مفاعيل التحوّلات الإجتماعية والسياسية

التشابك داخل سور الدولة

عمر المالكي

بقي علماء نجد منذ إبرام التحالف التاريخي بين الشيخ محمد عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود سنة 1744، في حالة حذر دائم من خروج الأمراء عن المسار الذي رسمه التحالف. فكانوا يكثّفون من إتصالاتهم ونصائحهم لأمراء آل سعود كلما شعروا بأن زيغاً ما قد وقع بما يهدد سلطانهم الروحي في الدولة. وكانت الشعار دائماً أن (الملك والدين توأمان)، وأن دوام الملك مشروط بالتزام الأمراء بممليات الدعوة. ولذلك السبب، أرجع بعض العلماء القدامي سبب إنهيار الدولة السعودية الأولى والثانية إلى انحراف الدولة عن أهدافها الدينية، وتحويلها إلى مجرد دولة بلا دعوة.

على أية حال، لم تحسم (نصائح) العلماء الأمر بصورة قاطعة، في ظل تطلعات سياسية غير منضبطة لدى الأمراء الذين ما إن يترسّخ سلطانهم حتى يعيشوا أوضاع الأمراء الزمنيين، الذين يقعوا تحت تأثير النزوات الخاصة والنوازع المادية والشخصية. وفي مرحلة لاحقة، وخصوصاً مع نهايات الدولة السعودية الثانية، لحظ علماء الوهابية بأن شيئاً ما بدأ يطرأ على مسار الدولة، وأن لا سبيل إلى إيقافه، بما يعكس قنوطاً لدى العلماء من إمكانية إعادة ترميم العلاقة المتصدّعة بين العلماء والأمراء. نلحظ ذلك بوضوح في رسالة بعث بها الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن (1225 ـ 1292) إلى حمد بن عبد العزيز جاء فيها (ولا يخفاك أيها الأخ: حال أهل الزمان، وغربة الإسلام، وندرة الإيمان بينهم، وقد ابتلوا بما رأيت من الفتن والمحن..ونسي العلم والتوحيد، وأقفرت الديار من الناصح الرشيد، وهدم الإسلام، وخلت الديار من ذوي العلم والإفهام..) وقال (ولولا أني أخشى على النفس من كثير من أهل نجد، لتجشمت القيام بذلك، ولوجدتني حول المياه وبين المسالك، وإلى الله المشتكى من عدم المعين والنصير، وغلبة الجهال والكثير)(1).

وفي رسالة أخرى للشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى شخص يدعى عبد الله بن عبد العزيز الدوسري جاء فيه (والحكمة ـ والله أعلم ـ شدة الحاجة وقت الفتن، وخوف الفتنة والتقلّب، وأكثر الناس من أهل نجد، وغيرهم، ليسوا على شيء في هذه الأزمان، والمؤمن من اشترى نفسه، ورغ فيما أعرض عنه الجهال والمترفون..)(2).

حتى نهاية الدولة السعودية، كان العلماء يواجهون أخطاراً من داخل البيت الحاكم، وإزاء تحوّلات في سلوك الأمراء بما يبعدهم، بما ينعكس على المجتمع، بناء على الرؤية الدينية القائلة بأن صلاح الرعية من صلاح الأمراء، وأن فسادها من فسادهم. ولذلك، تركّزت كثير من رسائل المناصحة إلى ما قبل سقوط الدولة السعودية الثانية على الحكّام بوصفهم أمناء على الدولة. ولكن مع انطلاق مشروع الدولة السعودية الثالثة، وجد علماء الدين في نجد أنفسهم أمام تحديّات شديدة التعقيد إرتطمت بصورة مباشرة بمصادر التوجيه الديني، التي كان يعتقد العلماء بأنها امتياز خاص بهم، وغير قابلة للإختراق من أي جهة أخرى داخلية أو خارجية. تبدي ردود فعل العلماء على دخول مناهج التعليم الحديث الى المملكة، أنهم تعرضوا لصدمة عنيفة، ذهلتهم عن اتخاذ تدابير احتياطية للتخفيف من آثار المناهج الحديثة وطواقم المعلّمين الذين وفدوا الى الديار من أجل تدريس العلوم العصرية التي يعتقد العلماء بأنها موجّهة للقضاء على علوم الدين التي بقيت مصونة وناشطة وسط المجتمع النجدي بفضل السلطة الروحية لدى العلماء.

