح بتطوير آليات تجديد، بل ذهب البعض مثل الدكتور محسن العواجي الى أن الفكر الوهابي يحرّض على العنف. وقال في مقابلة مع قناة (الجزيرة) في برنامج (بلا حدود) في نوفمبر 2003 قال (إن هؤلاء الشباب الذين في نهاية الأمر تبنوا العنف ينطلقون من أفكار هي أصلاً موجودة في الفكر الوهابي).

بن جبرين: الإنتخابات شرعية بشروط

العلماء والفتاوى السياسية

ما يثير الغرابة حقاً، أن علماء الوهابية رغم كونهم لم يدرسوا علوم السياسة، ولم يطّلعوا على التجارب الديمقراطية ولا عاشوها في بلدانهم، ولكنّهم مع ذلك يمارسون (ولاية الفقيه) المطلقة، فيفتون في كل شيء، حتى ما كان خارج اختصاصهم، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التعليم. في مطالعة متأنية في مضامين الفتاوى التي أصدرها علماء الوهابية من الطبقتين الأولى والثانية ما يلفت إلى أن الإنزواء عن العمل السياسي في الداخل لم يمنع تعويضه خارج الحدود، حيث يبرع العلماء والمشايخ في تقديم أنفسهم بوصفهم خبراء في الفقه السياسي، تحدوهم فكرة ممارسة التغيير من داخل المؤسسة (الحزب، البرلمان..)، وإن كان إنكار شرعيته من حيث المبدأ يبقى قائماً. بل ما يثير في الفتاوى تلك المحازبة المندسّة في ثنايا الفتاوى، والتي تتعامل مع أنصار محدّدين، تبعث لهم برسائل توجيهية كيما يضطلعوا بواجب تلقيه عليهم القيادات الحزبية ولكن تحت أغطية أخرى.

وتستمد المحازبة السياسية لدى النخبة الوهابية من رؤية أيديولوجية تنزيهية، ما يعزّز الخوف الشائع من إمكانية اختطاف الديمقراطية من أناس يجحدوها، وترسيخ الإعتقاد بأن الديمقراطية توفّر أدوات تقويضها من خلال إعطاء فرصة لذوي النزوعات الإقتلاعية بتمرير معتنقاتهم العقدية عبر وسائل ديمقراطية تفضي في نهاية المطاف الى السيطرة على العملية السياسية.

فقد أصدر عدد من كبار العلماء فتاوى تجيز بل تحثّ على المشاركة والمنافسة في الانتخابات التشريعية. فقد أجاز المفتي السابق الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ إبن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألبناني وإن بتحفّظ المشاركة في الإنتخابات، ولكن من منظور عقدي، أي بنيّة توظيف الديمقراطية لخدمة العقيدة، وفق المنظور الوهابي.

وفي سؤال وجّه للشيخ بن باز عن حكم الدخول في المجالس التشريعية، أو مجلس الشعب (البرلمان) فأجاب بما نصّه: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب (البرلمان)، إذا كان المقصود من ذلك تأييد الحق وعدم الموافقة على الباطل لما في ذلك من نصرة الحق والإنضمام إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يستعان بها على انتخاب الدعاة الصالحين وتأييد الحق وأهله).

ولا يبدو الحق هنا منفصلاً عن رؤية عقدية شديدة الخصوصية في العقل الوهابي، وكما يظهر فإن فتوى الشيخ بن باز تنطلق من وجود باطل، وكما توحي الإجابة فإن الشيخ يصدر الفتوى بناء على الرؤية العقدية لدى السائل دون حاجة للتأكّد من حقيقة الباطل المزعوم، وهذا ما ينبىء عن الخلفية الأيديولوجية لدى الشيخ، حيث الأصل فساد المجتمعات وبطلان ماهي عليه.

