معركة الإختلاط تندلع داخل التيار السلفي

عبدالحميد قدس

قبل أن يُقفَل باب الجدل في موضوع (الخلوة غير الشرعية)، فُتِح باب آخر، دخل منه كثيرون ليخوضوا غمار جولة جدل حول موضوع (الاختلاط). ورغم أن الاختلاط كقانون إداري وفتوى دينية موضوع قديم، ويعود الى بدايات تشكّل الوهابية والتحالف التاريخي بين محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وقد صدرت فيه أحكام من قبل أعلى سلطة سياسية ودينية في البلد، ومن بينها قرارين مشهورين في عهد الملك فهد، الذي شدّد فيهما على الالتزام بتحقق عدم الإختلاط في المؤسسات العامة، والتهديد بإنزال أشد العقاب بمن يخالف تلك الأوامر السامية، إلا أن التحوّلات الاجتماعية والسياسية والثقافية المتسارعة أعادت الإهتمام بهذا الموضوع.

النجيمي

ولأن الخلوة والاختلاط مفردتان متداخلتان، فكان من الطبيعي أن يثير نقاش (الخلوة) السؤال التالي، أي (الاختلاط)، باعتبار أن كل خلوة هي اختلاط بالضرورة وليس العكس. وفيما كان رجال (الهيئة) يرصدون كل خلوة، ويقنصون الاشخاص الضالعين فيها، كان ضحاياهم يزدادون إصراراً على الحل الحاسم، ووضع نهاية لمعاناتهم. وبسبب فداحة الأضرار والخسائر التي طالت الضحايا، وكثير منهم براء مما نسب إليهم، انقدحت شرارة المناقشات حول موضوع (الاختلاط). نقاشات بدأت بوتيرة هادئة وبطيئة نسبياً، ولكنّها ما لبثت أن ازدادت سخونة بفعل عاملين:

الأول: دخول أطراف من داخل المؤسسة الدينية على خط المناقشات في موضوع (الاختلاط)

الثاني: ضلوع مشايخ بارزين في (الاختلاط) الذي حاربوه.

فيما يرتبط بالعامل الأول، كان صدور فتوى الشيخ السلفي المتشدّد الشيخ عبد الرحمن البراك بتحريم الاختلاط وتكفير القائل به واستحقاق قتله في حال عدم الإنابة والتوبة، قد أطلق عاصفة غضب واسعة النطاق في الصحف المحلية، ودعت الى محاكمته والحجر عليه.

وعلى مستوى المجادلات الفقهية في موضوع الاختلاط، شهد الشهر الفائت (إبريل) سلسلة مناظرات بين مشايخ بارزين في المؤسسة الدينية حول الاختلاط على قناة (إقرأ) في برنامج (البيّنة) بين رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة الدكتور أحمد قاسم الغامدي والشيخ الدكتور أحمد بن عبد العزيز الحمدان، مدير مركز الدعوة والإرشاد بمحافظة جدة والدكتور محمد النجيمي، عضو المجمع الفقهي رئيس قسم الدراسات بكلية الملك فهد الأمنية بوصفه حكماً بين المتخاصمين.

يرى الشيخ الغامدي جواز الإختلاط، وأن لا أصل لحرمته في النصوص الدينية مطالباً من يعارضه بتقديم النصوص الصحيحة التي تدعم قولهم. وفيما تمسّك الشيخ أحمد الحمدان بموقفه بتحريم الاختلاط، وقال بأن لديه 400 نصاً يؤكد ما يقوله، قدّم النجيمي المحكم في الحلقة أدلة تحرم الاختلاط.

الشيخ الغامدي الذي بدا متماسكاً في هجوم الحمدان والنجيمي بمشاركة مقدّم البرنامج، اعتبر النصوص التي قدّمها الحمدان ضعيفة أو مجهولة السند، وأن أخذ بعض العلماء بها غير ملزم، وفرّق الغامدي بين (المقلّد) في إشارة للشيخ الحمدان، و(الباحث عن الحديث والنص) في إشارة إلى نفسه. وشارك النجيمي الحمدان في موقفه، بما أخرجه من دوره كمحّكم للحلقة وليس مناقشاً.

