سيول الفساد

عروس البحر الأحمر تغرق

محمد قستي

ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فإن ما أصاب جدة من كارثة طبيعية لا يغفل فيها العامل البشري، أصاب وسيصيب مدن أخرى.. كوارث ليست وليدة لحظة وقوعها، بل هي رسائل بلغة أخرى في كل الإتجاهات عن عمق الفساد المستشري في الدولة، والذي لا يقتصر على مجال دون غيره، بل يكاد يغمر كل مجالات الحياة في هذا البلد. ومن المفارقات الساخرة أن تجتمع أزمة المياه بكارثة السيول، فسكان جدة، شأن سكّان مكة ومدن أخرى، يحصلون على المياه عبر صهاريج المياه التجارية، والتي قد تصل قيمة كل صهريج في موسم الصيف، ومع شحّ المياه، الى خمسة آلاف ريال للصهريج الواحد.

لعبت تكنولوجيا الإتصالات دوراً حاسماً في (فضح) صور المأساة الإنسانية التي شاهدها العالم على الشبكة العنكبوتية، ونقلتها شاشات الفضائيات في أرجاء متفرّفة من الأرض. اعتقدت العائلة المالكة بأن هيمنتها على امبراطورية إعلامية ستوفّر حصانة لها أمام النقد، فنجح جهاز صغير (الجوّال/الخليوي) في تعرية الفساد المتراكم منذ عقود، وعطّل مفعول تلك الإمبراطورية التي أذعنت في نهاية المطاف إلى الصورة الثابتة والمتحرّكة الشاهدة على المأساة حفاظاً على المصداقية. اعتاد آل سعود أن يوجّهوا فوّهات إعلامهم نحو خصومهم، ولكن حين وقعت مأساة جدّة لا يكفي أن تلوذ بالصمت أمام تدفق الصور من الموقع. وكان وجود أكثر من مليوني حاج بالقرب من مكان المأساة يجعل خيار الإنكار أو حتى التقليل من الشأن مستهجناً، خصوصاً وقد شهد الناس جميعاً حجم الكارثة، التي راح ضحيتها حتى كتابة المقالة ما يزيد عن 130 شخصاً بينما يتحدّث الأهالي عن موت مئات الأشخاص، إضافة الى مايزيد عن عشرة آلاف مشرّد، وخسائر مادية تقدّر بعدّة مليارات من الريالات السعودية. ينقل عبد الله الغريبي، وهو رجل أعمال يقيم في منطقة قريبة من موقع السيول بأنه يعلم شخصياً (أن لكل عائلة أو أسرة في المنطقة قريباً مفقوداً حالياً). ويؤكّد على وجود (أشخاص الآن تحت مجاري الأودية والسيول..). وفي مثل هذه الكوارث، وذلك في عهدة هيئة التحقيق أيضاً، تكون الأحياء الفقيرة أكثر تضرّراً، وتقدّر بعض الجهات المعنيّة بأن الضحايا من العمال الأجانب يبلغ الثلثين.

وحتى الثالث من ديسمبر، كانت نحو 35 لجنة ميدانية تواصل عملها لحصر حجم الأضرار من الكارثة الأكبر التي شهدتها مدينة جدة في تاريخها. وبحسب إحصائيات لجان حصر الأضرار التي شكّلتها محافظة جدّة فإن 1932 عقاراً متضرراً جراء السيول، إضافة الى 2377 سيارة، مع التحفّظ على الاحصائيات كونها صادرة من جهة حكومية، بل ومسؤولة إلى حد كبير عن الكارثة.

جدة التي تعدّ ثاني أكبر مدن المملكة تفتقر الى بنية تحتية لازمة لتصريف مياه السيول، فيما تتعاظم المخاوف من تسرّب مياه الصرف الصحي المتجمّعة في (بحيرة المسك) القريبة من المدينة والتي تحوي بحسب بعض البيانات الى 40 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي التي يتم شفطها من منازل جدة التي لم تصلها خدمات الصرف الصحي، والتي يخشى ارتدادها على المدينة في حال هطول كميات كبيرة من الأمطار، بما قد يشكّل كارثة بيئية على منطقة واسعة في الحجاز. نشير هنا الى أن 30 في المائة فقط من منازل جدّة مرتبطة بشبكة الصرف الصحي، ما يجعل خطر الكوارث البيئية محدقاً بغالبية سكّان هذه المدينة التي تنعت بـ (عروس البحر الأحمر).

صور السيارات المتكدّسة، والسيول التي تجرف البشر والأشجار والعربات بمن فيها، والتي التقطها السكّان أو المارّة لم تكن تعكس سوى جانب من مأساة جدّة، أما الذي فاتهم صيد الكاميرا، فقد ابتلعهم السيل، أو عجزت الكاميرا عن الوصول اليهم بعد أن سقطت جدران البيوت أو المباني أو الجسور على رؤوسهم على حين غرّة أو لم يجدوا مهرباً من الكارثة حال وقوعها.