نجد ذلك واضحاً أيضاً في جوب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على سؤال عن حكم التصويت في الانتخابات والترشيح لها؟ ويؤسس السائل تمهيداً للحكم بالقول (مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل الله). وأجابت اللجنة بالقول:

(لا يجوز للمسلم أن يرشّح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة إلا إذا كان من رشّح نفسه من المسلمين ومن ينتخبون يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام، واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم ، على ألا يعمل من رشّح نفسه بعد تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية). وقد وقّع على الفتوى كل من الشيخ عبد العزيز بن باز، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان، الشيخ عبد الله بن قعود. أنظر: فتاوى اللجنة الدائمة، (23/406،407).

وسئلت اللجنة بأعضاءها الآربعة السابقين عن الإنتخابات التشريعية التي جرت في الجزائر سنة 1991، وكان السائل قد حدد معالم الخارطة الحزبية من منظور عقدي بما نصّه: كما تعلمون عندنا في الجزائر ما يسمى بـ:"الانتخابات التشريعية"، هناك أحزاب تدعو إلى الحكم الإسلامي، وهناك أخرى لا تريد الحكم الإسلامي. فما حكم الناخب على غير الحكم الإسلامي مع أنه يصلي؟، فكان الجواب على النحو التالي:

(يجب على المسلمين في البلاد التي لا تحكّم الشريعة الإسلامية، أن يبذلوا جهدهم وما يستطيعونه في الحكم بالشريعة الإسلامية، وأن يقوموا بالتكاتف يداً واحدة في مساعدة الحزب الذي يعرف منه أنه سيحكم بالشريعة الإسلامية، وأما مساعدة من ينادي بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية فهذا لا يجوز، بل يؤدي بصاحبه إلى الكفر؛ لقوله تعالى:(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ*أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)المائدة/49-50، ولذلك لما بَيَّن اللهُ كفر من لم يحكم بالشريعة الإسلامية، حذر من مساعدتهم أو اتخاذهم أولياء، وأمر المؤمنين بالتقوى إن كانوا مؤمنين حقا، فقال تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) المائدة/57. (فتاوى اللجنة الدائمة ـ 1/373).

وتفشي الفتوى سر التسامح العفوي إزاء العمل الحزبي، ولكنها المحازبة في شكلها الواحدي التنزيهي، التي لا تنطوي على إباحة مفتوحة للتعددية الحزبية، بل تشير الفتوى بوضوح إلى أن المطلوب من الناخبين ترشيح الحزب ـ الأداة الذي يضطلع بمهمة تطبيق الشريعة دون غيره. وكان أعضاء اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن بن قعود والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ عبد الرزاق عفيفي ) قد أفتوا بجواز الإنضمام والعمل مع الأحزاب السياسية ـ وإن كانت علمانية ـ إذا استطاع المسلم التأثير فيها وتوجيهها توجيها إسلامياً. وجاء في فتوى اللجنة الدائمة حول (موقف المسلم من الأحزاب السياسية) السؤال الرابع من الفتوى رقم ـ ????:

الحوالي: الديمقراطية كفر، والإباحة استثناء

س ?: بعض الناس مسلمون، ولكنهم ينخرطون في الأحزاب السياسية، ومن بين الأحزاب إما تابعة لروسيا أو تابعة لأمريكا، وهذه الأحزاب متفرعة وكثيرة؛ أمثال: حزب التقدم والاشتراكية، حزب الإستقلال، حزب الأحرار ـ حزب الأمة ـ حزب الشبيبة الاستقلالية، حزب الديمقراطية..، إلى غيرها من الأحزاب التي تتقارب فيما بينها، ما هو موقف الإسلام من هذه الأحزاب، ومن المسلم الذي ينخرط في هذه الأحزاب، هل إسلامه صحيح؟

ج ?: من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبعد نظر في العواقب وفصاحة لسان، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيهاً إسلامياً ـ فله أن يخالط هذه الأحزاب، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق؛ عسى أن ينفع الله به، ويهدي على يديه من يشاء فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة، ينتظم بها شمل الأمة، فتسلك قصد السبيل، والصراط المستقيم، لكن لا يلتزم مبادئهم المنحرفة، ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر، فليعتزل تلك الأحزاب؛ اتقاءً للفتنة ومحافظة على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم؛ ويبتلى بما ابتلوا به من الإنحراف والفساد).