وجاء في مقدمة الجزء السادس عشر من كتاب (الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية) الذي جمعه عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي (1312 ـ 1392)، أن (السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام، والكسر الذي لا ينجبر، والطامة الكبرى: استجلاب معلمين ملحدين، من البلدان المنحلة، لنشر الثقافة ـ يعني الغربية ـ ورفع الأمية)، وأن هؤلاء جاءوا (يحملون معهم برنامج التعليم، الذي يشتمل على فنون محظورة، من تصوير، وغيرها..ليجتثوا الإسلام من أصله..وقد أخذ عنهم أكثر الشباب مواد تعليمهم وتخلقوا بأخلاقهم، فياليتنا تلقيناهم بنحورنا نصرة لدين الله فمنعناهم، أو نلنا الشهادة..). وفي رسالة لرئيس مجلس القضاء الأعلى الأسبق الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد (1329 ـ 1402) إلى وزير المعارف ينتقد فيها الوزارة، ويقول بأنها (أصبحت الآن مصدراً كبيراً لبث الأخلاق السيئة، وتبلبل الأذهان، واضمحلال العقيدة السلفية التي غرسها أوائلكم الأفاضل، في هذه الجزيرة). وكتب سنة 1384 ـ 1963 مقالاً بعنوان (ويل للإسلام من أهله): (إن الإسلام بدأ يضعف في بلادنا، وتخف سطوته في القلوب، وتضعف عظمته في النفوس.. فقد علم الناس أن تغيّراً عقلياً، وانحرافاً غريباً طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدنية الجارف، فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بارتياح، وقبول وصفاء بال، وبادروا إلى إتقانه، والدعوة إليه، وذهلوا عن كل شيء سواه).

رسائل كثيرة صدرت عن العلماء تحذّر من خطورة انتشار التعليم الحديث، ويعكس إلى حد كبير الشعور المتعاظم لدى العلماء بأن مكانتهم الروحية باتت تواجه تحديات ليس على مستوى السلطة فحسب، بل وعلى مستوى المجتمع أيضاً. وكانت قضية تعليم البنات الذي كان قرار البدء به بالغ الصعوبة بالنسبة للعلماء، وشاركت في التشجيع عليه زوجة الملك فيصل، عفّت، ذات الأصول التركية، الأشد وقعاً على علماء الدين. وكانت تقوم رؤيتهم على أن تعليم البنات يمثّل بداية انكشاف المجتمع على الثقافة الحديثة، وسقوط آخر معاقل الحصانة الأخلاقية التي بقي العلماء يدافعون عنها لضمان بقاء تأثيرهم الروحي والإجتماعي. حملات الاستنفار الديني التي قادها العلماء للحيلولة دون تطبيق قرار فتح مدارس للبنات في المملكة، انتهت إلى عملية ترضية بين العلماء والعائلة المالكة بقيادة الملك فيصل بأن تخضع إدارة تعليم البنات تحت إشراف العلماء. بطبيعة الحال، أدرك العلماء في وقت مبكر بأن تلك الخطوة كانت مخاتلة إلى الحد الذي لم تنجح في قطع السبيل أمام حركة التعليم الحديث في المملكة على مستوى الذكور والإناث.

في مقالة كتبها الشيخ عبد الله السليمان بن حميد نشرت في مجلة (راية الإسلام) سنة 1380هـ شنّ فيها هجوماً على بدء تعليم البنات في المملكة واعتبره مقدّمة لاحتلال بلاد المسلمين، وشملت انتقاداته تعليم البنات الحساب والهندسة والجغرافيا، وقال (ما للنساء وهذه العلوم..إنها لمصيبة وخطر عظيم على مجتمعنا). وأضاف (إن تعليم المرأة على هذه الصفة، هو مصدرانحطاط الأمة، وسقوطها في الهاوية..)(3).

وبصورة عامة، نلحظ من سيرة بعض علماء الوهابية في زمن الملك عبد العزيز بوادر التحوّل الإجتماعي في مرحلة مبكرة من زمان نشأة الدولة، حيث كتم بعضهم غيظه لما شعر بأن مرحلة الفصام بين الدين والدولة قد بدأت، فقرر تفادي المصادمة معها رجاء إنابة الطبقة الحاكمة وتراجعها، وقد ينطوي ذلك الموقف على عجز عن القيام بدور ما يعيد ترميم التحالف الاستراتيجي بين أهل الدعوة وأهل الدولة. ينقل النجدي في سيرة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ (1256 ـ 1339هـ)، وكان من أكابر علماء نجد في زمانه، أن رجلاً كان يسير معه من المسجد إلى بيته في بعض الأيام، وتبعه رجل من الأخوان، فأدركه في أثناء الطريق، فقال يا شيخ عبد الله: هذا الكافر (فلبي) يدخل المسجد، أفلا نقتله؟ قال: لا يا ولدي، قال: أفلا نخرجه منه؟ ولم أحفظ ما قاله، فالتفت الشيخ إليه، فإذا هو قد ولّى مدبراً، فالتفت إليّ ودموعه على خديه، وقال بحزن: إيه سوف يعلمون.

ويصف الشيخ عبد الله بن حميد موقف العلماء من التحوّلات الاجتماعية التي جاءت بفعل برامج التحديث، وخصوصاً في مجال التعليم، (والكثير من العلماء أو الأكثر: يتأففون من الحالة الراهنة، ويظهرون التضجر والسخط، ويبدون التأثر والانفعال، ولكن هذا لا يكفي..) (4).

