في شمال المملكة

الوطن أولوية معدومة

عبد الوهاب فقي

يقاتل كثرٌ من أجل رسم صورة وطن لا يجدون له أثراً في واقعهم، ولكنه دفاع إما عن المتخيّل والمأمول أو عن كيان المصلحة، الذي ما إن يرسمون معالمه حتى تتبدد هويته، لأنهم يتحدثون عن وطن غير واقعي..

يفترض بعض الكتّاب أن مجرد إحياء وتفعيل المشتركات بين المكوّنات السكانية المتعددة من شأنه أن يوفّر أجواء مواتية لولادة وطن دونما حساب للعلاقة بين المكوّنات تلك، والتوزيع المتكافىء للسلطة بينها، لأن المشترك إن لم يحقق فعل الشراكة يصبح مجرد ممارسة عاديّة دونما ثمرة. كتب زيد الفضيل في الأول من يوليو الماضي مقالاً بعنوان (حين يكون الوطن أولاً) شدّد فيه على فكرة جوهرية وهي أن نكران الذات يصبح فريضة من أجل ترسيخ بنى الوطن، ورأى بأن تواري الذات أمام جيشان الاحساس المتفجّر بأمية الوطن يفضي الى انعدام الخوف من نشوء مخاطر تواجه الوطن، وكأنه يفترض بأن الوعي بتلك المخاطر يتوقّف على تلاشي الذات في الوطن، بل سيكون هذا الوعي المؤسس على الاحساس العميق بأهمية الوطن وصعوده في مقابل الذات الخاصة مدخلاً لترسيخ القيم المشتركة، وتعميق القواسم المتفق عليها، والنتيجة بحسب رأيه (سنُغلـِّب جانب اللين على الشدة، وحُسن الظن على الشك والريبة، حال مناقشتنا لبعضنا البعض، ووقت معالجة مفاصل خلافاتنا المتنوعة).

حسناً، ولكن هذه المقاربة تسهو عن تجارب المكوّنات السكانية السابقة والحالية مع الدولة السعودية، وتفترض أن مجرد الحديث عن مشتركات كمولّد لوطن يجعل منه كياناً قهرياً يفيد منه أناس ويخسر فيه أناس كثيرون، لأن الحديث عن مشتركات هو مرافعة المهمّشين، الذين يبحثون عن سبيل للاندماج في إطار نبذي، بقي محتكراً لكل مقدرات الأمة سلطة وثروة، تحت ذريعة التمايز العقدي (يقول الأمير نايف: دولتنا سلفية ونفتخر بذلك)، والتمايز الإثنولوجي والسياسي (ملك الآباء والأجداد). المشترك كان منبوذاً من الأقلية الحاكمة وليس الأغلبية المقهورة والمحكومة، بل إن ثمة تعبيرات في الثقافة الشعبية مصدرها المركز النجدي الحاكم ترمز في جوهرها الى نبذ المشترك وتعزيز التمايز.

ينطلق الفضيل من تلك الفكرة التأسيسية لوضع فرضية أن الملك عبد الله يعتنق منهج تعميم المشترك لناحية إرساء مفهوم (الوطن للجميع) والذي يفرض التقارب وتعزيز آليات التعايش، ونبذ كل محرّضات الفرقة والخلاف (ولا يتأتى ذلك إلا باحترام ذات وفكر الآخر، والقبول المبدئي بإمكانية صوابه..وبالتالي فليس لأحد حق الوصاية على أحد إنطلاقًا من فوقية مناطقية، أو إيمان فكري باكتناز الصواب المطلق). في المبدأ، لا يختلف إثنان من الأغلبية المتضررة من الكيان النبذي السعودي على مثل هذه الأفكار الخلاصية، ولكن سيختلف كثرٌ مع الفضيل ان افترض أن مثل هذه الافكار قد دخلت حيز التنفيذ في أي مرحلة من مراحل الدولة السعودية وصولاً الى عهد الملك عبد الله وحتى اليوم.

