السلفية الوهابية بين سياسة التقرير والتبرير

الدكتور محمد بنيعيش

فقد تتفكك وتنحسر الوهابية كحركة ومذهب رسمي ومعها السعودية كنظام سياسي بالتلازم، كما قد تنهار وتتفتت تداعيا الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الصهيونية وكيانها وكذا كل الحركات أو المذهبيات والأنظمة المؤسسة على العنف وعلى البناءات المادية الهشة والخالية من المعنى الروحي والعقدي التنزيهي الصحيح، إما تبعا أو موازاة أو قبلا، ولكن قد تبقى الآثار العقدية والنفسية والمذهبية متشعبة في المجتمعات التي حكمتها أو غزتها، مما يحتاج معه إلى إعادة البناء على نمط مخالف وقوي شكلا وجوهرا في تحريك الوجدان وإصلاح القلوب بعد هذه الصدمات التاريخية والاجتماعية والسياسية.

الدكتور محمد بنيعيش

أولا: تبادل الدعم بين السلطة والفقه الوهابي

إن الازدواجية التي تكرست مبدئيا كورقة عمل بين الحركة الوهابية كمذهب دعوي وبين السعودية كسلطة سياسية ستأخذ طابعا شبه ابتزازي واستغلالي في التعامل بين الجانبين، أي بين آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتلامذته وبين آل سعود وحاشيته، إذ أن العلماء الوهابيين سيتخذون من السلطة السياسية وسيلة لفرض مذهبيتهم بالقوة والعصبية القبلية النجدية خصوصا وبالتالي سيحصلون على مساندة السلطة في تصدير هذه المذهبية على المستوى الخارجي كتطلع واستشراف لبسط مذهبيتهم خارج حدود دولتهم بدعوى السلفية وإصلاح العقيدة وما إلى ذلك من المصطلحات التي يتذرعون بها، ويتوهمون في أنفسهم أنهم وحدهم المؤهلون للتبليغ وفهم العقيدة على وجهها الصحيح أما غيرهم بزعمهم فليسوا سوى مبتدعة "وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". وهذا الشعار هو محتوى كل خطاباتهم ومدار نقا شاتهم وأفكارهم المذهبية، بحيث يوظفونه بشكل إسقاطي وضيق حتى يمكن أن يوصف بأنه "كلمة حق أريد بها تضييق مجالاته". مما يؤدي إلى تصادم كبير بينهم وبين الفئات الإسلامية عبر أنحاء العالم من أهل السنة أنفسهم، بله الشيعة وطوائفهم المختلفة.

وهكذا فستعرف عدة جهات من العالم الإسلامي تسرب الوهابية تحت عدة غطاءات منها ذات الطابع الثقافي على شكل نشر تآليف تخدم المذهبية الوهابية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، كطبع فتاوى ابن تيمية وكتب ابن قيم الجوزية وكتب محمد بن عبد الوهاب وأخباره والتآليف المدافعة عن سلفيته وما إلى ذلك. ثم توزيعها بالمجان على العامة والعلماء، بالإضافة إلى هذا إحداث مراكز ثقافية في مختلف البلدان الإسلامية أو التي توجد فيها جاليات إسلامية ورعايتها عن طريق السفارات السعودية ـ الحارس السياسي الأمين للمذهبية الوهابية بالتدخلات المباشرة أو بالوساطات والتمويل وما إلى ذلك.

وهكذا يمكن أن يتوفر المال وتسهيلات السفر وإنشاء الجمعيات لكل من يعلن انتماءه للوهابية بالتأييد وانتقاده لأولياء الله الصالحين وخاصة الصوفية! بل إذا كان الشخص من المثقفين والكتاب فإنه يبادر إلى طبع كتبه في أسرع وقت وبتشجيع مادي وإعلامي مهم جدا! شرط أن يكون الكتاب يطرح موضوع البدعة بالمفهوم الوهابي الضيق ويطرح رفض التسول بالأولياء والصالحين، وتبديع من يشد الرحال لزيارتهم وما إلى ذلك من الآراء التي أصبحت من أهم خصوصيات الوهابية في الجدل والمراء والتفسير الضيق والسطحي للنصوص الإسلامية.

