ماوراء الحملة على مشايخ التكفير

الوهابية وآل سعود.. والسقوط جمعاً!

محمد السباعي

لم تصل المؤسسة الدينية الوهابية في السعودية الى قاع الحضيض بمثل ما هي عليه اليوم. هناك ردّة شعبيّة انفجرت بوجهها، لم تواجهها طيلة تاريخها منذ نشأتها قبل أكثر من قرنين من الزمان.

كانت المؤسسة ورجالها محصّنون بقوّة السلطان السعودي عن أي همز أو لمز أو اتهام أو نقد.

وكانت أفكارها ومواقفها وفتاوى رجالها الخط الفاصل (بين الحق والباطل!) الذي تنحني له الدولة، ويخضع له المعارضون.

إذا تكلّمت سكت الجميع.

وإذا أفتت ابتلع الناقدون الكلام.

لا أحد يقترح أمراً ـ مجرد اقتراح ـ إلاّ ورجال الوهابية له بالمرصاد.

لا أحد يكتب إلا ومشايخ السلطة يقرؤون له ما تحت السطور، فلا يأمن على نفسه وعمله وماله وحتى خدش عرضه.

ولا أحد يتخذ قراراً في أي مؤسسة إلا وسيف الدين مسلط على رأسه، هذا إن اتخذ.

هكذا أرادت العائلة المالكة تلك المؤسسة الدينية: سيفاً مسلطاً على الشعب، سواء اعتنق الوهابية أم لم يعتنقها. لقد أرادت تمديد سلطة المشايخ الوهابيين على كامل الحيّز الديني، لتفرض رأيها على أتباع المذاهب الأخرى، الذين يمثلون نحو ثلاثة أرباع السكان.

السلطة المتضخمة لمشايخ الوهابية، منحتها لها العائلة المالكة، لتشغل الشعب بنفسه، ولتخنق الشعب بشراشف الدين، ولتتحول فتاوى الوهابية المتطرفة التي لا يوجد لها مثيل بين رجال الدين في أي من بلدان العالم الإسلامي، المؤطر الذهني والعقدي والسياسي لنظام الحكم القائم.

رجال العائلة المالكة لا علاقة لهم بالدين. حتى الصلاة هم لا يصلّونها في معظمهم! دع عنك ممارساتهم الأخرى من سرقة وفسق وفجور، يعلم بها القريب والبعيد. لقد أرادوا تحويل الدين ـ عبر مشايخ الوهابية ـ الى أداة قمع اجتماعي سياسي. يواجهون بهم الخصوم في الداخل والخارج. فكفروا زعماء دول عربية وإسلامية، وعضدوا النظام القائم بالفتاوى السياسية التي يريدها. وقمعوا دعاة التغيير والإصلاح بأحكام قضائية خرجت من وزارة الداخلية ونفثها قضاة الوهابية بالباطل.

الدين صار مركب السلطة. الأداة التي تستخدم في القمع الداخلي والتمدد الخارجي سياسياً ودينياً.

والسلطة ـ من وجهة نظر المشايخ ـ هي أداة نشر الدين الصحيح (الوهابية).. فدعمت الباطل والإستبداد والظلم وخنق الحريات، والتغطية على الفساد، مقابل ذلك النشر.

فضاءان: سياسي وديني، أريد لهما التعايش على مدى القرون. تعايش قائم على المصلحة الخاصة لكل طرف: الأمراء والعلماء ـ كما يقال. كان كل طرف يسعى الى اقتحام فضاء الآخر، لكن الغلبة كانت دائماً لآل سعود، حتى أصبحت المؤسسة الدينية عالة على المؤسسة السياسية، يقتات منها رجالها، وموظفوها ورجال هيئتها ومشايخها وطلبة علومها، وقضاتها، ودعاتها في الداخل والخارج. ومقابل ذلك دفعت المؤسسة الدينية ثمن التحالف: كرهٌ شعبي متصاعد لها ولرجالها، حتى امتدّ الى ردّة فعل على الدين نفسه. فكل خطأ وكل رذيلة وكل سياسة ظالمة يمارسها آل سعود، تحطّ من شأن الوهابية ومشايخها في الداخل والخارج.