وهكذا، فقد شعر علماء الدين في نجد بأن نشأة الدولة السعودية تبطّنت تهديدات جديّة لمشروعهم الدعوي، حيث فتحت الدولة أبوابها أمام التعليم الحديث، والمنتجات العصرية، التي طالما حاربوها واعتبروها رجساً من عمل الشيطان، ومعاول هدم للدين، فكانوا يجهرون تارة بانتقاداهم، وأخرى يكتمون غيضهم، أو يسرّون به للثقاة من طلاّبهم.

وبالرغم من أن الملك عبد العزيز والملوك من بعده، بل مجمل الطبقات السياسية المتعاقبة على الدولة السعودية الحديثة التي نشأت سنة 1932، بأن تخفيضاً حتمياً لدور علماء الدين لا بد أن يتم كشرط لتحوّل الدولة السعودية إلى كيان مدني حديث، يستجيب لمتطلبات الدولة العصرية القائمة على اعتبارات في الغالب زمنية بل وعلمانية، فإنهم أيضاً أدركوا بأن التحوّل المفضي إلى قطيعة تامة مع العلماء ينطوي على مخاطر جدّية على الكيان نفسه، وذلك عائد إلى أسباب رئيسية أهمها:

الأول: القوة الراجحة للعلماء في المجتمع النجدي، حيث لا يمكن للعائلة المالكة أن تقدم على مجازفة غير محسوبة بالإصطدام بالعلماء الذين أمدّوا آل سعود بالقوة الشعبية اللازمة لإقامة الدولة، كما أسبغوا عليها مشروعية دينية في ظل غياب مصادر أخرى قادرة على توفير وصفة المشروعية لدولة ناشئة، بل وخصامية.

الثاني: أن العلماء مثّلوا دائماً تعويضاً إستراتيجياً لدولة تفتقر إلى عمق شعبي خارج إقليم نجد، وبالتالي فإن أية محاولة لإضعاف أو تحييد دور العلماء في نجد يعني تجريد الدولة السعودية من مصدر قوة رئيسية ومشرعنة، وإفساح المجال أمام نشوء حركات تمرد من داخل المجتمع النجدي المرشح للإنفراط بنحو ما، فضلاً عن الدولة نفسها المؤسسة على مدّعى ديني، وليس وطنياً.

الثالث: أن حصانة الدولة أمام التفكك مكفولة بوجود العلماء، لأنهم مصدر التأثير الروحي والإجتماعي في نجد، وليس آل سعود، الذين سينظر إليهم، شأن العوائل الحاكمة في نجد سابقاً باعتبارهم حكّاماً زمنيين، وبالتالي فإن نشوء أي حركة دينية قوية داخل نجد قد تحظى بتأييد العلماء إذا ما رفعت شعار الدين.

لهذه الأسباب، أدركت الطبقة الحاكمة السعودية بأن لا مناص من الرهان على الأيديولوجية الدينية كمصدر ضبط سياسي وأمني، يحفظ كيانية الدولة وتماسكها ويحبط مفاعيل المصادر الأخرى المنافسة أو المهدّدة. فمن وحي الرابطة الإيمانية، يتحرّك عالم الدين لحفظ الدولة باعتبارها مصدر حماية للعقيدة، والميدان الأرحب للتظهير الجماعي للإيمان، ومن جهة ثانية، فإن الرابطة الإيمانية في منظور رجل الحكم عنصر ضبط للرعيّة، وترسيخ لأركان السلطة السياسية.

حاولت الطبقة الحاكمة تكييف العقيدة السلفية مع مشروعها الدولتي، بما يحبط إمكانية التصادم أو على الأقل يؤجّلها برهة من الزمن، وكان الرهان دائماً منصباً على إمكانية تثمير التناقضات الإجتماعية لناحية الإمساك بزمام المبادرتين: الدينية والدولتية. ولذلك، فإن المؤسسات الدينية التي نشأت فور قيام الدولة السعودية 1932 يتم الدفاع عن وجودها وأدوارها بوصفها مكوّنات جوهرية في بنية الدولة نفسها، إذ لا يمكن تصوّر الدولة السعودية دونما مؤسسات دينية (هيئة كبار العلماء، ولجنة الإفتاء، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولجان الدعوة والإرشاد..الخ)، لكونها مندغمة في البنية التكوينية للدولة، ومصادر استقرارها واستمرارها. هكذا ينظر عالم الدين، والدعوي، والصحوي، ورجل الهيئة، الى الدولة، ولأجل ذلك يدافع عنها، لأنها جزء من وجوده وهويته. في المقابل، سعى آل سعود من جهة أولى لأن يتحوّل العلماء وأشياعهم إلى قوة حمائية دائمة ومتحفّزة، لدرء مخاطر داخلية وخارجية، أيديولوجية كانت أم سياسية أو عسكرية، ومن جهة ثانية، أن تؤّمن مشروع الدولة أثناء عبورها في مراحل التحديث، والتي يخشى من تداعياتها السياسية والأيديولوجية على الداخل بما يحدث أضراراً ما في الأساس الأيديولوجي للدولة.

