الجدل المؤجّل

العلم الشرعي.. ومتطلبات التنمية

محمد قستي

أثارت تصريحات مدير جامعة جازان محمد بن علي آل هيازع حول عدم حاجة سوق العمل السعودية إلى خريجي كليات الشريعة وأصول الدين جدلاً واسعاً في الوسط السلفي. وكان آل هيازع قد صرّح لصحيفة (عكاظ) في 28 يونيو الماضي بأن عدم فتح كلية للشريعة وأصول الدين في جامعة جازان التي أنشئت سنة 2006 يعود إلى (عدم وجود حاجة في سوق العمل لخريجي الشريعة وأصول الدين) وأضاف (لا نريد أن نضيف بطالة جديدة والسوق متشبع بمثل هذه التخصصات).

وبعد يوم واحد من تصريحات آل هيازع، أطلق مدير جامعة القصيم خالد الحمودي تصريحات مماثلة نقلتها صحيفة (عكاظ) يوم 29 يونيو الماضي، وقال الحمودي بأن الجامعة أوقفت القبول في كلية أصول الدين، وأقسام التاريخ، الجغرافيا، وعلم النفس لاكتفاء سوق العمل من الخريجين في هذه التخصصات. وأوضح الحمودي أن الجامعة تجري مراجعة للخطة الدراسية في كلية الشريعة بهدف مواكبة مخرجاتها لسوق العمل وليحصل الخريجون على وظائف مناسبة. وأضاف أن الجامعة تركز في مراجعة خططها على مزج الدراسة النظرية مع الخبرة العلمية، وإضافة مناهج الأنظمة القضائية الجديدة ضمن تخصصات الكلية، وتدريب الطلاب عملياً في القطاعات التي سيعملون فيها مستقبلا.

أعتبرت التصريحات مثيرة، وقد تدفع التيار الديني السلفي الى الرد بطريقته، وربما يواجه ال هيازع انتقادات واسعة من قبل أقطاب كبار في المؤسسة الدينية. ولابد من الإشارة هنا إلى أنه بجانب الجامعات الإسلامية المتخصصة فحسب في العلوم الشرعية، مثل الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة الإمام بن سعود الإسلامية بالرياض، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، فإن هناك عشرات الكليات الدينية التابعة للجامعات الأخرى الحديثة مثل جامعة الملك سعود بالرياض، وجامعة الملك فيصل، وجامعة الملك عبد العزيز بجدة، وجامعة الملك فهد بالظهران، إلى جانب عدد كبير من المعاهد الدينية في مختلف أرجاء المملكة. وتخرّج في هذه الجامعات والكليات عشرات الآلاف من رجال الدين، الذين يعملون في مجالات ذات طبيعة دينية مثل إمامة المساجد، والتعليم، والدعوة والإرشاد، والقضاء، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويشكّل العنصر النجدي في مجال التعليم الديني النسبة الأعلى، حيث يصل الى 90 بالمئة من إجمالي الطلاب في الجامعات الدينية السعودية، وهي نفس النسبة التي يمثل فيها العنصر النجدي في سلك القضاء أيضاً.

وبالرغم من أن تصريحات آل هيازع لا تعدو كونها مجرد تقييم شخصي، أو بمثابة خلاصة مناقشة مع مسؤولين آخرين، إلا أن بعض المراقبين نظر إلى تلك التصريحات على أساس أنها تعبّر عن السياسة الجديدة التي ينتهجها الملك عبد الله في مجال تطوير التعليم المدني، وتخفيف الجرعة الدينية فيه، دع عنك إزالة الجوانب المتعلّقة بتكفير المجتمعات المسلمة وغير المسلمة. ويضع مراقبون تصريحات آل هيازع في سياق قرار الملك عبد الله بعزل إثنين من رجال الدين المتشدّدين من منصبين كبيرين في فبراير الماضي، مثل الشيخ صالح اللحيدان، الذي تم إعفائه من رئاسة السلطة القضائية، وتعيين رئيس مجلس الشورى السابق الشيخ صالح بن حميد بدلاً منه، وكذلك إعفاء رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الشيخ ابراهيم عبد الله الغيث وتعيين بدلاً عنه الشيخ عبد العزيز الحمين. وبالرغم من كون التعيينات هذه لم تخرج من إطار المؤسسة الدينية، فإن الرأي القائل بأن مثل تلك المناقلات ستحد من نفوذ المؤسسة الدينية يبدو غير دقيق، في المطلق، لأن في العائلة المالكة أمراء كفلت إحداث توازن مقابل أية إجراءات تحديثية يقوم بها الملك، وليس مستبعداً أن نسمع أنباءً عن افتتاح جامعة دينية بإسم الأمير نايف أو شقيقه الأمير سلمان كترضية للتيار السلفي، فقد تقاسمت العائلة المالكة الأدوار للتعامل الدقيق مع متطلبات اللحظة المعاشة.