أما إذا كان المؤلف ممن يخالف المذهب الوهابي ولو في جزئياته فإنه قد تصادر كتبه بل قد يرفض طبعها ولو كانت أهم من الكتب الوهابية وأصدق تعبيرا وأعمق فكرا، إذ أصبح الفكر لدى أغلبيتهم محتكرا بسلاطة اللسان وسيف السلطان، وهذه السلاطة والتحكم في صياغة أسلوب الدعوة على المنهج الوهابي سيتعدى مجتمعهم ليصبح ذا أثر سلبي على تعامل فئات من المسلمين في شتى بقاع الأرض، أعرض لبعض نماذجه فيما يحكيه الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي من مشاهد واقعية وحديثة تبين هذه الآثار السلبية لاستغلال الوهابية للمال والسلطان في الدعوة التي يرومون فرض مذهبيتهم من خلالها.

وفي هذا يقول البوطي:

"كنت في هذا العام المنصرم 1406هـ واحدا ممن استضافتهم رابطة العالم الإسلامي للاشتراك في الموسم الثقافي، وأتيح لي بهذه المناسبة أن أتعرف على كثير من ضيوف الرابطة الذين جاءوا من أوربا وأمريكا وآسيا وإفريقيا وأكثرهم يشرفون في الأصقاع التي أتوا منها على مراكز الدعوة الإسلامية أو يعملون فيها. والعجيب الذي لا بد أن يهيج آلاماً ممزقة في نفس كل مسلم أخلص لله في إسلامه، أنني عندما كنت أسأل كلا منهم عن سير الدعوة الإسلامية في تلك الجهات أسمع جوابا واحدا يطلقه كل من هؤلاء الإخوة على انفراد بمرارة وأسى خلاصته: المشكلة الوحيدة عندنا هي الخلافات والخصومات الطاحنة التي تثيرها بيننا جماعة السلفية... ولقد اشتدت هذه الخصومات منذ بضع سنوات في مسجد واشنطن إلى درجة ألجأت السلطات الأمريكية إلى التدخل ثم إلى إغلاق المسجد لبضعة شهور! ... ولقد اشتدت هذه الخصومات ذاتها واهتاجت في أحد مساجد باريس منذ ثلاثة أعوام حتى اضطرت الشرطة الفرنسية إلى اقتحام المسجد، والمضحك المبكي بآن واحد أن أحد أطراف تلك الخصومة أخذته الغيرة الحمقاء لدين الله ولحرمة المساجد لما رأى أحد الشرطة داخلا المسجد بحذائه فصاح فيه أن يخرج أو يخلع حذاءه، ولكن الشرطي صفعه قائلا: وهل ألجأنا إلى اقتحام المسجد على هذه الحال غيركم أيها السخفاء؟!

وفي إحدى الأصقاع النائية حيث تدافع أمة من المسلمين الصادقين في إسلامهم عن وجودها الإسلامي وعن أوطانها وأراضيها المغتصبة تصوب إليهم من الجماعات السلفية سهام الاتهام بالشرك والابتداع لأنهم قبوريون توسليون، ثم تتبعها الفتاوى والاتهامات: يا عجبا لإخوة يرموننا بالشرك مع أننا نقف بين يدي الله كل يوم خمس مرات نقول "إياك نعبد وإياك نستعين" ولكن النداء يضيع ويتبدد في الجهات دون أي متدبر أو مجيب!1".

