الحملة الليبرالية على الشثري

صراع تيارات أم سباق التزّلف للسلطة

فريد أيهم

لم تؤخذ حملة الليبرالية السلطوية على موقف العضو المقال من هيئة كبار العلماء الشيخ سعد الشثري من مسألة الاختلاط في (جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنيّة) على أنها انتصار لرؤية ليبرالية محض، لغيابها في مواقف عديدة كانت فيها الليبرالية معنيّة للتعبير عن نفسها. فالهبّة الليبرالية الفجائية بعد استدراج الشيخ الشثري لإعادة إحياء موقف سلفي قديم من موضوع (الاختلاط)، ولم يكن ابتكاراً شثرياً، كانت مثار سؤال المراقبين.

نتفق تماماً مع الرأي الذي طرحه سعود كاتب، أستاذ الإعلام والتكنلوجيا في جامعة الملك عبد العزيز في جدة في صحيفة (ذي ناشيونال) الصادرة في أبو ظبي باللغة الانجليزية في 7 أكتوبر الجاري، بقوله (إن الليبراليين أصبحوا متطرفين مثلهم مثل المحافظين وما حدث هو نكسة للتنمية الاجتماعية في البلاد). ويوضّح ذلك (الليبراليون والمحافظون يستخدمون الأدوات نفسها في القضاء على المعارضة، واستفزاز السلطة السياسية لقمع حقوق الآخرين، كما كان يفعل المتطرفون الدينيون في الماضي، ليبراليون بلغة التطرف الديني!).

وقد بدأت المواجهة مع الشيخ الشثري بعد جوابه على سؤال قدّمه شخص متّصل من قطر الى برنامج (الجواب الكافي) الذي تبثّه قناة (المجد) الحسوبة على التيار السلفي السعودي في 8 شوال الماضي، واستنكر وجود الاختلاط في جامعة الملك عبد الله.

ما أثار ليبراليي السلطة ليس جواب الشثري فحسب، بل رد الفعل السلبي على ما قاله المتصّل القطري المدعو (أبا سالم)، بأن هذه الجامعة (يغلب عليها التوجّه العلماني)، وقوله أيضاً (نتمنى من العلماء يعني علماء ما شاء الله أكثر كلامهم عن المجاهدين وفي الصد عن المجاهدين والطعن فيهم ونتمنى أيضاً أن يقيموا الحجة على هذا ولي أمرها..). فلم يسمع المتصّل من مقدّم البرنامج غير كلمة (شكراً لك أباسالم).

ورغم أن الشيخ الشثري إمتدح الجامعة الجديدة، والأهداف التي أنشئت من أجلها، ولكنه أبدى تحفّظه على جوانب عديدة منها ما يرتبط بالعلوم التي سيتم تدريسها في الجامعة، وأخرى بالسلوك العام في الجامعة، وقال (قد يكون هناك أشياء خفية وتفاصيل غير موافق عليها من قبل ولي الأمر وتكون قد خفيت عليه ولذلك فإن الوصية في مثل هذا أن يكون هناك لجان شرعية في مثل هذه الجامعة لتفقد هذه العلوم والنظر فيها والنظر في ما خالف منها الشرع فيبعد، لأن ما خالف الشرع فإنه لا تكون صحيحاً ولا صواباً ونحن ننظر إلى عدد من العلوم أدخل فيها نظريات وآراء شاذة غريبة ودرست في هذه العلوم مثل نظرية التطور والنشأة وغيرها من النظريات ولذلك فإن الوصية إيجاد لجان شرعية للنظر في هذه الأقسام وهذه الدراسات للنظر في مدى موافقتها للشرع وعدم مخالفتها لأحكامه وبذلك تحصل فوائد عظيمة. من أول هذه الفوائد إرضاء رب العزة والجلال بجعل تدريس هذه العلوم غير مخالف للشرع وبعدم تمكين من لا يعرف أحكام الشرع من إدخال نظريات وآراء مخالفة للحق ومخالفة للصواب ومخالفة للشرع). أما في البعد الإخلاقي، فقال الشيخ الشثري (الإختلاط مفسدته عظيمة وشره كثير) وأنها (مدعاة لمساوئ متعددة، ويجر إلى السفور والذنوب ولا بد من أن تتبعه مصاحبة من الجنسين لغرض المصلحة الدراسية وحاجة كل منهما الى الآخر، وسوف ينتج من هذا الاختلاط ابتزاز وتصوير ومنكرات نحن ومجتمعنا في غنى عنها).

