الملك عبد الله والتعليم

بين الاختلاط وقيادة الخيل!

محمد السباعي

لم يكشف عن الطريقة ولا كيف ولا خلفية التوقيت التي أفضت الى تسرّب رسائل خاصة متبادلة بين الشيخين عبد العزيز بن باز، المفتي السابق للمملكة، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكلاهما من أبرز رموز التيار السلفي بكل أطيافه التقليدية والصحوية وحتى المتطرّفة. رسائل تعود الى مرحلة كانت فيها الدولة في بداية إقلاعها الثاني، أي مرحلة التحديث الدولتي التي نقلت المجتمع للعيش ضمن أوضاع مختلفة.

موضوعات كثيرة استدرجت العلماء للدخول على خط مواجهة مفتوحة مع دعاة التحديث سواء في الاعلام أو التعليم أو القضاء وصولاً إلى تحديث نظام الحكم. شعر العلماء بأنهم على وشك أن يخسروا مواقعهم ومصادر قوتهم ونفوذهم، ولذلك قرروا خوض المعركة في مجالين حيويين هما التعليم والقضاء. وقد ضمّ كتاب (الدرر السنية) طائفة كبيرة من الرسائل التي تعبّر عن مساجلات العلماء والمسؤولين ورجال الدولة فيما يرتبط بدخول التكنولوجيا والتعليم الحديث والفن وغيرها، الى درجة أن العلماء هدّدوا بصورة مبطّنة بسحب مشروعيتهم عن دولة آل سعود. وكان الأمراء وحلفائهم من الوزراء يشدّدون على الدوام بأن برامج التحديث التي أدخلوها لا تستهدف المساس بالأسس الدينية للدولة، ولذلك كانوا يردّدون دائماً بأننا نجحنا في استيعاب التكنولوجيا بدون أيديولوجيا، أي أنهم وظّفوا منتجات الغرب لخدمتهم دون أن يتأثّروا بما يختفي وراء هذه المنتجات من معتقدات ونظريات ورموز.

على أية حال، فإن تعليم البنات والتعليم المختلط كانا من أشد الموضوعات حساسية في المملكة، فبينما نجحت زوجة الملك فيصل عفّت بإقرار تعليم البنات، ما أثار حفيظة العلماء، فاضطر الملك فيصل الى وضع تعليم البنات تحت إدارة العلماء، فإن التعليم المختلط واجه معركة مضطرمة، ونجح فيها العلماء في كسب الجولة. فقد كشف موقع (وكالة أخبار المجتمع السعودية)، في 10 يوليو الجاري عن رسائل خاصة متبادلة بين الشيخين عبدالعزيز بن باز ومحمد بن عثيمين تدور حول التوجه لدمج الطلاب والطالبات في المراحل الابتدائية الأولية، وأن هذا التوجّه كان موجوداً منذ عهد الملك فيصل، وأن إبن باز ومجموعة ممن وصفهم في رسالته بالمشايخ عملوا على عرقلة تطبيق الفكرة عبر التواصل مع الملك ووزير المعارف والرئيس العام لتعليم البنات آنذاك.

كما كشفت الرسائل المؤرخة في سنة 1394هـ/الموافق 1974 والتي سرّبها مجهولون إلى شبكة الانترنت مؤخراً عن أن الشيخ ابن عثيمين الذي كان يقيم في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم حرص بشدة على إجهاض المشروع ومتابعة خطوات إبن باز في سبيل ذلك حيث ذكر في إحدى رسائله إليه أنه فكّر في زيارته في الرياض لكنه خشي أنه لن يجده وأنه إتّصل هاتفياً على منزله في الرياض مرتين (يرتقب رجوعه من الطائف) لكنه لم يخرج بنتيجة، مما جعله يرسل له رسالة للاستفسار عما حدث بشأن الموضوع.

ابن باز

وجاء في الرسالة الأولى التي بعث بها الشيخ إبن عثميمن من عنيزة بتاريخ 1 شوال سنة 1394هـ /الموافق 17 أكتوبر 1974، والمعنوّنة (من محبكم محمد الصالح العثيمين إلى الشيخ المكرم عبد العزيز بن عبد الله بن باز)، يتسائل فيها بما نصّه (ما أدرى ماذا كان على موضوع خلط البنين بالبنات في المراحل الأولى من الدراسة عسى أنه قضي عليه نهائياً، وبُلغت الوزارة والرئاسة بذلك، لأني سمعت خبراً يطمئن به القلب، وأنا حضرت للرياض في أول النصف الثاني من شعبان وزهمت على بيتكم مرتين أرتقب رجوعكم من الطائف فلم يكن، لذا أرجو أن تخبروني بما حصل). وختم رسالته بما نصه (نسأل الله إصلاح الأمور، وإصلاح ولاة الأمور).