وفق هذا المنظور الشرعي، إرتفع الحظر عن التيار السلفي في الكويت والبحرين للإنخرط في العمل الحزبي المؤهّل للتنافس الإنتخابي. ومن اللافت، أن كبار العلماء في المدرسة السلفية لم يشكلوا على الإنتخابات بوصفها إحداثاً جديداً لم يعهده السلف من قبل، وليس له أصل في الكتاب والسنة. على أية حال، فتحت الفتوى الباب أمام التيار السلفي الذي كان يعيب على الإخوان انخراطهم في السياسة ووصفهم بـ (الأشاعرة)، لكي يزايد في انخراطه في العملية الديمقراطية الكويتية إلى حد إتيانه بأفكار متطابقة مع الديمقراطية الغربية كما جاء في برنامج (حزب الأمة) الكويتي. فلماذا يكون الجواز الشرعي للدخول في البرلمان إذا كان خارج البلاد ولا يقابلها موقف مماثل في الداخل؟، هل تضمر الفتوى موقفاً عقائدياً من المجتمع والدولة في الكويت، ما يجعل الكلام هناك ضرورة شرعية، فيما الصمت هنا موافقة شرعية؟.

وكان أيمن الظواهري، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، قد أعدّ في سنة 1989 رسالة بعنوان (نصح الأمة باجتناب فتوى الشيخ ابن باز بجواز دخول مجلس الأمة) عارض فيها بالأدلة الفقهية والحديثية والتاريخية فتوى الشيخ إبن باز، كما كتبت مجموعة سلفية رسالة بعنوان (حقيقة الديمقراطية) ضمن سلسلة أطلق عليها (سلسلة فاعلم أنه لا إله إلا الله) جاء فيها:

وقال الشيخ ابن باز نفسه في شرح الناقض الرابع من نواقض الإسلام العشرة التي جمعها شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، قال ابن باز (ويدخل في ذلك أيضاً كل من اعتقد أنه يجوز الحكم بغير شريعة الله في المعاملات والحدود أو غيرهما، وإن لم يعتقد أن ذلك أفضل من حكم الشريعة، لأنه بذلك يكون قد استباح ماحرَّم الله إجماعا، وكل من استباح ماحرّم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة كالزنا والخمر والربا والحكم بغير شريعة الله فهو كافر بإجماع المسلمين) أهـ (مجلة البحوث الإسلامية) الصادرة عن الرئاسة العامة للبحوث والدعوة والافتاء بالسعودية، العدد السابع، ص 17 - 18. وفي رسالته (نقد القومية العربية) وصف الشيخ ابن باز الحكم بالقوانين الوضعية بأنه (هذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردّة السافرة) ص 50.

فأعضاء البرلمانات مسئولون عن استمرار الحكومات في الحكم بالقوانين الوضعية، كما أنهم مسئولون عن تشريع مايستجد من هذه القوانين، وكلا الوظيفتين من الكفر الأكبر المستبين، (ظلمات بعضها فوق بعض).

وتضيف الرسالة: وبكل أسف فقد تابع الشيخ ابن باز في إجازته المشاركة في البرلمانات الشركية بعض أهل العلم بدعوى أنها ضرورة، وهذا هو التقليد المحرم المذموم.. وممن تابع ابن باز في هذا الدكتور سفر الحوالي (في شريط مسجل رقم 4661 ـ تسجيلات الهداية الإسلامية بالدمام ـ محاضرة 23/ 6/ 1412 هـ)، وقد خصصته بالذكر لسببين: أحدهما: أنه يُدرِّس للناس العقيدة ويعلم حقيقة الشرك وأنواعه، والثاني: أنه كتب كتاباً في (العلمانية) بيّن فيه أصل الديمقراطية وحقيقتها الشركية. فكان بذلك من أولى الناس بألا يقع في هذا التقليد المذموم وهو التقليد بخلاف الدليل الشرعي. وإليك بعض كلامه عن الديموقراطية في كتابه (العلمانية) قال د. سفر الحوالي (ص 687) (من هذه الشبهات استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ الكفر أو الجاهلية على من أطلقهما الله تعالى عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد بذريعة أن هذه الأنظمة ـ لاسيما العلمانية الديموقراطية ـ لاتنكر وجود الله ولاتمانع في إقامة شعائر التعبد وبعض أفراد الأنظمة العلمانية يتلفظون بالشهادة ويقيمون الشعائر من صلاة وصيام وحج وصدقة ويحترمون رجال الدين (!) والمؤسسات الدينية... الخ. فكيف نستسيغ القول بأن العلمانية نظام جاهلي وأن المؤمنين بها جاهليون؟.