وفي الطرف الآخر، كان آل سعود ينعمون باستقرار السلطة، وببعض الشرعية الدينية في محيط الوهابية النجدي، ويسددون ثمن تلك الشرعية المنتقصة الى مانحيها.. وهو ثمن بخس من الناحية المادية، ولكن الخسارة الكبرى والثمن الأفدح كان يدفعه الشعب من ثروته ومن تطوره ومن بنيته الثقافية ومن حرياته الأساسية، حتى صار في مؤخرة الركب حتى على الصعيد الخليجي. بأحداث سبتمبر 2001، انفجر المخزون الشعبي ضد رجال الوهابية، انفجر المخزون من رحم الوهابية وملاذها ومحيطها الإجتماعي النجدي. لا أحد يستطيع مقاومة الوهابية من خارجها السعودي: من الحجاز، أو الشرق أو الجنوب. فذلك كفيل بتمتين اللحمة بين النجديين: (آل سعود، والوهابية ورجالها، والنخبة النجدية القابضة على السلطة).

وجد بعض النجديين الحاكمين بأن الوهابية منذ احداث سبتمبر قد اصبحت عبئاً على دولتهم. ووجدوا في السنوات التي تلت بأن المملكة المسعودة تسير من سيء الى أسوأ. وانقسم النجديون حكاماً ومحكومين بين من يقول بديمومة المؤسسة الدينية وأهمية دورها في شرعنة الحكم وإدامة قبضة السلطة بيد الفئوية النجدية، وبين من يرى بأن الوهابية بانغلاقها ليس فقط ستردي مسار الدولة الى الهاوية، بل ستنهي حكم آل سعود نفسه. الأمير نايف وأشقاؤه قالوا بالرأي الأول: لا مقام للدولة المسعودة بدون شرعنة المشايخ الوهابيين لها، وبدون حمايتها عبر ما تقدمه من حشد طائفي يمكن استثماره في القتال داخلياً او حتى خارجياً. والملك عبدالله وبعض الأمراء رأوا بأن الوهابية يجب إضعافها لكي ينتعش المجتمع وتبنى مؤسسات الدولة، وشكل الموقفان أحد أدوات الصراع بين المتنافسين على الحكم.

الخلاف تطوّر فيما بعد حول (مدى تخفيض قوّة الوهابية ومشايخها) إما عبر المزيد من تطويعها لاستخدامها في مشروع الدولة وبنائها، واستثمار بعض ما تمنحه من مشروعية لحكم آل سعود. أو عبر استخدام سياسة تلغي قوّتها، بناء على أن نظام الحكم، وبعد أكثر من قرن من التحالف بين ال سعود ومشايخ الوهابية، قد أصبح ناضجاً وهو يمتلك موارد توفير مشروعيته لذاته من غير طرف المشايخ.

لا خلاف فيما يبدو بين أقطاب السلطة على إضعاف الوهابية. فالدولة الى انحطاط، زادتها سياسة آل سعود انحطاطاً. وهنا يخشى آل سعود بأنهم بإضعاف الوهابية يجعلهم مكشوفين أمام شعبهم، وستوجه لهم سهام النقد بأنهم هم لا غيرهم من يقف عقبة أمام تطوير البلد وحماية مصالح شعبها، وليست الوهابية التي لا تعدو مخلباً بأيديهم، وغطاءً لفسادهم وانحراف سياساتهم. معنى هذا، أن آل سعود إذا ما أضعفوا الوهابية، فإنهم يبقون بدون سدود، وبدون أغطية، وبحدّ أدنى من المشروعية الدينية.. وهذا كلّه يفرض عليهم: تعديل مسلكهم في التعامل مع المال العام؛ وايجاد مشروعية أخرى ـ وطنية ـ قائمة على المشاركة الشعبية وعبر الإنتخابات؛ وفكّ الحصانة الإعلامية والقضائية عن بعض آل سعود ـ على الأقل ـ ممن يتلاعبون بسياسات الدولة ويهدرون ثرواتها ويعيثون فساداً فيها. وهذا كله، لا يحتمل الأمراء قبوله.

وبالتالي فإن استراتيجية إضعاف المشايخ الوهابيين ومؤسستهم، وفتح الطريق في الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي لنقدهم، لا يعدو تكتيكاً اعتاد على ممارسته آل سعود منذ عقود. مع ملاحظة أن جرعة النقد تصاعدت في الشهرين الأخيرين بصورة غير مسبوقة في تاريخ السعودية الوهابية، وأصبح آل سعود غير قادرين على كبح جماح النقد الذي خرج عن إطار السيطرة الرسمية.

لقد قيل بأن الوهابية وآل سعود توأمان سياميان، يصعب الفصل بينهما بعملية جراحية، والفصل ـ بالنظر الى التداخل في المنافع والإعتماد على بعضهما البعض ـ قد يؤدي الى مقتل الإثنين: حكم آل سعود النجدي؛ ومقتل الوهابية نفسها التي لم تنتعش في تاريخها إلا تحت سلطة أنظمة باغية ترعاها. والحل لا يعدو: منح الرعاية والغذاء لأحد التوأمين (حكم آل سعود) على حساب التوأم الآخر (الوهابية) بحيث ينمو الأول ويتضخم على حساب شقيقه، الذي يراد له البقاء حيّاً، ويعطى من الغذاء ما يبقيه هادئاً حيّاً.