وجماعة السلفية لا يقصد بها في أغلب الاستعمال الاصطلاحي المعاصر غير الجماعة الوهابية التي تريد أن تحتكر مصطلح السلفية لصالحها وتحصره بصفة خاصة في ثالوث تاريخي مرحلي يمثله ابن تيمية وابن قيم الجوزية ومحمد بن عبد الوهاب، وهذا الثالوث سيعرف حضورا مهما لدى أغلب الجماعات الإسلامية من حيث صياغة أفكارها واستنزافها لمفهوم السلفية، وخاصة تلك التي لها تطلعات سياسية من حيث المبدأ والغاية والتي أصبح يصطلح على توجهاتها وأفكارها جزافا بالإسلام السياسي، وذلك لارتباط الدعوة عند هؤلاء ارتباطا مبدئيا ونهائيا بالسياسة واعتماد السلطة والعنف في فرض المذهبية الخاصة، وهذا ما سبق واصطلحنا عليه بالمتسلفة وتحديد بعض أهم سلبياتهم في كتابنا "البطالة الفكرية في مجتمعنا: الأسباب والانعكاسات"

أما فيما يخص استغلال السعودية كسياسة للمذهبية الوهابية فإنها أوسع من استغلال الوهابية كمذهبية فقهية أو دعوية للسعودية السياسية. إذ ستصبح تلك الامتيازات المخولة لعلماء الوهابية في داخل المجتمع الوهابي أو خارجه ليست سوى طعم سياسي يعتمد سلاح العلم المحرف في إضفاء المشروعية على كل خطوة سياسية سواء وافقت الشريعة الإسلامية في غايتها أم لم توافقها إذ سيدخل هذا الطعم السياسي العلماء الوهابيين في مرحلة أو في حقل علمنة الفتوى الشرعية. وهكذا ستكون تلك الامتيازات المخولة لعلماء الوهابية وأذيالهم في الخارج بمثابة تعويض عن أخطر دور يقومون به لإضفاء المشروعية على تصرفات السعودية السياسية سواء على مستوى السياسة الداخلية أو الخارجية، فالقادة السعوديون كما يقول رجاء غارودي "يمكنهم بفضل وسائلهم الضخمة تمويل جميع الحركات الإسلامية في العالم كله لخدمة مقاصدهم".

فعلى المستوى الداخلي ربما قد أفتى علماء الوهابية بإيعاز من السلطة الحاكمة عند وجود خلافات داخل البيت الحاكم حول من يستحق السلطة بترجيح كفة هذا الذي يؤيدونه على الآخر الذي لا يجد من طرفهم قبولا دون مراعاة الاستحقاقات الدستورية إن كان يوجد دستور وما إلى ذلك ولكن سلاح الفتوى يستعمل في تغيير دواليب الحكم والسياسة بمجرد الميل المفتعل وحسب منطق السلطة للغالب أو تحت ستار المصلحة العامة والتي لا تعني سوى مصلحة البيت الحاكم وقوة عصبيته. وبذلك يكونون مقررين للتغيير السياسي في الظاهر بينما في الحقيقة ليس لهم دور سوى التبرير والتمرير.

وقد ظهر ذلك بوضوح في فتوى العلماء الوهابيين مثلا حينما انحازوا إلى صف الأمير فيصل في صراعه مع أخيه الملك سعود في نوفمبر 1964. فإن الفتوى التي أصدروها كانت هي المرجع الأخير الذي إنهاء الصراع لصالح الملك فيصل الذي صار ملكا وإبعاد أخيه سعود عن الحكم. واحتوت فتوى العلماء الوهابيين على فكرة منع الفتنة وتحقيق المصلحة العامة"2. وكذلك توظف الفتوى عند حدوث أي طارئ سياسي معارض للنظام السعودي، إذ يلجأ إلى الفتوى إما بالتبديع أو التكفير أو ما إلى ذلك حسب مقتضيات الموقف السياسي وإيعازاته. وذلك كفتوى استعمال القوة بالسلاح لإنهاء حركة المتمردين في حادث اقتحام الحرم المكي. وكل ذلك كان يتم بتغطية إعلامية وإضفاء المشروعية عليه بفتاوى قد يستسيغها بعض العلماء من غير الوهابية في كثير من الأحيان لعدم اطلاعهم على الواقع السياسي الذي تحميه الوهابية وتختلط به اختلاط الماء باللبن أو الثلج بالماء!.