وتعلّق الرسالة: من الواضح جداً أن الذين يلوكون هذه الشبهة لايعرفون معنى لا إله إلا الله ولا مدلول «الإسلام» وهذا على فرض حسن الظن بهم، وهو مالا يجوز في حق كثير من المثقفين الذين يتعللون بهذه العلل) وقال د. سفر أيضا (ص 692 - 693) (وجدير بنا أن نقف قليلا عند قول شيخ الإسلام إن الردة عن شرائع الدين أعظم من خروج الخارج الأصلي عنها، لنقول: إن هذا هو ماأدركه المخطط اليهودي الصليبي كما سبق في وصية زويمر فقد يئس المخطط من إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية فلجأ ـ بعد التفكير والتدبير ـ إلى ماهو أخبث وأخطر: لجأ إلى اصطناع أنظمة تحكم بغير ماأنزل الله وفي الوقت نفسه هى تدعي الإسلام وتظهر احترام العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير وضمنوا ولاءها وخَدّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من انتفاضتها، ولذلك لايجرؤ أرباب هذه الأنظمة على التصريح بأنهم ملحدون أو لا دينيون بينما يصرحون ـ مفتخرين ـ بأنهم «ديموقراطيون» مثلاً.) (العلمانية) ط جامعة أم القرى 1402 هـ. فهل يستقيم ـ مع كلامه هذا ـ أن يتابع ابن باز في فتواه؟.

بن عثيمين: المشاركة في الإنتخابات واجبة لمنع الفسقة

وتواصل الرسالة نقد فتوى ابن باز بالقول: ولا يفوتني في هذا المقام أن أوصي كل من يفتي الناس ـ أيما كانت رتبته ـ بأن يكون ذا بصيرة في الواقع الذي يفتي فيه حتى لايخدعه المستفتي في عرض الواقع القبيح في ثوب حسن، كما ألبس هؤلاء الديمقراطية الشركية ثوب الدعوة إلى الله، فإن من شروط المفتي معرفة الواقع الذي يفتي فيه، كما قال ابن القيم ـ في أحكام المفتي ـ (الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تَحَيُّل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه، أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولاينبغي له أن يُحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فَطِناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم، يوازره فقهه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زَاغَ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل، وباطنها مكر وخداع وخداع وظلم، فالغرُّ ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زَغَل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زَغَلُ الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زَيْف النقود. وكم من باطل يُخرجه الرجلُ بحُسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل، ومن له أدنى فطنة وخبرة لايخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس، ولكثرته وشهرته يُستغنى عن الأمثلة. بل من تأمل المقالات الباطلة والبِدَع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكَسَوْها ألفاظا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها) (اعلام الموقعين) ج 4 ص 229 - 230.

وكان الشيخ سفر الحوالي قد تعرّض في محاضرة له بعنوان (الممتاز في شرح بيان ابن باز) لموضوع الإنتخابات الجزائرية وقال: (نحن مبدئياً نعتقد أن الديمقراطية كفر ليس في ذلك عندنا أي شك، ونعتقد كذلك أن قيام الإسلام في الأرض ليس بهذه الطرق وبهذه الوسائل بالضرورة، بل الطريق الصحيح والمنهج الحق هو: الدعوة وطلب العلم ونشر الفقه في الدين، وتربية الناس على ذلك، وحثهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى أن تأتي مرحلة تمايز الصفوف، هنا يأتي الجهاد في سبيل الله، وإقامة الدين بعد البيان والحجة وإبلاغ الحق، وهذه بديهيات معروفة والحمد لله، لكن نحن نتكلم عن قضية واقعية وأمر قد وقع).