التحقيق الرسمي.. ماذا ومن وكيف؟

إعلان الملك عبد الله عن تشكيل لجنة تحقيق رسمية في كارثة السيول في جدّة لم يخفّف من معاناة الضحايا، والمشرّدين. وهناك من اعتبر اللجنة لمجرد ذر الرماد في العيون، خصوصاً وأنها لجنة غير محايدة، أي حكومية، وأن أعضاءها ليسوا خبراء فنيين وقانونيين، بل هم أقرب الى موظفين أمنيين، الأمر الذي يسقط من وجهة نظر الضحايا جديّة الحكومة في مقاربة هذه الكارثة بشكل مسؤول. يضاف إلى ذلك، الشروط الصارمة التي فرضتها لجنة التعويضات، التي هي الأخرى غير معفاة من تهمة الفساد المالي، على المتضررين، فقد ألزمتهم بتقديم إثبات عنوان السكن الجديد، وتعريف من عمدة المنطقة، فيما الكثير منهم قد أصبحوا مشرّدين، فيما فتح بعض الأقارب والخيرين أبوابه لإيواء ذويهم وأصدقائهم والمحتاجين من الناس، وقد فقدوا الوثائق الرسمية الخاصة بهم.

السؤال ماهو موضوع التحقيق، هل هو مجرد آثار كارثة السيول، بمعنى النتائج المباشرة لها، أم أن ملف التحقيق يجب أن يشمل جذور الأزمة، والمتعلّقة بالفساد الإداري والمالي ليس في محافظة جدّة فحسب، وإن كان ذلك من اختصاصات هذه اللجنة، أم أن حرباً على الفساد ستعلنها الحكومة على كل أشكال الفساد. هل ستفتح اللجنة ملفات المشاريع بكلفة عشرات المليارات الريالات، بما في ذلك مشروع الصرف الصحي في جدّة بقيمة ما يزيد عن 11 مليار ريال والتي أعلن عنها الشهر الماضي، وكذا بقية المشاريع الخاصة بالبنية التحتية في جدّة، أم أنها ستكتفي بتحميل المسؤولية للصغار (كبش الفداء) كما يتوقّع أغلب مواطني هذا البلد، فيما ينجو الرؤوس الكبار بمن فيهم الأمراء الكبار، والكبار جداً السابقون واللاحقون، الذين بدأت بهم المشكلة وبالجهر بمساوئهم، وذاك أضعف الإيمان، كيما يبدأ الحل، أم أن لا هذا ولا ذاك، وقد تفرض عقوبات إدارية ضد بعض المسؤولين أو قد تكتفي بمناقلات شكلية لإغلاق القضية.

يدرك الملك عبد الله الذي أمر بتشكيل هيئة التحقيق بأن العقاب لن يطال المقصّرين الحقيقيين، لأنه يعرفهم بأسمائهم، فهل يجهل مثلاً أن 70 بالمئة من منازل جدّة غير مربوطة بشبكة للصرف الصحي؟ أم يجهل أن جدّة التي غرقت في السيول، تحصل على الماء من غير شبكة الدولة، وبأثمان باهظة؟ وهل لم يصله نبأ المخطّطات العشوائية للأراضي التي كان يقتطعها الأمراء الكبار من أمانة جدة بدءً من ولي العهد الأمير سلطان، وقبله الملك فهد، نزولاً الى صغار السماسرة وتباع على الناس قبل (تخديمها)، وكل ذلك كان يتّم بالتنسيق بين أمانة مدينة جدّة وكبار الأمراء؟ إن كانت الإجابات بالنفي، فتلك المصيبة، وتدكّ صميم (ولاية الأمر) للملك، الذي لا يعرف من أمر رعيته ولا أحوال بلاده إلا حين (يقع الفأس في الرأس) كما يقولون.

أما الجواب عن الشق الثاني من التحقيق مع من، فقد تكفّل الضحايا بتقديمه، حين وجّهوا اللوم الى السلطات المحلية لعدم تقديمها إجراءات الحماية الأساسية من السيول أو التحرّك بسرعة كافية عند وقوعها. هذا الجواب الذي سمح به وضعهم، ولكنه يشتمل على شفرة خاصة، يفهمها كثيرون بأن فساد الكبار هو المسؤول الأول عن مثل هذه الكارثة، التي كان يعيشها سكّان جدّة منذ سنوات وعلى مدار اليوم والليلة، وليس حال مدن أخرى في الشمال والجنوب بأحسن منها.

ليس هناك من يتوقّع من وسائل الإعلام المحلية الرسمية وشبه الرسمية بأن تعكس الواقع المأساوي كما هو، وهو ما دفع بالناس الى تصوير مشاهد الكارثة بأنفسهم وتثبيتها على موقع يوتيوب، ومواقع إلكترونية أخرى. وفيما كان معظم وسائل الإعلام السعودية المحلية والخارجية تنفخ الروح في قرار الملك بتشكيل هيئة للتحقيق، كان لسان حال الناس يقول بأن النتائج ستكون مخيّبة، وقد تلام السماء لأنها أفرغت سحبها في هذه المنطقة بغزارة، أما الموتى والمشرّدون فنصيبهم الإهمال.