فما ذكره الخبير الاقتصادي في البنك السعودي البريطاني (ساب) بالرياض جون سفاكياناكيس من أن الحكومة أنفقت أكثر من 120 مليار دولار على التعليم منذ عام 2005، لا ينظر فيه إلى حجم النفقات في مجال التعليم الديني. وقد فاجأتنا جامعة الإمام محمد بن سعود قبل شهرين إعلانها عن تطوير موقعها على الشبكة بكلفة 200 مليون ريال، عدا الميزانية السنوية التي تتجاوز مليار ونصف المليار ريال.

أي منهج يربيهم، واي مستقبل ينتظرهم؟!

نقل عن مدير السجون بالرياض أن 66 بالمئة من قضايا السجناء لم يبتّ فيها بسبب نقص عدد القضاة، وهم في الغالب من خريجي الكليات الدينية وينتمون إلى لون مذهبي ومناطقي واحد، أي من نجد، ما يثير أسئلة ليس عن نقص عدد القضاة، وإنما عن كفاءة ونزاهة النظام القضائي أيضاً.

لابد من لفت الإنتباه إلى الدراسات التقييمية والنقدية للتعليم في السعودية بشقيه الحديث والتقليدي، وخصوصاً بعد أن ظهرت آثار ذلك التعليم على الناشئة والشباب الذين شاركوا في هجمات الحادي عشر من سبتمبر ودورات العنف في الداخل والخارج، فيما عكف باحثون كثر على إخضاع مخرجات التعليم الديني على محك التنمية الشاملة. وقد توصّل بعضهم إلى أن التعليم السعودي بحاجة إلى إصلاح جذري كيما يكون منسجماً مع متطلبات التنمية.

ويعدّ كتاب (إصلاح التعليم في السعودية) الذي أعدّه مدير جامعة اليمامة الدكتور أحمد العيسى أول مقاربة نقدّية جادة لموضوعة التعليم في السعودية، حيث شدّد فيه على ضرورة الإنتقال إلى الإصلاح الحقيقي بدلاً من الزيادة الكمية في عدد الدارسين، يضع حداً للعلاقة القهرية بين التعليم والأيديولوجيا.ويرى العيسى بأن النظام التعليمي في السعودية (وفّر بيئة مساندة للتطرف) وأنه (المتهّم الرئيس في إنتاج ظاهر التطرف والعنف الذي يرتكب بإسم الحهاد). ولم يفت العيسى تذكير منتقديه بأن إطروحة الإصلاح التعليمي فكرة خارجية وربما صليبية واستعمارية، ونبّه إلى أن ما قدّمه هو عبارة عن قراءة نقدية لأسباب إخفاق النظام التعليمي في المملكة، ويرجع عدم إصلاحه الى: غياب الرؤية السياسية، وتوجس الثقافة الدينية، وعجز الإدارة التربوية.