في موقف الشيخ الحوالي هنا ما يلفت إلى تمايز بين بعدين: مبدئي وواقعي، فالمبدئي يقضي بكفر الديمقراطية، أما الواقعي فيملي حكماً استثنائياً إذ لا مناص من إبداء الرؤية الشرعية في مسألة لم يكن بالإمكان السكوت عنها بعد أن صارت أمراً واقعاً، ولذلك فهو يجيز الإنخراط في العملية الإنتخابية بغرض إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أي من باب أخف الضررين، وأقل الفسادين.

وهنا ينشق المشهد عن نزوعين داخل المجتمع الديني الوهابي، فبينما يميل أغلبية الاتجاه الرسمي الى تشجيع الإنخراط في العملية السياسية من أجل السيطرة عليها وتنفيذ أجندة سلفية، يميل الإتجاه الجهادي إلى مقاطعة العملية السياسية بصورة تامة بوصفها باطلة شرعاً.

ويمثّل موقف الشيخ صالح الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، التعبير المبدئي عن العقيدة السلفية في مبدأ التعيين، وقد سئل عن الانتخابات، قياساً على انتخاب الخليفة عثمان عن طريق الستة الشورى، فأجاب: إنتخابات من أهل الحل والعقد نعم، من أهل الحل والعقد ماهي من الغوغاء والعامة وشراء الأصوات والفوضى، لا هذه ماهي من الإسلام، أما أهل الحل والعقد نعم ينتخبون، نعم العلماء والأمراء والقادة وجهاء الأمة يختارون واحد هذا نظام الاسلام في الإنتخابات أما الفوضى والغوغاء والنساء والأطفال هذا نظام الغرب، نظام غربي. (عنوان الفتوى:حكم الانتخابات . رقم الفتوى:8027 انظر موقع الشيخ الفوزان).

وتكشف الفتوى عن موقف جازم من أصل مبدأ الانتخابات باعتباره بدعة غربية، لا أساس شرعي لها، وتمثل الالتزام الأمين بالخط السلفي الذي يقف أمام الإحداثات الجديدة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة وسيرة الأولين من السلف الصالح. إلا أن هذا الموقف يقابله إجتهاد آخر، يقوم على أساس الموازنة بين المفاسد والمصالح، وفي كلا الحالين تبدو المحازبة في شكلها الاقتلاعي شديدة الوضوح.

وكان الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن الجبرين قد سئل عن موقفه من المشاركة في انتخابات البلدية سواء بالتسجيل أو الترشيح أو التصويت، فأجاب: نظراً لأهمية هذه الانتخابات، وآثارها المنتظرة في تحسين وضع البلاد، واختيار ما له أهمية ومصلحة في البلاد والعباد، فإننا نرى أهمية المشاركة في هذه الانتخابات، واختيار الأفضل من المرشحين من أهل الخبرة والمعرفة والصلاحية؛ لخدمة المشاريع البلدية، ورجاء أن يكون المرشحون من أهل الصلاح والإصلاح، والعمل فيما يكون سبباً في الإستقامة واختيار ما يناسب البلاد، واختيار الأشخاص الصالحين المصلحين، ممن يرجون الله والدار الآخرة، وينصحون لولاة الأمر وللمواطنين، فمتى تقدّم أهل الخبرة وأهل المعرفة وأهل الإستقامة لاختيار من لهم صلاح ومعرفة، فإن ذلك خير في الحال وفي المآل، والله أعلم.

وليس أهل الصلاح هنا سوى من محضوا العقيدة السلفية، والتزموا تعاليمها وقاموا بواجباتها خير قيام كيما يحظوا بشهادة التزكية من العلماء الكبار الذين شاركوا بصورة غير مباشرة في تشجيع الأتباع على التصويت لقائمة مرشّحين من نفس الخط العقدي.