الجمهور المسعود، وفي خضم الأوضاع المتغيّرة كان له نهج آخر.

أحداث سبتمبر فتحت كوّة لنقد جناح العنف في الوهابية، ونقصد به الجناح القاعدي/ الجهادي كما يسمى، والذي قام بتفجيرات نيويورك، ثم انثنى ليقوم بتفجيراته في السعودية نفسها، وليصدّرها بدعم من الجناح التقليدي في المؤسسة الدينية وفي المؤسسة السياسية أيضاً الى العراق ونهر البارد في لبنان وفي مملكة السلف في رفح بغزة! لقد قام الكتاب والباحثون السعوديون بنقد العنف الوهابي، دون ذكر كلمة الوهابية، وكيف أن الخيار الديني الحكومي يفرخ العنف. الحكومة حاولت ترشيد الكتابات، لكي تصب ضد القاعدة التي لم تفقه الوهابية على أصولها، ولكنها لم تستطع، فتوجه النقد الى المؤسسة الدينية الوهابية والتراث الديني الوهابي بمجمله، وقد كتب الكثيرون عن ذلك، خاصة كتابات محمد علي المحمود، وعبدالعزيز الخضر، وغيرهما، وهم من نفس المدرسة النجدية الوهابية.

حاول الرسميون السعوديون النجديون، من وزراء وغيرهم، الدفاع عن الوهابية، خاصة في الخارج (تصريحات القصيبي، وتصريحات وزير التعليم العالي يومئذ، وتصريحات الأميرين سلمان ونايف وغيرهما) والتي تزعم بأن الوهابية بريئة، براءة الذئب من دم يوسف، وأنها عاشت ثلاثة قرون ببراءة ولم ترق دماً!! وكل ذلك كذب مفضوح، شديد الإفتضاح. كل ما رجاه الأمراء يومها هو إعادة السيطرة على الوهابية بعد تفجيرات 9/11، واستخدام الوهابي التقليدي منها، والمتمثل في المؤسسة الرسمية، والمنتفع من العائلة المالكة والمتحالف معها.. استخدامه ضد الجناح العنفي، الذي وجه سهامه للحكومة السعودية. وكان الأمراء يريدون محاصرة العنف الوهابي النابع من المؤسسة بشقها على نفسها، ومن ثم إعادة تطويعها كما كانت العائلة المالكة تفعل دائماً (مع الأخوان الأوائل، ومع سلفيي معارضي التلفزيون، ومع جهيمان، ومع الصحويين).. لهذا أمر الأمراء بتجنيب المؤسسة الدينية النقد المكثف، وتجنيب المعتقد الوهابي النقد، ولكن الألسن فلتت، والكتابات صار لها زخم كبير، وظهر الإنترنت ليتجاوز الإعلام المحلي في النقد وليبز الصحافة. وحين لم يتوقف الكتاب، استخدم الأمراء العصا، فطرد صحافيون، وطرد رؤساء تحرير تهاونوا في نشر المقالات الناقدة للمؤسسة الدينية التي صارت في وضع دفاعي منذ أحداث سبتمبر وحتى اليوم.

وفي طريقتهم للتعبير عن الإعتراض، ظهرت الروايات الجنسية السعودية لتغزو الأسواق، وهي في أكثرها قد كتبت بأيدٍ سعودية نجدية أو وهابية سابقة ارتدت على نفسها. غرض تلك الروايات، كان مصادمة الوهابية الى حدّ النقيض، ولتكشف أن المجتمع السعودي ليس مجتمعاً متديناً، بل هو مجتمع مثل كل المجتمعات، بل قد يكون أسوأها، ولهذا نرى سياسة ثابتة في نشر الأخبار غير الإعتيادية عن السعودية مما يكشف طبيعة السعوديين، كما في موقع ايلاف وموقع العربية، فضلاً عن الصحف المحلية.