وفي 11 شوال سنة 1394هـ الموافق 27 أكتوبر 1974م كتب الشيخ عبد العزيز بن باز رداً (إلى حضرة الاخ المكرم فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين) جاء فيه (أما موضوع خلط البنين بالبنات في المراحل الدراسية الأولى فقد بذلت جهود كبيرة في الموضوع مني ومن غيري من المشايخ مع الملك ووزير المعارف ورئيس تعليم البنات والظاهر أن الموضوع المذكر قد انتهى ببقاء الأمور على حالها الأولى ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق وأن يوفق ولاة الأمر الى مافيه صلاح العباد والبلاد..).

ذاك كان قبل أكثر من خمس وثلاثين عاماً، ويفتح اليوم مجلس المناظرة مجدداً على أوسع أبوابه حول الاختلاط في التعليم، وتندلع حرب البيانات والبيانات المضادة، وتبدأ معادلة وأزمة التوازن بين التحديث والتقليد، بين المحافظة واللبرلة، وتبدأ معها ازدواجية المعايير واللغة، وكذلك ازدواجية الوعود. يقال بأن تسريب رسائل إبن باز وابن عثيمين لم يكن بريئاً، بحسب بعض العارفين بشؤون صراع الأجنحة وخصوصاً بين جناحي الملك عبد الله والأمير نايف. يشرح أحد العارفين ذلك قائلاً أن جناح الأمير نايف بات يتقن أدوات تحريض وتحريك الشارع السلفي في معركته ضد جناح الملك عبد الله. فبإمكان شخص ما نكرة أن يرمي بأوراق قديمة في سوق الإنترنت فتتلقّفها المواقع وتعيد نشرها وتوزيعها وتحليلها لتندلع معركة بعد أن تصبح كل ظروف اندلاعها جاهزة، فيجد العلماء أنفسهم في قلب المعركة، ويديرون حرب النيابة عن الأمير نايف في مواجهة الملك عبد الله.

الملك كما وزير الداخلية إن لم يكن كل أمراء العائلة المالكة الكبار والصغار يتقنون فن الإثارة مع رجال الدين والمشايخ، فمن يريد توظيفهم في أي حرب، ليس عليه سوى أن يفتح أحد الملفات الحساسة: المرأة، الاختلاط بين البنات والبنين في المدارس والجامعات، تغيير القوانين، إلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الحريات الدينية للشيعة والإسماعيلية والصوفية، تغيير المناهج الدينية والغاء عقيدة الولاء والبراء من منهج التعليم الحكومي..الخ

في سبتمبر 2009، نشر الشيخ محمد الهبدان، المشرف على موقع (نور الإسلام) مقالاً مقتضباً وتذكيرياً يلفت فيه الإنتباه الى وعد قطعه الملك عبد الله بعد دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات ووزارة المعارف. وقد حصلت لقاءات كثيرة في كل يوم ثلاثاء من كل أسبوع مع الملك عبدالله للتحدث معه حول قضية الدمج، وإمكان إلغاء هذا القرار كما ألغي غيره من القرارات.. يقول الهبدان (وكان من ضمن تلك اللقاءات التي حصلت مع خادم الحرمين الشريفين لقاء حضرتُه بنفسي وشاركتُ في النقاش معه حول موضوع الدمج، وحاول أهل العلم إقناع الملك بالتراجع عن رأيه، وأنهم خائفون على التعليم أن يكون مختلطاً بين الطلاب والطالبات فقال لهم ـ وفقه الله ـ: إطمئنوا ..إطمئنوا لن يكون هناك اختلاط وأنا قائد الخيل!!). يقول الهبدان بأن ذلك الوعد أطلقه الملك بين يدي أهل العلم، وهو يذكّره بذلك الوعد للعلماء كيما لا يقع المحذور من اختلاط البنين والبنات في التعليم.

فوجىء الهبدان وغيره من المشايخ بأن جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية والتي تحمل اسم الملك صاحب الوعد (تشرخ في تعليم هذا البلد شرخاً كبيراً) حسب قوله، والسبب أنها أقرّت في دراستها (الاختلاط بين الطلاب والطالبات والمعلمين والمعلمات ..وتحرم الكثير من أبناء وبنات هذا البلد المبارك من المشاركة في هذه الجامعة بسبب الاختلاط الذي عرف الكثيرون خطره على القيم والأخلاق وأثبتت الدراسات العلمية والتجارب الواقعية ضرره على التحصيل الدراسي وقد كتبت في هذا الموضوع بحثا كاملا أثبتّ من خلاله هذه الحقيقة).