ولكن المشكلة برزت مجدداً بين العلماء والأمراء حين بدأت الدولة تؤسس لنفسها مساراً مستقلاً عن مشروع الدعوة، فقد شكّل امتثال الدولة السعودية لاشتراطات الإنتقال من الدعوة إلى الدولة تمرّداً سلمياً على مضامين العلاقة التاريخية بين العلماء والأمراء، وباتت الدولة كما لو أنها في مواجهة مباشرة مع الشريك العقدي الذي أمّن مشروعية وجودها الديني، ولكنه لم يعد صالحاً، بعد اكتمال شروط الولادة، لأن يحتفظ بموقعه كشريك، فقد أصبح انفراط عقد الشراكة، بحسب رؤية العلماء، شرطاً حتمياً لانطلاق مسيرة الدولة. تنبىء بعض رسائل العلماء مناصحاتهم عن إشارات نقدية للسياسة الحكمية التي يتبّعها آل سعود. ونقرأ في رسالة للشيخ حمد بن عتيق (ت 1301هـ) عامة الى المسلمين جاء فيها (ومن الأمور المنكرة العظام: ما وقع فيه قادة أهل الإسلام، من الحيف والجور، وعدم القيام بالقسط بين القوي والضعيف، والعدو والصديق، والقريب والبعيد، وهذا عكس ما أمر الله به..)(5). وإذا ما نظر بتمعّن إلى لفظة (قادة أهل الإسلام) في ضوء اللغة التيولوجية السلفية، فإن الراجح في المقصود منها هو آل سعود دون غيرهم، وأن أهل الإسلام هم مجتمع نجد دون باقي الحكّام. يعزّز ذلك ما ورد في رسالة الشيخ محمد بن عبد اللطيف (1282 ـ 1367) الى عامة المسلمين قال فيها (..فإنا لا نعلم على وجه الأرض أحداً يجب السمع والطاعه له، ويجب الجهاد معه، أولى من هذا الإمام، الذي منّ الله به في آخر هذا الزمان، وهو الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل..) ثم يعقب ذلك بوصايا له بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(6). وبمقدار ما أضفت عبارات الإطراء والتمجيد مشروعية على حكم آل سعود، فإنها أيضاً ألزمتهم بالقيام بما توسّم العلماء فيهم الصلاح والنهوض بأمر الدين.

وبإزاء التحوّلات الإجتماعية التي طرأت بعد قيام الدولة السعودية بتأثير مباشر من برامج التحديث، شدّد العلماء على أهمية الأجهزة الدعوية والوعظية التي من شأنها ترسيخ دور العلماء إضافة إلى وظائف أخرى دينية وسياسية وأمنية يمكن لها أن تتحقق عن طريق هذه الأجهزة.

وقد ورد في مقدّمة الجزء الخامس عشر من كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) تم التشديد على مركزية الوظيفية الإحتسابية التي يقوم بها رجال (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في ضوء التحوّلات التي حدثت في المجتمع والتي من شأنها تهديد الكيان. وكتب النجدي ما نصه: (وبعد: فحيث حصل بسبب الإختلاط بأهل الخارج، المشابهة في بعض المحظورات، من أنظمة، وتعليم، وترك فرائض، ومشابهة في المكس، واللباس، وحلق اللحى، والتصوير، والتبرّج، والملاهي، والتنزّه، وغير ذلك مما حدث في هذا العصر، وهو ما بعد وفاة الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله، سنة 1339هـ)(7).). ثم يقول في مقطع آخر لاحق (وأسأله تعالى: أن يوفق علماء هذا العصر، الذين هم ما بين قاضٍ ومعلم وغيرهم، بأن يتساعدوا مع ولاة الأمر، على أن يخففوا وطأة هذه المنكرات، التي حدثت فيبنوا ما تهدّم مما أطّده سلفهم، إلى أن يعود الأمر الى نصابه)(8)، وهنا يشير إلى التصدّع في بنيان الكيان بفعل تحوّل إجتماعي/ ثقافي.

وينطلق من ذلك للتشديد على دور (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) باعتبارها ضمانة مؤكّدة إزاء خطر تبعثر الكيان، كما يومىء إلى ذلك في توصيف واقع الحال الذي يعيشه (ولقد وصلنا إلى حدٍّ ماتت فيه الغيرة الدينية عند كل أحد، حتى من يرجى ويظهن أنهم حماة الإسلام، وأبطال الدين، مما جعل العصة يمرحون في ميادين شهواتهم، ويفتخرون بعصيانهم، بدون حسيب ولا رقيب) ثم يقول (ولو شئت لقلت ـ ولا أخشى لائماً ـ نحن في زمن: علا فيه واعتزّ أرباب الرذائل، وأصبحت الدولة لهم)(9).