الرشيد

في فقرة المداخلات، جاءت مداخلة الأمير خالد بن طلال بن عبد العزيز، المعروف بإثاراته واضطرابه، متضامنة مع الحمدان والنجيمي، مستعملاً لغة ذات دلالات قبلية كقوله (ليأتي رجل كالغامدي ليقول أمراً لم نتعلمه في الشريعة ولم يقله أحد من علمائنا، بل في النظام الأساسي الذي تقوم عليه المملكة منذ بنائها نظام يحصر الفتوى للعلماء، الذين هم ورثة الأنبياء). بل ذهب خالد بن طلال في الرد على مناقشة الشيخ الغامدي لمسألة الاختلاط بأنه (يبحث عن مصلحته الشخصية)، ثم طالب رئيس الهيئة (أن يعفيه من منصبه).

ألهبت المساجلة الفقهية بين الشيوخ الثلاثة نقاشات أخرى جرت على مواقع حوارية وخبرية على الإنترنت، وراح كل طرف يشرح وجهة نظره تأييداً أو رفضاً، وأدلى كتّاب الصحف المحلية بدلوهم في (الاختلاط)، وتحوّل الموضوع إلى ما يشبه قضية رأي عام، في ظل أحاديث عن اقتراب موعد السماح للمرأة بقيادة السيارة، والمشاركة في الانتخابات البلدية ناخبة ومرشّحة، ودخول المرأة في الحياة الاقتصادية.

أما الأمر الآخر، فقد كان بث شريط مصوّر للشيخ محمد النجيمي وسط مجموعة من النساء الكويتيات على شبكة الانترنت وقيام قناة (سكوب) الكويتية بإعادة بث مقاطع من اللقاء الذي جمع النجيمي مع ناشطات كويتيات، وبعضهن بدون حجاب، وكان يتبادل معهن أطراف الحديث الباسم. لقطات الحفل الذي أقامته ناشطات كويتيات بمناسبة يوم المرأة العالمي اشتملت على عرض غنائي ورقصات وكان الشيخ النجيمي حاضراً، الأمر الذي أثار موجة ردود فعل على موقفه المتشدّد في موضوع (الاختلاط). الشيخ النجيمي الذي ساءه نشر الصور، وهدّد بمقاضاة من يقوم بنشرها حرّك الجو الاعلامي الخاص والعام، مع إصراره على موقفه التحريمي من الاختلاط وأنه تمّ مع (القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً)، فيما كشفت الصور عن نساء بعضهن على الأقل في منتصف العمر، وهو ما أوقع النجيمي في مشكلة أخرى. وفيما كان النجيمي يزداد تعنّتاً كانت تتكاثر أدلة الإدانة حوله، ما دفعه في الأخير الى اعتبار ما قام به مجرد (خطأ).

مهما يكن، فإن ما كسرته المناظرات بين المشايخ وزوبعة النجيمي في الكويت جعل من موضوع الاختلاط قضية متداولة، بل مهّدت لمناقشة قضايا أخرى ذات صلة قريبة أو بعيدة. ويرى مراقبون لما يجري بأن التيار السلفي قد دخل مرحلة حرجة، ويعيش خريفاً متواصلاً بفعل ما خسره من جمهور، وهالة قدسية، وبعض الغطاء الرسمي الذي كان يحميه إزاء هجموم خصومه في الداخل بدرجة أساسية. ليس هناك ما يشير الى إمكانية عودة العقارب الى الوراء، فمسلسل الانكسارات قد بدأ، ولا حلول جذرية يمكن للتيار السلفي بكل مستوياته (المتطرّف والمعتدل) أن يقدّمها لنفسه ولجمهوره الذي بات أكثر استعداداً للإنفكاك عنه، إن لم يكن قد بدأ تدمير الهيكل من داخله.

الصفحة السابقة