إنه الفساد في صور الموت العبثي هو المسؤول عن الكارثة، وهو الفساد الذي سيوجّه نتائج التحقيق، وسيسلك أعضاء هيئة التحقيق، أو على الأقل بعضهم، الطريق نفسه الذي سلكه الفاسدون من قبل، لأن من يقدّم العلاج هو المتسبّب الرئيس في الكارثة. ثم هل أن القضية مقتصرة على محاسبة مسؤول هنا أو هناك رغم أن هوياتهم كباراً وصغاراً معروفة للضحايا؟ وهل تكفي التعويضات مهما بلغت، ولا يشمل ذلك بطبيعة الحال الأرواح البريئة التي أزهقت بفعل عامل الإهمال البشري، كيما يستعيد الضحايا جزءً مما خسروه؟ ثم هل وضعت الدولة خطة طوارىء وطنية من أجل تقليل الخسائر بفعل كوارث طبيعية محتملة، في ظل تقارير متواترة عن احتمالية وقوع سيول وفيضانات مماثلة من حيث القوة والخطورة والآثار؟ وهذا السؤال يضيء على اختصاصات لجنة التحقيق التي لا يبدو أنها تملك خلفية من أي نوع عن تدابير الوقاية، أو التوقّعات البيئة والمناخية من أجل رسم استراتيجية شاملة في المدى المنظور. فهل من يخبرنا في هذه الدولة عن حلول جذرية لمشكلات الصرف الصحي وأزمة المياه في مدن كبرى مثل جدّة ومكة، ومثيلاتهما من حيث الحجم في المناطق الأخرى.

إذا كانت الدولة غير قادرة على التعامل مع أمطار غزيرة هطلت لمدة ساعتين، فتحوّلت الى كارثة، فماعساها فاعلة لو تكرر الأمر، لا قدّر الله عزّ وجل، في مدن أخرى وفي وقت واحد؟ أليس هناك ما يبرّر انتقادات سكّان جدّة للحكومة على خلفية تعاملها غير المسؤول مع الأزمة؟

كانت نذر الأزمة تلتمع منذ سنوات، ولعل (بحيرة المسك) بروائحها النتنة تبعث برسالة يومية إلى الحكومة من أجل التحرّك العاجل لتسوية المشكلة قبل وقوعها، فهذه البحيرة تمثّل احتجاج 70 بالمئة من سكّان جدّة، الذين لم يجدوا سبيلاً لمعالجة مشكلة الصرف الصحي إلا عبر هذه البحيرة.

هل ينتظر المشرّدون طعاماً أو سكناً مؤقتاً من السلطات وهي التي حرمتهم من الإستقرار بفعل تكالب الفاسدين على الأجهزة الحيوية، وهل كان ينتظر المتضررون تعويضاً، لو أن مجرد (آدمي) خاف الله سبحانه في من تولى على مصالح عباده، فوضع المال في موضعه، ودرأ عنهم خطر الموت غرقاً، أو جرفاً، إلى جانب التشريد، والهلع..فقد قضى كثيرون نحبهم داخل سياراتهم إما غرقاً بعد أن غمرتها السيول، أو قتلاً في حوادث تصادم بفعل تدفق المياه الجارفة، فيما توفي بعضهم بسبب انهيار الجسور فوق رؤوسهم. ما يلفت الإنتباه أن مثل هذه الكارثة التي تتطلّب إعلان حال الطوارىء لم تكن تسترعي انتباه حكّام نجد، ما عزّز قناعة الأهالي بأن آل سعود يتحرّكون وفق اعتبارات مناطقية، فلو كانت هذه الكارثة في نجد لكان تعاطيهم مختلفاً.

في مثل هذه المأساة، تتفتق جروح سكّان هذا البلد من كل المناطق، وما إن يفتح ملف كارثة السيول في جدّة، حتى تنفتح بقيّة الملفات بصورة متسلسلة: الصحة، والتعليم، والتوظيف، والخدمات العامة، والرشاوى، والفساد الإداري والقضائي، والقمع، ومصادر الحريات، وحقوق المرأة، والأوضاع المعيشية، وصولاً الى الاصلاح السياسي المغدور جهاراً. وفيما يزداد عدد الأثرياء الفاسدين من أموال الناس، تزداد عدد الكوارث، بل هناك من حمّل الضحايا مسؤولية موتهم، حين قال أحد المسؤولين بأن السبب هو البناء العشوائي، وكأن جدّة تقع خارج المجال السيادي للدولة، أو أن الأخيرة غير مسؤولة عما يجري فيها، أو يقترف على أرضها وبإسمها، ثم إذا وقعت الكارثة تشكّلت لجان، وأطلقت وعود، تعقبها كوارث، ولجان ووعود.. وفساد.

الصفحة السابقة