ثانياً: زئبقية قاعدة الولاء والبراء في الحركة الوهابية

غير أن الذي لم تستطع أن تجد له الوهابية في ثوبيها المذهبي الفقهي والسياسي مبررا مقنعا فكرياً وشرعيا لضمان الحفاظ على تطلعاتها في توسيع دائرة تأثيرها خارج مركزها، هو ذلك الاضطراب الذي أصاب علماء الوهابية وساستها معا في مواجهة ما يعرف بأزمة الخليج وتداعياتها، بحيث ما بين عشية وضحاها انقلبت الفتاوى ووسائل إعلامها رأسا على عقب وأصبح موضوع الولاء والبراء الذي كانت تتغنى به الوهابية كمكسب سلفي خاص بها موضع التأويل والإسقاط والتحريف للحقائق الشرعية التي لا تقبل التأويل.

فبالأمس كان علماء الوهابية يعتبرون الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بريطانيا وفرنسا وغيرها من دول الغرب الصليبي شر الدول وأعدى عدو للإسلام والمسلمين، فما أن دخل العراق إلى الكويت بجيوشه بسبب صراع خاص بين ساسة البلدين حتى سارع ساسة الوهابية إلى استعداء الغرب على العراق وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وهذا ما كان يتحرج من إبدائه علنا الساسة الوهابيون منذ تأسيس الدولة السعودية وخاصة في عهدها الثاني، إذ كما يقول غارودي : "إن الشاغل الأساسي للقادة السعوديين هو إخفاء انحيازهم الكامل للغرب، فمنذ 1913 وقبل إنشاء المملكة سنة 1928 وقع عبد العزيز معاهدة القطيف مع بريطانيا العظمى التي تلتزم هذه الأخيرة بموجبها في الدفاع عنه مقابل التزامه بالخط السياسي البريطاني. وجرى تحديد تلك العلاقات –علاقات الحماية من جهة والإذعان من جهة ثانية - في معاهدة جدة سنة 1927 وفت انجلترا بالتزاماتها، فقامت سنة 1948 بسحق انتفاضة القطيف المسلحة.."3.

وهذه العلاقات التي تميزت بها الدولة الوهابية في عهدها الثاني فيما يخص الاحتماء أو الاعتماد على الغرب في الحماية ورعاية المصلحة المشتركة ربما قد تزكي الشبهات المثارة حول التأسيس الأولي سواء للحركة الوهابية كمذهب دعوي أو للدولة السعودية كجهاز سياسي، وذلك فيما يتعلق بدور الجاسوس البريطاني (مستر همفر) في التقريب بين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود والذي يقول بالحرف الواحد: "بعد سنوات من العمل تمكنت الوزارة وزارة المستعمرات البريطانية من جلب محمد بن سعود إلى جانبنا. فأرسلوا إلي رسولا يبين لي ذلك ويظهر وجوب التعاون بين (المحمدين)، فمن محمد بن عبد الوهاب الدين ومن محمد بن سعود السلطة، ليستولوا على قلوب الناس وأجسادهم، فإن التاريخ قد أثبت أن الحكومات الدينية أكثر دواما وأشد نفوذا وأرهب جانبا". ثم يبين كيف تم التركيز على محمد بن عبد الوهاب لتوظيفه كمطية للسياسة والذوذ عنه بسلاح الفتوى. فيقول: "أتتنا أوامر الوزارة بالتوجه إلى العراق مرة أخرى لتكميل الشوط مع محمد بن عبد الوهاب، وقد أمرني سكرتير وزارة المستعمرات بأن لا أفرط في حقه مقدار ذرة حيث قال: أنه حصل من مختلف التقارير الواردة إليه من العملاء أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أفضل شخص يمكن الاعتماد عليه ليكون مطية لمآرب الوزارة"4.