سلسلة رسائل مناصحة ودعوات انطلقت منذ نشأة الدولة السعودية ومازالت لناحية التأكيد على دور (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) في مجال الضبط الإجتماعي بمضمونه السياسي غير المغفول عنه. في رسالة لرئيس محاكم القصيم الأسبق الشيخ صالح بن أحمد الخريصي (1327 ـ 1415هـ) خاطب فيها (معشر العلماء، والرؤساء، والأمراء، ومن ولاه الله أمراً من أمور المسلمين..) يطالبهم فيها بقيام (بما أوجب الله عليكم، من الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد، والتعليم، والتحذير، والإنذار..). وكان يلفت الى ظواهر جديدة دخلت إلى المجتمع في ظل برامج التحديث، وقال متسائلاً: (أما هذا الأغاني تشاع، وتذاع في الإذاعات، والسينماءات، من غير نكير؟ أما هذا السفور في بعض النساء فقد ظهر وانتشر، ولم يؤمرن بالتحجّب والتستّر؟) ويمضي في أسئلته (أما تغارون؟ أما تستحون؟ وهو أعظم داعية إلى الخناء والفجور، أما هذه بناتكم يلبسن لباس الإفرنج، ويتزيين بزيهم، من غير مبالاة ولا مخافة؟!..أما هذا التتن (الدخان) الخبيث يشرب في كثير من الشوارع، من غير استتار ولا خفاء، ولا منكر ولا رادع؟ أما هذه المصوّرات المحرمة تصوّر جهاراً، لا يخشى مصورها ومتخذها عتاباً ولا إنكاراً؟ أما هذه اللحى تحلق علانية في وسط النهار..). ثم يرد على من يقولون: (لا قدرة لنا) بالقول (كلا والله إن لكم السلطة التامة، والقدرة النافذة، التي لم تكن لغيركم).

في رسالة كتبها الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الى ولي الاعهد ورئيس مجلس الوزراء، آنذاك، فيصل بن عبد العزيز (الملك لاحقاً)، جاء فيها (لا يخفى على سموكم الكريم، ما قد حصل في هذه الأوقات الأخيرة، من النقص الكبير في الدين، وعدم الاكتراث بأوامره ونواهيه، من كثير من المسؤولين في الدولة، على ما أعطاهم الله من النعم الوافر في الأبدان، وفي الأموال والجاه). بل صنّف الشيخ حميد كثير من المسؤولين في الدولة بأنهم (أصبحوا ضداً للدين وأهله، وصمدوا صموداً منكراً، أمام الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر)(10).

وفق هذا التصنيف، إعتبر الشيخ حميد توليتهم لمناصب في الدولة غير مبرىء للذمة، وإذا كان حال المسؤولين كذلك فكيف بالرعيّة. وهنا يصل إلى النقطة الحاسمة (فإذا كانت هذه أحوال البعض من الناس، ثم صار كثير من المسؤولين في الدولة مثلهم، متى تستقيم الأحوال؟ متى تتم الأمور؟ متى تقوم دعائم الدين؟ متى تتمكن أسس الملك؟ إن الدين والملك أخوان، فمن كان الضد الدين فهو ضد ملوك الإسلام وأهله، ومن كان ضد ولاة الأمور فهو ضد الدين، وإن تظاهر بالنصرة للإسلام). ويذكّر الشيخ حميد آل سعود قائلاً (فإنه لم يبق الآن من ملوك الإسلام، من يؤمّل فيهم النصرة للدين سوى هذه الأسرة الميمونة..)، ولذلك يوجّه الخطاب إليهم قائلاً: (يجب عليكم امتثال أوامر الدين، وإقامة الحدود الشرعية، والإتباع للسياسة الإسلامية، وتوقير العلماء، وإظهار المنزلة العالية لهم بين الناس، وإزالة المنكرات وقمع المفسدين، لأنكم متى عملتم بهذا، صار العلماء ورجال الدين، ألسنة لكم ودعاة على رؤوس المنابر في تأييدكم)(11).

ثم يقول (وعامة الناس يحترمون العلماء، وينظرون ماذا يقولون في كل وقت، خصوصاً في هذه البلاد، سوى أنه يوجد ثلة من المنحرفين، سفهاء الأحلام، طيّاشة العقول، يجنحون للحريات، ويميلون للفوضى، ويشعلون نار الفتنة، ويسمّمون أفكار النشء الصغير بنواديهم الخليعة، وتمثيلياتهم الماجنة، فهؤلاء هم الآن أقلية مستضعفون، إلا أنهم إن تركوا استفحل شرهم، وعظم خطرهم على الدين والسياسة.. فالواجب قمعهم، وإيقافهم على حدهم، والأخذ على أيديهم، في تطبيق الحدود الشرعية عليهم، وإلزامهم أوامرها، فإنهم متى كان لهم من الأمر شيء.. وإنه لمن واجب العلماء نحو أئمتهم، مناصحتهم، وإبداء ما يرونه مخلاً بالدين، وبيان ما يجب على الملوك فعله، وما يجب عليهم اجتنابه..). وكما في كل مرّة يتواجه فيه العلماء مع القوى الإجتماعية الأخرى التي تحاول كسر احتكارية التيار التقليدي، يذكّر العلماء آل سعود بما حققته العقيدة من منجز سياسي وضرورة كبح جماح التيارات الحديثة (فيجب عليكم الوقوف أمامها، ومنعها منعاً باتاً غيرة لله، وحماية لدينه، وإعلاءً لكلمة الحق، فإن هذا هو سبب نصرتكم على أعدائكم، وتمكينكم في الأرض، وبقاء عزّكم وملككم..)(12).

