بدأت اليمامة 2.. والفساد يتواصل!

هيثم الخياط

لا يبدو أن حملة الانتقادات الواسعة التي رافقت (صفقة القرن) العشرين المعروفة بإسم (اليمامة) التي تم إبرامها بين السعودية وبريطانيا العام 1985 قد أثّرت على وتيرة تنفيذ المراحل المقررة للصفقة. فبالرغم من الصدمة التي أحدثتها وثائق دامغة عن حجم الرشى الهائلة التي حصل عليها أمراء سعوديون وأجانب من وراء الصفقة، وأخطرها حصول رئيس مجلس الأمن الوطني الأمير بندر بن سلطان، السفير السابق في واشنطن، على ملياري دولار ما أثار جدلاً واسعاً في الإعلام البريطاني حول حجم الفساد المالي الذي رافق الصفقة منذ بدايتها، والتي أصابت صدقّية القضاء والقيم الديمقراطية في بريطانيا في الصميم، خصوصاً بعد أن قرر رئيس الحكومة البريطاني السابق توني بلير إيقاف عمل مكتب التحقيقات في الغش التجاري تحت عنوان (المصلحة الوطنية).. نقول بالرغم من ذلك كله، فإن اليمامة ماضية في طريقها.

وفيما يناضل القضاء البريطاني من أجل الدفاع عن صدقيته ونزاهته واستقلاله في وجه المخالفات المالية الفاحشة، حيث مازال الملّف مفتوحاً في ظل صمت متعمّد من مسؤولين في وزارة الدفاع البريطانية ومدراء في شركة (بريتيش أيروسبيس وبي أيه إي سيستمز)، فإن الأمير بندر بن سلطان الذي اختار لويس فريه، مدير الأف بي آي الأميركية، محامياً للدفاع عنه أمام المحاكم البريطانية، فإن صفقة القرن الجديدة بعنوان (سلام) بين السعودية وبريطانيا تسير دونما ضجيج إعلامي، ريثما تتكشّف، ربما بعد سنوات طويلة، وثائق عن الفساد المالي، والوجوه الجديدة (الوسطاء) الذين سيتولون مهمة نقل الأموال إلى حساباتهم البنكية، أو إلى حسابات سريّة في بنوك سويسرية وأوروبية أخرى، قبل أن تصل في نهاية المطاف الى حسابات المستفيدين الرئيسيين والمباشرين.

وكانت وكالة رويترز قد ذكرت في 18 يونيو الماضي بأن السعودية تكثف جهودها للحصول على طائرات مقاتلة متطورة لتجديد أسطولها القتالي (وسط مخاوف أمنية متزايدة في منطقة الخليج بشأن ايران). وإذا كانت الوكالة قد اجتهدت في تبرير إبرام الصفقة السعودية، ووضعتها في سياق التوترات الأمنية الراهنية في المنطقة، فإن حقيقة الأمر غير ذلك، وأن الصفقة لم تكن خاضعة لظروف سياسية وأمنية في المنطقة، خصوصاً وأن ترتيبات صفقة (سلام) بين الرياض ولندن قد بدأت منذ سنتين على الأٌقل. نشير هنا إلى أن الصفقة الجديدة تتألف من شراء 72 طائرة مقاتلة من طراز يوروفايتر تايفون بقيمة 4.4 مليار جنيه إسترليني (نحو 8 مليار دولار). وكانت صحيفة (الجارديان) قد ذكرت في 21 يونيو من العام الماضي (2008) بأن قيمة الصفقة قد تصل إلى 20 مليار جنيه إسترليني (نحو 33 مليار دولار) على مدى سنوات عدة.

مهما يكن، فإن تنفيذ المرحلة الأولى من صفقة (سلام) يبدو أنها دخلت حيز التنفيذ، والتي تبدأ باستقبال سرب من طائرات يوروفايترز تايفون، على أن تعقب ذلك أسراب أخرى إضافة الى خدمات تقنية وأرضية ومعدّات لوجستية. ونقلت رويترز عن مصادر دبلوماسية أن من المتوقع أن تقسّم السعودية عملية الشراء الى دفعتين تضم كل واحدة 36 طائرة، وهناك احتمال ان يصل العدد الاجمالي الى اكثر من مئة طائرة في الوقت الذي تواصل فيه المملكة تجديد إسطولها البالغ 276 طائرة مقاتلة.