العثيمين

ما يثير الإنتباه أن حتى الموافقين على الإختلاط من مشايخ أو مسؤولين أو مثقفين يأنفون من استعمال الكلمة، بل يضطّرون أحياناً الى الافصاح عن موقف مناهض للإختلاط دفعاً لهجمة التيار الرافض. فقد كتب وزير العدل محمد العيسى توضيحاً مطوّلاً لتصريح (جرى استغلاله) حسب قوله، لأنه قال بأن (الإختلاط) مصطلح حديث، ولم يعرفه السابقون.

الحكم الثابت الذي عبّرت عنه اللجنة الدائمة للإفتاء أن اختلاط الرجال والنساء في التعليم (حرام ومنكر عظيم؛ لما فيه من الفتنة وانتشار الفساد، وانتهاك الحرمات)، (بحسب فتوى رقم 6758 في فتاوى اللجنة الدائمة مجلد 12، ص 163 ـ 166)، وهناك من يحتّج بأن الفتوى لا تشمل صغار السن لأن الحديث يدور حول الرجال والنساء. إلا أن رسائل الشيخين بن باز وبن عثيمين تلمح الى حرمة الإختلاط في التعليم عموماً أي في كل المراحل.

وبحسب المادة 155 من وثيقة سياسة التعليم بالمملكة فإن الاختلاط بين البنين والبنات في جميع مراحل التعليم ممنوع إلا في دور الحضانة ورياض الأطفال، ولا يزال العمل بهذه المادة ساري المفعول حتى الآن. وكان قرار صدر من الوزارة يقضي بالتوسع في تدريس الذكور دون سن التاسعة في بعض مدارس البنات الأهلية. أما المدارس الحكومية فإن الأمر مختلف، فقد صدر توضيح عن مسؤول في وزارة التعليم بأن التعليم الحكومي لن يحدث فيه أي تغيير وسيظل تعليم الذكور منفصلاً عن الإناث.

وكانت دعوى رفعت في ديوان المظالم ضد قرار توسيع تدريس الذكور دون سن التاسعة في بعض مدارس البنات الأهلية، ونفت الوزارة أن يكون هناك مقترح (دمج)، وأن المسألة لا تتجاوز التوسع في بعض المدارس، أي تدريس الطلاب في مدارس البنات دون سن التاسعة، على أن لا يكون هناك اختلاط في الفصول بين الطلاب والطالبات.

الدعوى التي رفعت لديوان المظالم وهيئة الرقابة والتحقيق والقضاء ضد وزارة التربية والتعليم جاء بعد قرار تدريس معلمات في مدارس أهلية للبنات باعتبارها مخالفة للشرع وتحقيق للمشروع الليبرالي وتؤدي إلى (تطبيع) الاختلاط المحرم وإشاعته في التعليم بالتدريج. واستشهد رافعو الدعوى بفتاوى للعلماء تحرم الاختلاط لما يؤدي إلى مفاسد، إضافة إلى استشهادهم بمخالفة المادة (155) من السياسة العامة للتعليم. وتنص على أنه (يمنع الاختلاط بين البنين والبنات في جميع مراحل التعليم إلا في دور الحضانة ورياض الأطفال). كما استشهدوا بمخالفة المادة الخامسة من لائحة تنظيم المدارس الأهلية، ونصها (أن تضم أحد الجنسين فقط، ويستثنى من ذلك رياض الأطفال وفقاً للنظم المتبعة في المدارس الحكومية).

واعتبر المشتكون القرار مخالفة لأمر رئيس اللجنة العليا لسياسة التعليم بالإنابة الأمير سلطان بن عبدالعزيز في خطابه لرئيس تعليم البنات، ونصّه: (أشير لخطاب معاليكم رقم 1186/2هـ/1 والخاص بطلب التوجيه حيال طلب بعض المدارس الأهلية تولي النساء تعليم الأطفال من البنين دون سن الثامنة، نرغب في صرف النظر عن هذه الطلبات وعدم الاستجابة لها.. آمل التكرم بإيقاف وإلغاء قرار وزارة التربية والتعليم المشار إليه، وإجراء ما يلزم في سير هذه الشكوى نظامياً، ومحاسبة المخالف... منتظرا ردكم الكريم..).

هذه صورة السجالات الداخلية، وللمرء تخيّل كيف ينبري الأمراء في الخارج ليتحدّثوا لحلفاءهم في الغرب بأن العائلة المالكة تواجه ضغوطاً من العلماء من أجل وقف مسيرة الإصلاح والتطوير. فليس هناك ملك أو أحد كبار الأمراء الا وله تصريح أو قرار صادر بإسمه حول منع الاختلاط في العمل أو التعليم بين الجنسين، بل غالباً ما تأتي القرارات مشفوعة بعبارة التعرّض للعقوبة.

الصفحة السابقة