ويسجّل الشيخ حميد ملاحظات نقدية على السياسة السعودية منها: عدم مراقبة الصحف المحلية من الناحية الدينية، وعدم تعزيز دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونزع سلطة العلماء في الحقل الجنائي، (سلبوا سلطتهم، بكونهم لا يؤتمنون على التحقيقات مع المجرمين، ولا يتولون شيئاً من ذلك، ثم يسند هذا إلى الشرطة..)، تشويه المكانة المعنوية والروحية للعلماء من قبل العامة، وسكوت الحكومة عن ذلك. ويعيد الحميد التشديد على دور مؤسسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار (أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو قوام الدين، وأن قوام الملك والدولة هو التمسّك بالدين..).

ويلفت الحميد إلى أن ثمة ضغوطات تواجه العلماء من قبل أهل دعوتهم كونهم لم ينصحوا الحكّام وإطلاعهم على حقيقة ما يجري في المجتمع من تحوّلات قيمية (ويقولون لنا: أنتم المقصّرون، ولم تتكلموا مع الحكومة، ولم تبلغوها الواقع على حقيقته، وقد كثر علينا اللوم منهم مشافهة ومكاتبة، ونسبوا كل هذا التحلل إلينا، بل يقولون كل هذا التقصير إنما هو من العلماء..)(13).

وبقدر ما تعكس ضغوطات القاعدة الشعبية النجدية على العلماء لجهة تصحيح مسار الدولة، فإنها تلمح إلى الدور المركزي والخطير الذي يلعبه العلماء في المجال العام، الأمر الذي جعل الطبقات الحديثة تخوض معركة الهوية الجديدة التي كانت في طور التشكل في ظل تحوّلات ثقافية وإجتماعية واقتصادية متسارعة. وأدرك العلماء بأن مصادر القوة التي بحوزتهم بدأت تتآكل على وقع تبدّت دراماتيكية في بنى المجتمع والدولة، ما ضاعف من جهود العلماء لناحية تأكيد دور المؤسسات التقليدية كمصادر ضبط عقدي واجتماعي. وتعكس التجاذبات المتزايدة بين النخبة الدينية التقليدية والنخب الحديثة طبيعة الاستقطابات الإجتماعية والفكرية الناشئة في ظل دورة تحوّلات الدولة والمجتمع على السواء.

في رسالة كتبها الشيخ عبد الله بن حميد ونشرت في جريدة البلاد سنة 1962 بدأها بما نصه (فقد كثر الخوض في هذا الأيام حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر ذلك في بعض الصحف المحلية، وتجرأ بعض الكتاب وأكثروا من الكلام..)، فكانت رسالته رداً على المطالبين بتخفيض دور (الهيئة)، في محاولة منه لتأكيد مركزية هذا الجهاز، وقال بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (من آكد الأصول الإسلامية وأوجبها..)(14).

وقد تركت كثرة مراسلات العلماء لولي العهد آنذاك فيصل (الملك لاحقاً) أثرها المباشر، الذي لجأ مجدداً الى خيار (الترضية)، والموازنة بين استحقاقات التحديث الدولتي، ومتطلبات التحالف الاستراتيجي بين العلماء والأمراء. وكتب الملك فيصل رسالة في 7 محرم 1386هـ إلى وزير الإعلام ذكر فيها بما تقدّم به (بعض الغيورين على عقيدتهم وبلادهم، بملاحظات، حول ما يكتب في الصحف، ويذاع في الإذاعة، وأنه في حاجة إلى الإصلاح، طبق ما يساير نهضتنا الإسلامية، وأشاروا إلى وجود دور للسينماء، وأن الناس أقبلوا عليها، رغم أن ما يعرض فيها سموم قاتلة، وكثر من الكتب الداعية إلى الإباحية والإلحاد، بالمكتبات وقد أقبل الشباب عليها بصورة مرعبة). وأضاف (أن بعض المدرّسين يتكاسلون عن أداء الصلاة، والأسواق مليئة بالبائعين في أوقات الصلاة، وأشاروا إلى وجود تبرج في الأسواق، وأن ذلك دعوة جريئة، وتحريض على التأمر والتقليد..)(15).

بدأت موضوعات جدلية جديدة، نشأت في ظل برامج التحديث، تفرض نفسها على العلماء، الذين استنفروا جهودهم لمواجهة التحديث بكل أشكاله. وتكشف توصيفات العلماء للظواهر الجديدة في المجتمع عن إحساس متعاظم بالخطر القادم من الخارج. يتحدث البعض عن عادة التدخين ويكتب (وقد كثر استعماله في هذا العصر، حتى استعمله بعض صبيان المدارس تبعاً لمعلميهم من أهل الخارج..).