لم يمضِ يوم واحد على المقابلة، حتى استنفرت الأقلام المحسوبة على التوجّه الليبرالي لشن حملة إعلامية واسعة النطاق على الشيخ الشثري، وبدا من الردود التي نشرت في صحف محلية رئيسية وكأنها تفتح ملفاً واسعاً ينطوي على مكبوتات إزاء المرجعية السلفية المتشدّدة، فيما ظهر أن المعركة شكّلت أحد صور المواجهة بين تيارين داخل العائلة المالكة، تيار الملك عبد الله بفريق ليبرالي وتيار الأمير نايف بفريق سلفي متشدد.

وبدأت المعركة برد افتتاحي كتبه رئيس تحرير صحيفة (الوطن) جمال خاشقجي في 10 شوال، ثم انطلقت الحملة في اليوم التالي لتغمر الصحف المحلية، لتصل عدد الردود على الشيخ الشتري الى 18 مقالة، خمسة منها لرؤوساء تحرير صحف محلية رئيسية وهي (عكاظ)، (الرياض)، (الجزيرة)، (الاقتصادية)، (اليوم)، فيما استأثرت صحيفة (عكاظ) بنصف الردود.

حاول الشيخ الشثري احتواء الحملة الإعلامية التي شنّت عليه، ولكن ذيول المواجهة اتّسعت بوتيرة متسارعة، ما أفقده القدرة على السيطرة. وكتب الى (الوطن) توضيحاً بعنوان (مانسب لي غير دقيق وأدعم كاوست)، على أساس أن ما اعتمده رئيس تحرير الصحيفة خاشقجي لم يكن من مصدر موثوق، وأبدى الشثري تراجعاً عما قاله مشدّداً على (عظم دور هذه الجامعة وعظم الأهداف التي أنشئت الجامعة من أجلها..)، ولكن التراجع غمرته الردود المنفلتة من عقالها، بل لم تقبل (الوطن) منه تراجعه، وأعادت نشر الفقرات اللاهبة في كلامه الى قناة (المجد)، بالتركيز على ما قاله المتّصل القطري حول موقف العلماء من المجاهدين والطعن فيهم، وكذلك مسألة الاختلاط.

مطالعة في الردود

في أول رد فعل على كلام الشيخ الشثري، انبرى رئيس تحرير صحيفة (الوطن) جمال خاشقجي في 29 سبتمبر الماضي لكتابة مقال بعنوان (الشيخ الشثري وقناة المجد.. لِمَ التشويش ونحن في خير من ديننا ودنيانا؟)، اعتبر فيه كلام الشثري تشويشاً، ودافع فيه عن سياسة الملك (العالم بالمصلحة، والذي لا يقدم على أمر بدون استشارة العلماء..). وأشار خاشقجي الى ما يمكن أن تفيد منه الجماعات القاعدية من كلامه للنيل من المملكة، ما وصفه بأنه (إرجاف وتشويش). ولم تخلُ مقالة الخاشقجي من مداهنة ممجوجة، وإطراء مبالغ في غير محله.

في مقالة رئيس تحرير صحيفة (الرياض) تركي السديري بعنوان (لماذا نختلف عن المجموع الإسلامي) المنشور في 30 سبتمبر الماضي، ما يلفت الى معطيات جديدة منها: أن هيئة كبار العلماء لم تعد مرجعية نهائية ومطلقة فوق المسائلة، لأن صدور رأي عن أحد أعضائها قد يتسرب ويتكرر من قبل أعضاء آخرين. ولعله من المرات النادرة التي يفتتح مشهد واسع في الجدال الداخلي حول الدائرة الاسلامية الممتدة من حدود أندونيسيا الشرقية الى حدود المغرب الغربية، بعد أن كانت الدائرة تلك تتضاءل أمام سطوة المركز السلفي النجدي، بما يجعل السؤال الذي أثاره السديري جديراً: (لماذا ونحن سكانياً لا نمثل ?? من المجموع الإسلامي متمسكون بهذا الاختلاف عنهم، مع أن بينهم يوجد علماء كبار.. كبار جداً.. يعتبرون مرجعيات دينية مهمة، والمثل الأقرب، أزهر القاهرة.. هل يعني ذلك أن لدينا مذهبية خاصة تفصلنا عن كل العالم الإسلامي، أم أن عالم الأكثرية منحرف عن الخط الإسلامي؟..). سؤال مركزي بكل أبعاده، لأن من شأنه إعادة تشكيل الوعي الديني السلفي، الذي كان مشدوداً لأكثر من قرنين من الزمن الى وهم نزاهة الذات ودنس الآخر.