وكما في حالات سابقة، فقد إمتنعت شركتا بي أيه اي سيستمز البريطانية التي تنسق إنتاج طائرات يوروفايتر تايفون التي بيعت للسعودية في الاونة الاخيرة وبوينج المصنعة لطائرات إف-15 عن التعليق. كما رفض اتحاد شركات يوروفايتر الذي يضم أيضاً المجموعة الفضائية الاوروبية اي أيه دي اس وفينميكانيكا الايطالية التعليق. وتلفت رويترز إلى أن بريطانيا باعت في العام 2006 للسعودية 72 طائرة تايفون وبدأ للتو تسليم الدفعة الاولى منها. وتمضي الوكالة للقول بأن الطائرات الجديدة ستحل جزئياً محل إسطول السعودية من طائرات تورنيدو وهي انتاج إنجليزي الماني ايطالي مشترك، لكن محللين عسكريين توقعوا منذ فترة طويلة ان تعود المملكة الى السوق لتحديث بقية طائراتها التورنيدو ومقاتلات اف 5 الامريكية الصنع.

قرار البدء بتنفيذ الصفقة جاء في وقت كان فيه المعرض الجوي الذي أقيم في باريس يسعى الى استدراج عروض بيع بقيم تنافسية، بفعل الطلب المتزايد من الشرق الأوسط للحصول على مقاتلات، نتيجة أجواء أمنية مشحونة والتوترات المتزايدة بفعل الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج والتهديدات الإسرائيلية للبنان وسوريا. وكانت الحكومة السعودية قد كثّفت من وتيرة مفاوضاتها بصورة رسمية مع الحكومة البريطانية خلال فترة المعرض الجوي في باريس لتحسين شروطها التفاوضية، وتخفيض الأسعار، وتأمين طرق آمنة للعمولات المقررة في الصفقة.

الجدير بالذكر أيضاً أن أكبر مسؤول عن مبيعات الأسلحة بوزارة الدفاع الامريكية (البنتاجون) قد زار باريس في نفس وقت زيارة ممثلين عسكريين سعوديين وعقد اكثر من 40 اجتماعا مع وفود اجنبية، في ظل حمى طلبات الشراء على الطائرات المدنية والعسكرية، والتي بدأت بصفقة ضخمة عقدتها الحكومة القطرية مع شركة أيرباص الأوروبية، فيما جرت أحاديث خلف الكواليس عن صفقات شراء لطائرات عسكرية.

وذكرت (رويترز) بأن مجموعة بي أيه اي رفضت التعليق على تقرير في صحيفة (ديلي ميل) البريطانية بأن السعودية تبحث شراء المزيد من طائرات تايفون. وقال ظفر خان وهو محلل دفاعي في سوسيتيه جنرال (بالنسبة لبي أيه اي فإن الأجواء ستكون جيدة للغاية..الناس يشعرون بقلق بعض الشىء من ان يكون الإنفاق الدفاعي في العالم بلغ ذروته لذا فإن أي طلبات جديدة ستساعد في تهدئة هذا القلق). وأضاف (ستود حكومة المملكة المتحدة أن تبيع المزيد من مقاتلات يوروفايتر لأنهم يريدون أخذ شحنة اصغر لأنفسهم. وبالنسبة للمملكة العربية السعودية ومع وصول سعر برميل البترول الى 70 دولاراً فان عائداتهم المالية جيدة في حين ان لديها بضعة اسراب من طائرات تورنيدو عمرها حوالي 25 عاما وتحتاج الى التغيير).

اللافت أن صفقات الشراء العملاقة للطائرات المقاتلة من بريطانيا والولايات المتحدة التي ازدادت وتيرتها خلال العقدين الأخيرين لم يجر استعمالها في أي من حروب حقيقية أو وهمية، باستثناء فترة حرب الخليج الثانية العام 1991، والتي وضعت الطائرات الحربية السعودية في خدمة القوات الأميركية التي قدمت الى البلاد للدفاع عن النظام السعودي إزاء التهديدات المحتملة لنظام صدام حسين بعد احتلال قواته للكويت في الثاني من أغسطس 1990.

وهناك انتقادات متزايدة داخل المملكة إزاء الأهداف غير العسكرية للصفقات الفلكية التي تعقدها الحكومة السعودية مع دول أوروبية والولايات المتحدة لشراء طائرات حربية، فيما يستبعد كثير من الخبراء العسكريين إمكانية أن تخوض السعودية حروباً بصورة مستقلة، فضلاً عن الشكوك التي تحوم حول التهديدات الجديّة التي تواجه السعودية بما يستدعي استعمال السلاح الجوي.

وإذا كان الناس العاديون ينظرون إلى أن الطائرات الحربية ستصاب بالعطب أو يكسوها الصدأ بسبب عدم الصيانة والقدم، فإن تلك النظرة تكتسب جديّة لدى قطاع واسع من سكّان هذا البلد، بل يعتبرون الصفقات العسكرية التزامات سياسية واقتصادية مفروضة على السعودية لقاء معاهدات الحماية والدفاع الإستراتيجي بين الغرب والحكم السعودي.

الصفحة السابقة