وينسحب ذلك الموقف المبالغ في الخطورة على قضايا أخرى. ففي مناظرة بين العلماء على خلفية رأي كتبه أبي تراب الظاهري في مجلة الرائد في عددها 67 بتاريخ 6/8/1381هـ قال فيه بإباحة الغناء والاستماع إلى عزف الآلات الموسيقية، وعقّب المقنع في جريدة عكاظ في عددها 55 بتاريخ 4 محرم 1381هـ بأن الكتاب والسنة لم يحرّما ذلك، فانبرى العلماء للرد على ذلك، وانتقدوا شيوع الراديو (الذي لم يبق بلد، ولا بيت، ولا قطر، إلا وصل إليه..)(16). وقد حكم الشيخ عبد الله بن حميد على التلفزيون بالحرمة وقال (أن جميع أنواع اللهو محظورة..)، وختم بقوله (ولا شك أن المؤيدين لهذه الآلة (التلفزيون) من هذا القبيل، قذف الشيطان بزبده في تلك القلوب المظلمة..)(17).

وكتب الشيخ عبد العزيز بن باز (1330ـ 1420)، المفتى السابق في المملكة، في مجلة (راية الإسلام) في ربيع الثاني 1381هـ منتقدا من يدعو لتزويد الإذاعة السعودية بالأغاني والمعزوفات الموسيقية وقال (انحطت أخلاق هؤلاء، ونزلت همتهم، حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين عموماً، والعرب خصوصاً، في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق، وسيء الأعمال). ثم توجّه بكلمة صارمة جاء فيها (بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع العلماء، وعن جميع المسلمين، الذين يغارون لله، ويغضبون إذا انتهكت محارمه، أتوجبه بذلك: إلى إمامنا وولي أمرنا جلال الملك سعود بن عبد العزيز وفقه الله. أول مسؤول، وأعظم مسؤول عن هذه الإذاعة، وما فيها من البرامج الهدّامة: أن يصونها، ويطرها من كل ما يضر المسلمين، وأن لا يولي على شؤونها إلا من يخاف الله ويتقيه، وذلك مما أوجب الله عليه..)(18).

وفي رسالة أشدّ صرامة وتقريعاً كتبها الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري (1336 ـ 1416) في كتابه (الشهب المرمية على من جوّز التحاكم الى القوانين الوضعية) طبع سنة 1374هـ، ونقل عنه قوله (وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله..فطوراً يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض، من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام..ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطرباً..)، كما انتقد (موسيقى الجيش وغيرها من الأصوات المطربة..)(19).

وشملت انتقادات العلماء تعليم البنات، والتصوير، وتبرّج النساء، وحلق اللحى، واللباس العصري، ولكن ما زاد في حفيظة العلماء، إقدام الحكومة السعودية على إدخال تشريعات حديثة الى النظام القضائي في البلاد، والذي فجّر أزمة بين العلماء والعائلة المالكة، حتى لا تكاد تخلو مصنّفات كبار العلماء من رسالة فقهية تنقض القوانين الوضعية وتنقد ضمنياً الحكومة لاعتمادها على أحكام غير مستمدة من الكتاب والسنة. فإلى جانب رسالة الشيخ التويجري المشار إليها إعلاه، وقد نأى بنفسه عن الإنخراط في المؤسسة الدينية الرسمية، ورفض تولي القضاء، وكان ينقد سياسات الدولة في مجالات التعليم والقوانين الوضعية، فقد وجّه رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ عبد الله بن حميد نقداً لتسرّب الأحكام الوضعية الى النظام التشريعي في المملكة، وقال (إن في ترك الناس على هذه الحالة، سبباً إلى ميول العامة إلى القوانين الوضعية، وأنها هي التي تضمن حقوقهم ؛ ولا شك أن هذه بلية عظمى، متى رأى الناس هذا الرأي، وإن لم يتفوهوا به)(20).. وقال في رسالة الى الملك سعود (يجب على الحكومة، وعلى جميع الشعب التحاكم إلى الشريعة الإسلامية..فإن كثيراً من المصالح الحكومية، إكتفت عن الشريعة بنظم سنتّها رؤساؤها، من وزراء وغيرهم، كنظام العمل والعمال، ونظام البلديات، ونظام التجارة، ونظام الشركات، ونظام المرور، ونظام الموظفين، إلى غير ذلك من النظم الكثيرة..فلم يبق التحاكم إلى الشرع، إلا لأفراد الشعب..)(21).

وفي رد فعل على إدخال بعض الأنظمة الحديثة في القضاء، والعمل والعمال، والتجارة، والعقود والاتفاقيات التجارية، انبرى علماء الوهابية لكتابة نقوض على قرارات الحكومة، واعتبروها باطلة لأنها من مصاديق التحاكم إلى الطاغوت والعودة الى حكم الجاهلية.

وقد نسج بعض طلبة العلم، المقرّبين من التيار الجهادي، على منوال رسالة الشيخ التويجري، ورصدوا تحت العنوان نفسه نقوضاً لفتاوى العلماء الذين يجيزون التحاكم الى المحاكم الوضعية، من منطلق قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، وأوردوا فيها أقوالاً للعلماء مثل الشيخ محمد بن إبراهيم، المفتي الأسبق للمملكة، استناداً على كتابه (تحكيم القوانين)، ورسائل أخرى صنّفها الشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد الرحمن التويجري وآخرين، إضافة إلى شروحات العقيدة التي وضعها بعض العلماء بمن فيهم المحسوبين على التيار الجهادي مثل الشيخ علي الخضير.