يلفت السديري أيضاً الى أن اعتلال التصويرات الدينية السلفية للآخر: المرأة، العلم، المسلم، وهي موضوعات طالما أحكم التصوير السلفي مواقفه المقفلة إزاءها، حتى باتت غير قابلة للجدل، مثل تصوير المرأة بأنها (فاقدة لقدرة المواجهة ضد مغريات أي انحراف)، ويخلص الى نتيجة (لدينا أكثرية واعية تمارس حياتها بشكلها الطبيعي، وأقلية تريد عزلنا بمذهبية خاصة؟..). ويفتح السديري أفق الجدل على نطاق واسع، مستحضراً الانتقادات الواسعة التي يتعرض لها المذهب السلفي في الاعلام العربي والعالمي ويقول (يغضبنا في إعلامنا أن تتكرر لدى الإعلام العربي والعالمي تهم وجود مذهبية خاصة بنا تعزلنا عن المسلمين قبل أن تعزلنا عن الديانات الأخرى..).

وكما يظهر بوضوح، فإن النقاط التي أثارها السديري لم تكن مقتصرة على موقف الشثري وحده، بل يلامس قضايا الوعي السلفي بصورة عامة، قد لا تسمح غير هذه المناسبة استعمالها مبرراً للإضاءة عليها، فلربما لا تتاح له فرصة أخرى للتعبير عنها بهذه الصراحة.

على خلاف ذلك، بدا محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ في مقالته (ما هكذا يا سعدُ تورد الإبل!) في صحيفة (الجزيرة) في 30 سبتمبر الماضي، كاتباً حكومياً بامتياز، مبتدئاً بمعيارية الانتماء للجهاز الحكومي، بوصفه ضابطاً للموقف والسلوك. فأقصى ما توصّل إليه آل الشيخ من ملاحظات على تصريح الشثري لقناة (المجد) أنه كسر تابو الوظيفة الرسمية، باعتبار أن (هيئة كبار العلماء) هي مجرد جهاز من أجهزة الدولة، وتخضع لأنظمة وقوانين محددة يفترض فيه الامتثال لها. وإذا ما خالف ضوابط المهنة فلا بد له أن يرحل ويترك الوظيفة، وليمارس الحرية على طريقته بعد أن أصبح يمثّل نفسه وليس الجهاز الذي ينتمي إليه.

ولم يكن الجانب الآخر من تقييم آل الشيخ لتصريح الشثري سوى تديين للملاحظة الأولى، حيث أعاد موضعة العلاقة بين العلماء والأمراء ضمن ضابطة (ولاية الأمر)، مذكّراً بالعقيدة السلفية القائمة على أساس طاعة ولي الأمر، بناء على الآية الكريمة (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، حيث طبّق مفهوم ولاية الأمر على (صاحب البيعة)، وقال بأن (طاعة ولي الأمر المأمور بها شرعاً تقتضي الامتثال لكل ما يكرس هذه الطاعة، ويجذرها، ويرسخها، من قول وعمل). وبصرف النظر عن الجدل الدائر حول مفهوم ولاية الأمر، حتى داخل الدائرة السلفية، وقد كتب عنها علماء سلفيون وآخرهم الشيخ ناصر العمر، على خلفية مناقشة جرت في مجلس الملك عبد الله ـ إبان ولايته للعهد ـ بحضور الشيخ عبد الله بن عبد المحسن التركي، الذي كان يرى مفهوم ولاية الأمر منصرفاً الى العلماء، وهم أجلى مصاديقه، ثم الأمراء تبعاً لهم، فإن آل الشيخ أراد تصفية حساب مع مشايخ الصحوة في التسعينيات الذين عبّروا في (مذكرة النصيحة) عن آرائهم الدينية في سياسات الدولة السعودية، ثم وجّه كلامه للشيخ الشثري مذكّراً ومحذّراً (ولا بد أنك لم تقرأ بعمق وتفحص ما اكتنف البلاد في تلك الحقبة التاريخية من أولئك الحركيين وتذرعهم (بالنصيحة) لتمرير أجندتهم السياسية؛ لتأتي اليوم - هداك الله - وتكرر نفس الأسلوب، وتترك لحركيي (قناة المجد) أن يستغلوك، ويستغلوا مكانتك وقيمتك، لهز الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد).