وكانت الفتاوى السياسية التي أصدرها علماء الوهابية في السعودية قد أثارت جدلاً فكرياً مفتوحاً، كونها أعادت الدولة الى الحقل الديني، الذي يرى البعض بأنها ابتكار بشري وتهدف لتحقيق مصالح دنيوية محض، وأن إقحام الدين في هذا الحقل يقتصر على وضع ضوابط أخلاقية كيما لا تنحرف الدولة عن مسارها الوظيفي في تحقيق العدل والمساواة وضمان سلامة تطبيق الحقوق والحريات الفردية والعامة. وكان مثيراً أن تلتزم الجماعات السلفية في كل من الكويت والبحرين بفتاوى سياسية صادرة عن علماء الوهابية في المملكة، فيما تجتهد أو تتأول فتاوى أخرى مرتبطة على سبيل المثال بقيادة المرأة للسيارة والتي أصدر فيها الشيخ بن باز والشيخ بن عثيمين فتوى بالحرمة. وقد علّق وزير التربية الكويتي الأسبق الراحل أحمد الربعي على إنتقائية التيار السلفي في تطبيق الفتاوى بالقول (فإذا كانت المسألة هي الإنصياع للفتاوى فالمفروض أن يتم الإلتزام بفتوى قيادة السيارة. بل إن هؤلاء السلفيين كانوا يأخذون على الأخوان دخولهم البرلمان في السابق، فلقد كانوا ضد دخول الرجل للبرلمان، ثم أفتى زعيمهم ونقل عن الشيخ بن عثيمين رحمه الله، شفاهة (إدخلوها..أتتركونها للعلمانيين والفسقة؟).

الفوزان: الإنتخابات بدعة

وتجدر الإشارة هنا إلى ما ورد على لسان الشيخ ابن عثيمين فيما سمي بـ (لقاء الباب المفتوح للشيخ ابن عثيمين رحمه الله..رقم الشريط 211)، وقد ورد سؤال يقول: ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت، علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين ورجال الدعوة فتنوا في دينهم؟ وأيضاً ما حكم الإنتخابات الفرعية القبلية الموجودة فيها يا شيخ؟! فكانت الإجابة على النحو التالي: أنا أرى أن الانتخابات واجبة، يجب أن نعيّن من نرى أن فيه خيراً، لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر، أو الناس السلبيون الذين ليس عندهم لا خير ولا شر، أتباع كل ناعق، فلابد أن نختار من نراه صالحاً، فإذا قال قائل: إخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك، نقول: لا بأس، هذا الواحد إذا جعل الله فيه بركة وألقى كلمة الحق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولابد لكن ينقصنا الصدق مع الله، نعتمد على الأمور المادية الحسية ولا ننظر إلى كلمة الله عز وجل.. فأقول: حتى لو فرض أن مجلس البرلمان ليس فيه إلا عدد قليل من أهل الحق والصواب سينفعون، لكن عليهم أن يصدقوا الله عز وجل، أما القول: إن البرلمان لا يجوز ولا مشاركة الفاسقين، ولا الجلوس معهم، هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبين لهم الصواب.

ويضيف: بعض الإخوان من أهل العلم قالوا: لا تجوز المشاركة، لأن هذا الرجل المستقيم يجلس إلى الرجل المنحرف، هل هذا الرجل المستقيم جلس لينحرف أم ليقيم المعوج؟! نعم ليقيم المعوج, ويعدل منه، إذا لم ينجح هذه المرة نجح في المرة الثانية.

وسئل الشيخ بن عثيمين عن الإنتخابات الفرعية القبلية، فأجاب: كله واحد أبداً رشح من تراه خَيِّرَاً، وتوكل على الله. وقد أكّد الشيخ نفسه فتواه بإجازة الإنتخابات وقال: نعم أفتينا بذلك ـ ولا بد من هذا ـ لأنه إذا فُقِدَ صوت المسلمين؛ معناه: تَمَحُّض المجلس لأهل الشر. وإذا شارك المسلمون في الإنتخابات؛ انتخبوا من يرون أنهم أهل لذلك، فيحصل بهذا خير وبركة.

ولابد من التذكير هنا أن فتوى الشيخ ليست لمسلمين يعيشون في الغرب، أو بلاد غير إسلامية، بل هي فتوى صادرة للمسلمين في الكويت، وأن قوله (إذا فقد صوت المسلمين، وإذا شارك المسلمون) تستدعي الموقف العقدي الوهابي من المجتمعات غير المنضوية داخل العقيدة السلفية.