وسواء صحت هذه المعلومات أم لم تصح، إلا أن حرب الخليج جاءت بالضربة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة إلى موقف أغلب المبرزين من علماء الوهابية إذ كانت فتاويهم أسرع من قرار ساستهم في تبرير استعداء الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد العراق، وصدرت في صورة تحريف لمعاني الآيات القرآنية والحديثية والسيرة النبوية للتأكيد جزافا على جواز الاستعانة بالأجنبي الكافر لقتل ومحاربة المسلم. وهكذا اقتربت الوهابية المتزعمة في زعمها لمبدأ الولاء والإبراء من الصليبية أعدى عدو للإسلام والمسلمين ضدا على مسلمي العراق، ليس على مستوى السياسة والمصالح المادية المشتركة فقط وإنما على مستوى الفتوى التي هي أخطر بكثير من الإجراء السياسي المادي الذي لا يرى في سلوكاته وقراراته سوى انتهاز المصلحة الخاصة وحمايتها مادة وسلطة من الاستهلاك والانتهاك.

وهذا الحدث قد عرى قصور المنهج الوهابي عن أن يصبح منهجا ثابتا يمثل الدعوة الإسلامية في بعدها الشمولي والاستمراري لا يتأثر بالظروف والحيثيات والضغوط السياسية والمادية، كما قد عرى عن مستوى التبعية الحمائية التي يخضع لها النظام السياسي الوهابي في تعامله مع الغرب الذي طالما تستر ظاهريا بمعارضته معارضة الدلال، كما قد بين عدم قدرة الوهابية مذهبا وسياسة على حماية ثغور البلاد بالإمكانيات الذاتية وخاصة الحرمين الشريفين مكة المكرمة والمدينة المنورة فكيف بها ستدعي تحرير القدس الشريف وفلسطين!؟

ولئن كان بعض العلماء الوهابيين ربما قد أبدوا معارضة لهذه الفتاوى أو أفتوا مكرهين تحت الضغط والصدمة، إلا أنه ـ كما قلت ـ لم تعد الفتوى الوهابية هي التي تقرر وإنما أصبحت مجرد مبرر، ولقد كان من المتوقع بعد هذا الحدث التاريخي الامتحاني بصدمته أن يحث علماء الوهابية لأن يراجعوا مواقفهم من المذاهب الإسلامية غير المنضوية تحت ثالوث السلفية المرحلية ممن لا يستسيغون تشدد الوهابية، وذلك بإبداء تفتح وقبول للنقاش واستدراك أخطائهم الفكرية والتاريخية، وذلك بتوسيع مفهوم السنة والبدعة في قاموسهم لكي لا يصبح التشبث الضيق بمصطلح البدعة هو عين البدعة التي وقعت فيها الوهابية حتى اختلطت عليها أوراق الولاء والبراء!

لكن الموقف بقي كما كان عليه من قبل، بل كتعويض عن الهزيمة التاريخية في مجال الفتوى واضطراب المواقف التي وقع فيها الوهابيون بسبب أزمة الخليج. فقد لجأوا إلى تشديد اللهجة في الدفاع عن السلفية وبث النفوذ بقوة المال في البلدان الإسلامية وجالياتها في الخارج قصد تغطية النكسة التي أسقطتهم فيها فتاواهم في حرب الخليج وهي في الحقيقة ليست سوى وهابية سياسية في محركها وغايتها! كما لجأ سياسيوهم إلى القيام بتحركات مشبوهة ومشلولة حول القضية الفلسطينية بعد مجازر جنين والضفة الغربية كمحاولة لتعويض هذه السقطة التاريخية، لكنها في الحقيقة زادتهم سقطة أخرى وتكشف مهين وواضح للتبعية والولاء لأمريكا!.