من منظور استعراضي، قدّم يوسف الكويليت في مقالة بعنوان (المرأة بين هاجس الشكّ..واليقين!!) في صحيفة (الرياض) في 30 سبتمبر الماضي، جرد حساب لمنجزات الحكومة في تعليم المرأة والارتقاء بها واشراكها في دورة التنمية الشاملة، منذ عهد الملك فيصل وحتى اليوم، بالرغم من معارضة المشايخ وبعض الفئات الإجتماعية المحافظة.

ومن منظور أنثوي بنكهة حقوقية ورمانسية، لجأت جهير المساعيد في مقالة بعنوان (نفخ سعد في نور كان به الكون سعيدا!!)، في صحيفة (عكاظ) في 30 سبتمبر الماضي، الى لهجة مطرّزة بمفردات ذات طبيعة حكمية كما يبدو واضحاً من هذه الفقره (حسبنا الصيحة الجاهلية ستأتي من الغوغائيين والمتمثلين برداءة الصحوة من الدعاة الصغار الزاحفين إلى المنابر بعلو أصواتهم وليس بعلو حججهم!! الفارغون من العلم وإن ادعوه والمتعطشون لتحقيق مآربهم في الشهرة والظهور ولو على حساب سماحة الدين ونقاء الشريعة!). صمدت المساعيد في قاعة المحكمة الدينية والاحتكام الى لغة دينية بقولها (منهجنا في الشرع الكريم إن جاءكم فاسق بنبأ.. فتبينوا! والذي حدث أن الشيخ سعد انجرف ولم يتبين!! وهذه الكارثة التي تحل على المسلمين أن يقودهم شيوخهم إلى الظلمات بدلا من النور!!..).

اما مقالة عبده خال (نظرة الشثري ونظرة الواقع) المنشورة في (عكاظ) في 30 سبتمبر الماضي، فقد اختار مسألة الإختلاط كيما تكون حجر الاساس في دورته النقدية، بدأها بالتشكيك في كفاءة الشيخ الشثري (كان انضمامه للهيئة محفزا لأن يكون ذا بصيرة نافذة في واقع الحال وليس مرتبطا بالنظرة الهامشية وتغليب الظن بالإمساك بحجة سد الذرائع..). وكرر خال الإنطباع السائد حول خضوع العلماء لمزاج العوام بقوله (فما قاله الشيخ عبر قناة المجد لا يعدو كونه رأي بعض الناس..)، دون أن يشير ولو بصورة عابرة الى موقف طائفة كبيرة من علماء المدرسة السلفية من مسألة الاختلاط. وكما هو الحال بالنسبة للمساعيد، فإن خال لجأ الى التاريخ الاسلامي من أجل تبرير (اختلاط) طلاّب جامعة الملك عبد الله..كان يفترض أن تكون المناقشات قد جرت منذ أمد بعيد حين صدرت الفتاوى الأولى حول حرمة الاختلاط وبنيت عليها سياسات الدولة وبرامج الفصل، والخلوة المحرّمة، والمحرم (الذكر) في السفر، ومسائل أخرى متداخلة مع موضوع (الإختلاط)، الذي لم يكن الشثري أول من قاربه.

ولم تحد مقالات الحملة الإعلامية الملبرلة على الشيخ الشثري في نهاية سبتمبر الماضي عن أحد هدفين: نقد التشدد الديني السلفي على المستوى الاجتماعي، وانتصار لسياسة الملك عبد الله، وتأكيد مبدأ الانضباط والطاعة للحكومة. وقد أراد كثير من المشاركين في حملة الردود على كلام الشيخ الشثري الفوز بالتقرّب زلفى الى أحد جناحي العائلة المالكة.

الصفحة السابقة