وأفرد العيسي جانباً من قراءته النقدية لما أسماه بـ (طغيان تدريس المقررات الشرعية) والذي يعتمد على الحفظ والتلقين والتكرار، والإغراق في موضوعات العقيدة والفروض والتشريع والحلال والحرام بشكل قاطع، ويتابع العيسى مآلات هذه المقررات، حيث يرى بأن التعليم الديني المتخصص لا يوفر للطالب فرص تغيير مساره المهني والوظيفي في المستقبل، وذلك، حسب وجهة نظره، لأن المعاهد ودور التحفيظ تقودهم إلى الكليات الشرعية والنظرية ولا تمنحهم فرصاً واسعة في الكليات العلمية الطبيعة والهندسية وكليات الحاسب الآلي والإدارة بسبب ضعف تأهيلهم في العلوم الطبيعية واللغات والرياضيات. ويخلص من ذلك إلى نتيجة عملية بأن الأعداد الكبيرة من المتخرجين في التخصصات الشرعية لا يجدون أمامهم سوى مجالات محدودة من بينها التعليم، مصدر الأزمة نفسه.

وكان آخر ما ورد في هذا المجال من تقييمات، مقالة من ثلاثة أجزاء نشرتها صحيفة (عكاظ) للكاتب عبد الله يحيى بخاري بدأها في 16 يونيو بعنوان (قضية التعليم بمنظور عصري) تناول فيها أزمة التعليم في الدولة النامية بما فيها السعودية، وقال في ضوء تجربته في مجال التعليم الجامعي (أن الإصلاح الجزئي (بالتفاريق) في نظام التعليم لا ولن يجدي، إنما المطلوب تغيير جذري. مانحتاج إليه هو حملة على النظام المدرسي الحالي، حتى يمكننا إحلال نمط تعليمي جديد مناسب لهذا العصر..). وخلص الى أن نظام التعليم يحتاج الى ما وصفه (إعادة تصميم شاملة).

من وجهة نظر سلفية محض، فإن أي دعوة لإصلاح النظام التعليمي، أو إعادة توجيه للتعليم الديني بما يتناسب مع متطلبات التنمية يعتبر مؤامرة خارجية، وتلبية لشروط غربية وأميركية، والحال أن الدراسات الميدانية تثبت جدوى إعادة تقييم لتضخّم دور العلوم الشرعية والتي تستهلك من الموارد البشرية والمالية قدراً كبيراً بما يؤثر على أوضاع سوق العمل بصورة عامة، والحاجات الفعلية للسوق المحلية، ولا شأن لذلك كله بالنشاط الوعظي الذي قد تقوم به مؤسسات أهلية.

لحد الآن لا تبدو ردود الفعل على تصريحات ال هيازع قد أخذت مفعولها المتوقّع في الوسط السلفي، ولعل هناك من أرجأ ذلك بانتظار ردود فعل العائلة المالكة نفسها، وقد تكون وصلت تطمينات من أمراء آخرين مثل نايف وسلمان بأنهم سيقومون بخطوات مقابلة، خصوصاً وأن ال هيازع مصنّف على (جماعة الملك)، ولا يود أقطاب الجناح السديري أن يقتحموا مجالاً يتطلب مواقف سلبية قد ينظر إليها الملك عبد الله بأنه المقصود منها.

ولكن ما كتبه أشرف إحسان فقيه في صحيفة (الوطن) في 30 يونيو الماضي بعنوان (عن خريجي الشريعة وأصول الدين) يبدو كأنه محاولة لتحريك جدل فاتر، رغم أنه بدا استفزازياً في مقدمة مقالته حين أكد على أن (تصريحات معالي مدير جامعة جازان الأخيرة ستثير ضجة عظيمة وجدلاً واسعاً). صحيح أن تلك التصريحات وصلت أصداؤها الى الإعلام الغربي الذي ينظر إلى مثل تلك التصريحات بأنها كسر لـ (تابو)، أو خروج عن (إجماع)، ولكن لا يبدو أن المياه قد تحرّكت من تحت الجسر باندفاع لافت.