إن علاقة الوهابية المذهبية بالسعودية السياسية كعلاقة الجوهر بالعرض والموضوع بالمحمول والصورة بالماهية، لا يمكن انتزاع هذا عن ذاك وإلا سقط وتحلل التكوين الأصلي للبناء الوهابي السعودي ولم يبق في علاقتهما عرض ولا جوهر. وهذا هو مشكل الوهابية المذهبية المعاصرة خصوصا إذ أصبحت عرضا ولم تعد جوهرا وأصبحت صورة ولم تبق ماهية، ولهذا فهي بعدما كانت مغيرة أصبحت متغيرة لأن تأسيسها الأول مدخول ويعاني من انشطارية بنيوية. ولئن كانت المبادرة للعلماء الوهابيين في العهد الأول من الدولة السعودية فإن المسألة انعكست في العهد الثاني على شكل تسليم السلط أو تبادل الأدوار، ولكن هذا التبادل جاء حتميا وليس اختياريا لأنه مؤسس على السلطة بشقيها الفقهي المذهبي والسياسي المادي.

إن الوهابية قد سكتت عن أخطر تحول يعرفه مجتمعها بدعوى الانفتاح، ويتجلى ذلك من خلال القنوات الفضائية الممولة من طرف أمرائهم و الصحف والمجلات الخاصة بالجمال والفن وما إلى ذلك مما يدخل في إطار خلع العذار ونشر صور الفنانات الحسناوات والراقصات دون تحفظ أو مراعاة لآداب الحشمة ومنع الاختلاط الذي تزعمت تطبيقه جزئيا الوهابية في عهدها الأول، مما يترتب عن هذا الإعلام غير المقيد بالآداب الإسلامية خطابا وصورة من آثار سلبية، بالإضافة إلى ما يجري ويقع في الكواليس وفي غياب التغطية الإعلامية الشيء الذي أصبح مضرب الأمثال في الانحراف السلوكي والاندفاع الشهوي الذي طغى على سلوك فئات من المجتمع الوهابي المدعي للسلفية بسبب طفرة البترول والمال الذي فوجئوا به ولم يحسنوا التصرف فيه.

وإليكم نموذج ما حدث في الشيشان من تداخل طائفي هيأ الأجواء للروس لكي يحتلوا بلدهم .بحيث لما كان الشيشانيون على وحدة مذهبية وطريقة صوفية عريقة - يعلمها الجميع- هي الطريقة القادرية والطريقة النقشبندية لم يستطع الروس هزيمتهم وانتصر الشيشانيون على أقوى الدول في العالم مع قلة عددهم وعدتهم، لكنهم بالمقابل كانت لهم دعامة روحية وأدعية وأذكار بها يستعينون في قتالهم وتحدي عدوهم. وبعد الانتصار الأول - الذي أدحض مزاعم الوهابية والمتسلفة جميعا حينما يتهمون الصوفية بأنهم كانوا أو حاليا عملاء للمستعمر والأنظمة الفاسدة - ستتدخل الوهابية السعودية لاستدعاء زعماء الشيشان وإغرائهم بالحج بالمجان كما شاهدناه عبر التلفاز في وقته آنذاك وهو ما فتح الباب لتواصل الوهابية مع الفئات الشيشانية داخل مجتمعهم حتى أنهم أسسوا مدينة تسمى بالمدينة الوهابية - هذا درس وتذكير لمن له متابعة للأحداث في العالم - ومن خلالها تم تشتيت الجهود الشيشانية الأصيلة بين الصراعات المذهبية والتكفير والتبديع وتفرقة جمع المسلمين وحرمانهم من الاجتماع على ذكر الله تعالى كما رأينا عبر القنوات التلفزيونية تلك الحلقات التي كان يديرها الشيشانيون من أجل الذكر على الطريقة القادرية أو النقشبندية. ومن أراد زيادة الاطلاع فعليه بدراسة الحركات الإسلامية للشيشان للتأكد من صحة ما نقول. وبعد هذا وحينما اختل التوازن الروحي عند الشيشانيين بسبب إسقاطات الوهابية المتسلفة وعملائها أصبحت الفرصة مواتية للروس لكي ينقضوا عليهم من غير رحمة ولا هوادة فكان ما كان وهو نفسه ما تكرر في أفغانستان وبعده العراق الأبي والعصي على العملاء والمحتلين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ومن هنا فمصير الوهابية مرتبط بمصير نظامها السياسي السعودي. ومصير النظام السعودي مرتبط بمصير أوليائه من الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كما انه مرتبط بحسب رضاهم أو سخطهم عن دوره في رد صولة الشعوب المنتفضة ضد مصالحهم، لكن حينما يخفت هذا الدور أو يبلى ينقلب الولاء إلى البراء والمودة إلى العداء وهذا ما تفشى جليا وبقوة علنية بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 ستنمبر 2001 بنيويورك، إذ الحالب لم يعد يجد ما يحلب بقوة فانقلب ضدا على الشاد في القرنين يوبخه ويطارده بحثا عن بقرة أخرى حلوب يوظفها لخدمة مصالحه بعدما أغرقه في المديونية والتبعية الاقتصادية حتى الأنف!