وكان الشيخ محمد بن ناصر الدين الألبناني قد أفتى في الانتخابات الجزائرية بكلام طويل بعد سلسلة من الاستفسارات وصلته من الجزائر، وقبلها من الأردن وأعطى فيها نظره الفقهي. وقال: نحن لنا موقفان من الإنتخابات يبدو لمن لا علم عنده ولو لأول وهلة أن بينهما تناقضاً ولا تناقض. الموقف الأول :أننا لا ننصح أحداً من المسلمين أفراداً كانوا أم جماعاتٍ أن يرشحوا أنفسهم لمثل هذه البرلمانات. الموقف الثاني: أننا نقول لعامة المسلمين في أي بلد كانوا: إذا كانت الدولة الحاكمة تفرض هذا النظام، نظام الإنتخابات، وهنا يتسابق أصحاب الأحزاب والآراء أن يتسارعوا إلى ترشيح أنفسهم والوصول إلى البرلمانات بأكثر عدد ممكن لحزبهم أو كتلتهم. في هذه الحالة إذا وُجِدَ بعض المسلمين رشحوا أنفسهم ونحن ننصحهم ألا يفعلوا، لكن لنا موقف آخر فنقول حينئذ: القاعدة الفقهية إذا وقع المسلم بين مفسدتين اختار أقلّهما شراً، البرلمان سيقوم على عُجره وبُجره شِئنا نحن معشر المسلمين أم أبينا، فهناك فرق كبير جداً بين أن يكون البرلمان كل أفراده غير مسلمين، وبين أن يكون كل أفراده مسلمين فرق كبير جداً. ثم فرق كبير بين أن يكون في الحالة الأخرى أن يكون المرشحون في البرلمان كلهم مسلمين لكن بعضهم صالح وبعضهم طالح، بعضهم يعمل لصالح الإسلام وبعضهم يعمل لصالح شخصه أو كتلته أو حزبه، ولا يبالي عن مصالح الإسلام. فحينئذ على الناخبين من المسلمين أن يشاركوا في انتخاب الأصلح والأنفع للإسلام، في الوقت الذي نقول لا ينبغي لمسلم أن يرشّح نفسه ويدخل البرلمان لأنه في هذا إهلاك لنفسه وإقرار لمخالفته للشريعة.

لكن ليس كل الناس في إمكاننا أن نقنعهم برأينا ولو كان صواباً مئة بالمئة وسيكون هناك ما هو الواقع ناس آخرون لهم اجتهادات لهم آراء، بغض النظر هل هم مصيبون أو مخطئون هل هم أهل لأن يجتهدوا. هذا هو الواقع، الواقع أن كثيراً من المسلمين الصالحين سيرشّحون أنفسهم في البرلمانات، حينئذ نقول لأفراد المسلمين إختاروا هؤلاء على الأفراد المسلمين الغير صالحين وعلى الأفراد الكافرين من الشيوعيين وغيرهم. هذا أقل شراً من أن تقبعوا في بيوتكم وأن لا تشاركوا في اختيار نوابكم. (مقتطف من شريط رقم 344 من أشرطة سلسلة الهدى والنور).

وتكشف الآراء الشرعية لدى العلماء عن حقائق بالغة الأهمية، فهي من جهة تؤكّد الرؤية العقدية إزاء المجتمعات غير الوهابية، والتي ترى بأنها لا تحكم بما أنزل الله، ثم تفترق إستراتيجية التغيير بين إتجاهين في المحازبة الإقتلاعية الوهابية، فبينما يميل إتجاه إلى مقاطعة العملية السياسية كونها تضفي شرعية على فسادها، يميل إتجاه آخر إلى الإنخراط فيها بنيّة مبيّتة نحو تغييرها، وفي كل تبعث المحازبة الوهابية بنزعتها الإقتلاعية خوفاً مشروعاً من أن الديمقراطية تصبح مكافأة لها لاختطافها وترسيخ الإستبداد السعودي.

الصفحة السابقة