ما هو نمطي في ردود الفعل على مثل هذه التصريحات، شأن كل الانتقادات التي صوّبت باتجاه التعليم الديني منذ سنوات، أنها تلتقي عند نقطة (المؤامرة)، ولذلك حين يدرس فقيه توقعات ردود فعل الشارع المحلي على كلام ال هيازع يراه نمطياً (أنه سيقلّبه ويفكّكه ويعيد تركيبه ليصل لجوهر "المؤامرة" المخبأ في داخله!) ويرجع ذلك إلى أن (الناس عندنا تتعاطف وتتحمس مع كل ما يحمل وصف "شرعي" على نحو تلقائي وساذج أحياناً – لنتذكر قنوات الرقية الشرعية!!-.. كما أن هناك جهات تيارية معتبرة سوف لن تفوت الفرصة لتذكرنا بمعركة صراعها مع تيارات الضدّ.. أياً كانت).

بيد أن فقيه أجرى انعطافة حادة ليعيد تركيب تصريحات آل هيازع، ويضعها هي الأخرى على محك النقد باثارته سؤال عن العلاقة الجدلية بين مخرجات الكلية الشرعية ومعايير سوق العمل. فهو لا يرى بأن غاية طالب الشريعة البحث عن وظيفة يسدّ بها رمقه ويتحصل من ورائها على راتب شهري، حسب قوله.

ويزيد فقيه في تعضيد وجهة نظره من خلال فتح أفق النظر الكلي الى (العلم الشرعي) ودور رجل الدين في المجتمع، ويقارن هذا الدور بدور (المفكر والفيلسوف والمجدد الإجتماعي في الغرب). ولم يفهم من تلك المقارنة سوى أن فقيه قد افترض سلفاً بأن المفكرين هؤلاء يتخرجون من كليات الشريعة، ولم يتنبّه إلى أن هؤلاء تخرجوا من جامعات حديثة ومن أقسام العلوم الإنسانية والإجتماعية وحتى الفلسفة، المرتبطة بالعملية التنموية.

ولكن فقيه يقدّم مقاربة مختلفة ينقد من خلالها واقع العلم الشرعي، وقال (لكننا في هذا الزمان بالذات نجد أن العالم الشرعي هو دون المطلوب تأهيلاً ودراية). وبمزيد من الإيضاح يصف فقيه العالم الشرعي في المملكة بأنه (أسير رأي السلف وغير قادر على مواجهة الأسئلة الحديثة الكبرى ولا طرح مشاريع فكرية وتنظيرية تليق بتحديات العقل المسلم في هذا القرن الحادي والعشرين. خارج نطاق الفُتيا التقليدي والمحصور بضوابط مدرسة شرعية وحيدة، فإن عالِمنا الشرعي ليس يفرض إسمه على الساحة العامة، ولا الساحة العالمية، إذا ما جاء ذكر "الفكر" و"التنظير" كممارسات حضارية مطلوبة وملحّة).

وينتقل فقيه الى مجالات أخرى أخفق فيها العالم الشرعي في السعودية، حيث بات دون مستوى التأهيل في مجالات مثل الاقتصاد والطب وسواها من ضروب الحياة. ولذلك يقترح فقيه تعديلاً لمقترح ال هيازع بتطوير الأكاديميات الشرعية بحيث تكون مستوعبة للعلوم الحديثة (تكرس لخط جديد ونوعي في فهم الشريعة) حسب قوله، بدلاً من الانخراط في قطاعات التعليم والمساجد والقضاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (وهذه كلها قطاعات عليها ما عليها. وتطالعنا يومياً تصاريح مسؤوليها ووزرائها ذاتهم وهم يقرون بحاجة أجهزتهم للتطوير، وافتقارها للكفاءات المؤهلة، وشروعها في إطلاق عمليات إعادة هيكلة واستراتيجيات جديدة).

مهما تكن ردود الفعل، فإن مجرد فتح باب الجدل في قضية التعليم الشرعي في المملكة من قبل مسؤولين في القطاع التعليمي، فإن ذلك يعني أن حجراً كبيراً قد رمي في بركة النقاش المتواري، وبات مطلوباً أن يخوض الجميع جولات أخرى من الجدل في موضوع التعليم الديني وموضوعات أخرى مازالت محفوظة في مستودع التابوات.

الصفحة السابقة