ودفعاً للتجابه بين العلماء والحكومة، تلجأ الأخيرة غالباً إلى خيار الترضية، وهي القاعدة التي مازالت سارية بالنسبة لكثير من وسائل التوجيه والإتصال الجماهيري سواء على مستوى التعليم، الإعلام، القضاء، المرأة، وحتى الشركات والبنوك، حيث يتم الجمع بين نزعة المحافظة لإرضاء التيار الديني السلفي والنزعة التحديثية لإرضاء التيار الليبرالي.

بطبيعة الحال، فإن الترضية هذه لم تكن بدون كلف سياسية وأمنية، وما الإنشقاقات الواقعة في المجتمع الديني السلفي إلا إحدى تعبيرات الإخفاق في خيار الترضية. فقد برزت طبقات جديدة فصلت نفسها عن الكتلة الدينية التقليدية لتبوح، بأشكال راديكالية في الغالب، برفضها لتحوّلات إجتماعية وفكرية وسياسية ذات نكهة حداثوية. ورفض الطبقات السلفية المتشدّدة لم ينحصر في السلطة السياسية، بل شمع المجتمع وطبقة العلماء التقليديين. حتى أن أحدهم أشكل على طالب عالم ينتمي للتيار الجهادي لمخالفته آراء العلماء فرد عليه بالقول (اذكر لي واحداً من العلماء الذين خالفتهم ـ من غير المعاصرين ـ ؟؟ وهل نترك كتاب الله لقول العلماء الذين (تقصدهم)؟؟)(22).

وهنا يعاد تعريف السلف الصالح، بإخراج العلماء المعاصرين من دائرة النفوذ الديني، أو السلطة الروحية والعلمية على الطبقات السلفية الجديدة. حيث يحدّد أحد طلبة العلم هوية السلفي بقوله (سلفي في هذا المسألة كتاب الله تعالى، وسيرة رسول الله، وأصحابه، وجميع العلماء من السلف إلى الشيخ سليمان بن سحمان)(23). والأخير من مواليد 1268هـ وتوفي سنة 1349، وقد صنّف عدداً من المؤلفات في الدعوة والتوحيد ونظم قصائد جمعت في ديوان بعنوان (عقود الجواهر المنضّدة الحسان)، بتحقيق أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهر وطبع سنة 1427هـ. وللشيخ بن سمحان رأي بارز في الموقف من الكفّار قال فيه (واجب على كل مسلم عداوة الكفّار، والمشركين، وبغضهم، وهجرهم، ومفارقتهم بالقلب واللسان والبدن..)(24).

وقد أفاد منظّرو التيار الجهادي في السعودية من فتاوى ابن سمحان في نقد كبار علماء المؤسسة الدينية الرسمية، واستعملوها في تبرير العمل المسلّح ضد خصومهم في الداخل والخارج.

ونلحظ في ضوء ما سبق، أن التحوّلات الإجتماعية والثقافية التي رافقت مسيرة تطوّر الدولة أنها أنتجت طبقات جديدة تناسلت بعضها من طبقات جديدة وجدت نفسها في مواجهة مع الطبقات الحديثة والدولة معاً بهدف تصويبهما، وحين عجزت عن الاضطلاع بمهمة تصحيح المسار، برزت طبقات جديدة من داخل المجتمع السلفي كرد فعل على فشل الطبقة الدينية التقليدية، وعلى المجتمع والدولة معاً.


مصادر

(1) الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي، بيروت، الطبعة الثانية 2004، الجزء الرابع عشر، ص 214

(2) المصدر السابق، ص 219

(3) الدرر السنيّة، الجزء السادس عشر، ص 80

(4) الدرر السنيّة، الجزء 16، ص 102

(5) المصدر السابق، الجزء الرابع عشر ص 230

(6) المصدر السابق ج14، 299 ص 301

(7) المصدر السابق، ج15، ص 5

(8) المصدر السابق ص 6

(9) المصدر السابق ص 12

(10) الدرر السنيّة في الأجوبة النجديّة، الجزء الخامس عشر، ص 27

(11) المصدر السابق، ص 29 ـ 30

(12) المصدر السابق ص 30، 31

(13) المصدر السابق ص 33

(14) المصدر السابق، ص 34

 (15) الدرر السنيّة، ج15، ص ص56 ـ57

(16) الدرر السنيّة، ج15، ص 112

(17) المصدر السابق ص 236

(18) الدرر السنيّة ج15 ص 120، 127

(19) المصدر السابق ص 130 ـ 131

(20) الدرر السنيّة، مج16، ص 195

(21) الدرر السنية، ج15، ص ص 432 ـ 433

(22) أنظر: الشهب المرمية على من جوّز التحاكم إلى القوانين الوضعية، إعداد: بعض طلبة العلم، موقع الكاشف على شبكة الانترنت، ص 31

(23) المصدر السابق، ص 32

(24) الدرر السنيّة، ج15، ص 481

الصفحة السابقة