لكن لا الحالب ولا الشادّ في القرنين سواء بين الوهابية والسعودية السياسية أو بينهما والولايات المتحدة الأمريكية قد يستقر أمره على حال، إذ بوادر الانهيار قد بدأت وإشاراته لاحت في الأفق ومهما كان وضع التواطؤ بين الجانبين ونوع الطغيان الذي يؤدي إليه المال والسلاح والعدد والعدة، فإن المآل يكون دائما هو السقوط على نمط البرجين الذين سقطا في نيويورك وغيرها من المدنيات المادية الطاغية!، وهذا ما نتحقق به نصا وشعورا باطنيا قويا من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنه حق على الله ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه"5 وقول الله تعالى " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".

فقد تتفكك وتنحسر الوهابية كحركة ومذهب رسمي ومعها السعودية كنظام سياسي بالتلازم، كما قد تنهار وتتفتت تداعيا الولايات المتحدة الأمريكية وربيبتها الصهيونية وكيانها وكذا كل الحركات أو المذهبيات والأنظمة المؤسسة على العنف وعلى البناءات المادية الهشة والخالية من المعنى الروحي والعقدي التنزيهي الصحيح، إما تبعا أو موازاة أو قبلا، ولكن قد تبقى الآثار العقدية والنفسية والمذهبية متشعبة في المجتمعات التي حكمتها أو غزتها مما يحتاج معه إلى إعادة البناء على نمط مخالف وقوي شكلا وجوهرا في تحريك الوجدان وإصلاح القلوب بعد هذه الصدمات التاريخية والاجتماعية والسياسية؛ وذلك بالبحث عن البديل المفيد، قد يرجحه الواقع ضرورة بأن لا يكون سوى العودة إلى الفهم الإسلامي الصحيح ومبدأ إحياء علوم الدين وآداب النفوس وقوت القلوب، بدل الجفاف المبدع والمستبشع مع الطمع المهين لما في الجيوب، والجري وراء السراب بين منعرجات الدروب، وهو ما يعطي للروح مكانته ودوره في الحركة والحياة، وهذا ما يمثله الإتجاه الصوفي التربوي السني في تطلعاته، والذي أصبح مطلبا عالميا لإنقاذ البشرية من الدمار المزدوج : دمار الأرواح والأجساد.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " يذهب الصالحون الأول فالأول ويبقى حفالة كحفالة الشعير والتمر لا يباليهم الله بالة"6. و"لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله"7.

يقول الله تعالى : "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد" صدق الله العظيم.


1 - الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي: دار الفكر. دمشق ط1 –1408 –1988 ص 244 -245

2 - مجلة الإسلام وطن عدد 62 صفحة 30

3 - غارودي، الأصوليات المعاصرة: ص 73

4 مذكرات مستر همفر. طبعة المركز الإسلامي بروما ص 80 -81 مجلة الإسلام وطن عدد(2) ص 30

5 رواه البخاري. كتاب الرقاق

6 رواه البخاري كتاب الرقاق

7 رواه مسلم

الصفحة السابقة