ولما كان المواطنون ينتظرون إصلاحاً سياسياً ومناخاً ثقافياً مفتوحاً.. فإن النظام قاوم ذلك حتى أودع الإصلاحيين في السجون، وهم في كثير منهم متمردون على الوهابية وبعضهم محسوبين على المتديّنيين.. لم يظهر الإصلاح المرجو، حتى اختفت اللفظة من الصحافة وأجهزة الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، في وقت لم ينته فيه عنف الوهابية القاعدي الذي قيل أنه السبب في التأخير.. ومع إعلان القضاء على القاعدة او اجتثاث أكثرها، لم يعد هناك من مبرر من تأخير الإصلاحات سوى رفض الأمراء. هنا تحوّل الكثيرون الى البحث عن فضاء اجتماعي منفتح بدل الفضاء السياسي، ولكن كانت له الوهابية بالمرصاد مرة أخرى. فاشتعلت المعارك بين الوهابية وبين الآخرين بمختلف توجهاتهم الدينية والسياسية، وكشفت في السنوات الخمس الأخيرة تجاوزات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الى حد قتل المواطنين، وكانت الصحافة تغطي كل شيء، فيما يقوم اعلام الانترنت بتسقيط مشايخ الوهابية عبر الكتابات الساخرة؛ وكان الوهابيون وهم في حالة الدفاع والإستفزاز يكفرون هذا وذاك من الكتاب والصحافيين ويهددون أمثالهم بالقتل والعنف، ويهاجمون معارض الكتاب، والأندية الأدبية، ويشنّون الغارات الإعلامية من مئات المواقع على الإنترنت.

لكن النظام مازال يستشعر الحاجة الى الوهابية بكل فصائلها سواء تلك التي تمارس العنف والتكفير أو تلك التي تستبطن العنف النظري وتمارس العنف الفكري عبر التكفير. في الداخل كما في الخارج، كانت الوهابية مطلوبة لتكفير المخالفين في العراق، وفي لبنان وإيران، واليمن، وسوريا، وفلسطين.. الوهابية كانت مطلوبة للعمل في تأجيج الصراع الطائفي ضد الخارج، وفي حشد العنف ضد المخالفين كما في نهر البارد وغيره، كجزء من السياسة الخارجية السعودية التي نافحت عن نفوذها المتهاوي في مشرق العالم الاسلامي ومغربه. لم يكن النظام الذي يخسر مواقعه السياسية، ويشعر بضغط الرغبة الشعبية في التغيير في غنى عن الوهابية ورموزها الصغيرة والكبيرة.. ولعلّ المواقف والفتاوى والتصريحات الدينية التي ظهرت أثناء الحرب ضد الحوثيين في اليمن تكشف عن ذلك، بل أن بعض المشايخ ألبس لباساً عسكرياً وأرسل لجبهات القتال الخلفية للحضّ على الشهادة ضد الكفار الحوثيين، فيما أرسل قسم آخر لليمن نفسها ليخطب هناك دفاعاً عن الدين الوهابي الصحيح، وليكفر الزيدية!

لكنّ شيئاً تحوّل مؤخراً، وهو أن الحرب الطائفية لم تجد أنصاراً كما توقع آل سعود، وصارت فتاوى الوهابية التكفيرية تستجلب المزيد من السخط على السعوديين كحكام وكدولة، مثل تصريحات الكلباني امام الحرم المكي، وفهد العريفي، وأخيراً فتوى البراك بقتل من يقول بالإختلاط. هنا انفجر المخزون الشعبي من الغضب، الذي يرى البلاد تنحطّ يوماً بعد آخر، فتتالت الكتابات الناقدة والحادة بالتخلص من المؤسسة الدينية التي لم يعد بالإمكان تطويعها. إن حجم النقد والسخرية الذي نشر خلال شهر واحد، كان أضخم مما نشر في مدار عقود طويلة، وهو ما اعتبره د. سليمان الهتلان، حركة تنويرية! وأنى لها أن تكون كذلك؟!

إن مشكلة السعودية في نظامها السياسي، في حكم آل سعود، وما المؤسسة الدينية إلا تابع مطواع. وإن إفساح النقد وتجاوزه في المنتديات المألوف في النشر، لا يعني أن تغييراً سيحدث في السلطة السياسية، أي أنه لن يؤدي إلى التغيير المطلوب. ولا يعد النقد للوهابية اليوم إضعافاً كبيراً بالضرورة لآل سعود، وقد يستثمرونه لصالحهم ان استطاعوا. شيء واحد يمكن التعويل عليه في التغيير ويمكن قياسه به وهو: الصدام أو الإبتعاد بين المتحالفين: آل سعود ومشايخ الوهابية. ما لم نجد فصلاً واضحاً بين الطرفين يؤدي الى اضعافهما، فإن السعودية كدولة ستبقى ضعيفة، الى أن تنحلّ. ونحن لا نرجح وقوع الإنفصال، كما لا نرجح مقولة إمكانية تطويع الوهابية فكرياً، كما لا نرجح قيام آل سعود بإصلاحات اختيارية. نحن نرجح: سقوطهما معاً!

الصفحة السابقة