إن مجرد الحديث عن وجود مشتركات بين المكوّنات السكانية لم يحلها الى حقائق أو أنها أصبحت واقعاً، وخطة عمل، ومشروعاً. فشعار الوطن للجميع لا يرفعه الملك عبد الله كبرنامج سياسي يراد منه تصحيح الخلل التاريخي الذي شهدته الدولة السعودية، ولا يعني استيعاب الفئات المهمّشة في العملية السياسية، وتحقيق مفاهيم التوزيع المتكافىء للسلطة والثروة بين المكوّنات الاجتماعية المحلية. في واقع الأمر، أن ما يحذّر الفضيل من وقوعه في حال تفجّر الأنانيات وتراجع مركزية الوطن في الوعي العام ليس بعيداً، وإن التهويل بآثاره تنبيهاً لا يلغي احتمال حصوله، وإلا فإن واقع الحال ينبىء عن نتائج خطيرة في اللحظة التي يبدأ فيها انفراط العقد بقرار دولي. فما حصل في العراق قابل لأن يتكرر في السعودية، لأن فرضية وجود نعم السلم الأهلي لدى المجتمع ليست بالضرورة قائمة، ولم تكن مشكلة العراق مثلاً غياب السلام الأهلي، بل إن هذا المفقود في مرحلة ما لم يكن سوى نتيجة لمقدمات سابقة، من أبرزها الاستبداد السياسي وبطش الأقلية الحاكمة، وبرامج تدمير متسلسلة لبنى الثقافة الوطنية، الى الحد الذي أصبح معه السلم الأهلي مستحيلاً، بمعنى أن الفئة الحاكمة نفّذت عملية تقويض منتظم للمشترك بين المكوّنات السكانية العراقية، الأمر الذي دفع الأخيرة للتشبّث بخصائصها، وهويتها، وذاكرتها الخاصة، وثقافتها.

ثمة مقارنات متداولة بين السعودية والعراق لناحية إثبات جدوى النموذج التعايشي في السعودية، ويتغافل هؤلاء عن عقم المقارنة نفسها لأننا حين نضع العراق نموذجاً/ نتيجة يضعنا أمام حدّين: إما وإما، بينما يجري اغفال مساحة واسعة تزخر بالنماذج المتنوّعة والمتفاوتة في تعايشها أو تنافرها، فليس بالضرورة أن يكون العراق النموذج الوحيد والأسوأ، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالإنقسامات الاجتماعية، لأن ثمة تعايشاً من نوع ما بين مختلف الأطياف السكانية في العراق غير ملحوظ في دول عربية أخرى بما فيها السعودية، مثال ذلك التزواج في العراق دون اعتبارات مذهبية أو عشائرية أو حتى مناطقية، وهو أمر لا نجده في السعودية، حيث لا تزال قيود صارمة على عقود الزواج مثل (عدم تكافؤ النسب)، و(حرمة زواج السنيّة من شيعي وبالعكس)، وهي قيود لا تزال سارية المفعول، بل ازدادت ضراوة في السنوات الأخيرة، ما يشير الى أن المشترك لم يعد هاجساً أو حافزاً على التقارب بين المكوّنات السكانية، فضلاً عن السعي لجهة توليد المشترك أو إحيائه. على العكس من ذلك، فإن ما قامت به الدولة السعودية منذ نشأتها عام 1932 أنها كرّست حالة الانقسام والتمايز، وأجهضت فرصة بل فرص توظيف المشتركات بين السكّان لجهة بناء الهوية الوطنية، ولأن الهوية لا تبنى لمجرد وجود مشتركات ثقافية أو إجتماعية وعقدية واقتصادية، بل لابد أن تكون المشتركات دافعاً لتحقيق مبدأ الاندماج الشامل سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

مكمن الخلل في المجادلات الجارية حول الوطن بكل موضوعاته (الهوية، الولاء، الانتماء..)، أنها تنطلق من فرضية انهماك الدولة في مجهود بناء الهوية الوطنية على مدار عقود، فيما أخفق المجتمع في التجاوب مع هذا المجهود، حتى كأن بأحد المنافحين عن وطنية الدولة يومىء الى مقولة لقمان الحكيم لإبنه: بئراً تشرب منه، لا ترمي حجراً فيه، أي أن النعم التي حظي بها المجتمع لم يقابلها بالولاء للدولة/الوطن، على أساس زعم وجود علاقة حميمية في التجربة التاريخية السعودية بين الدولة والوطن.

حين نقترب من الواقع، وندع وراءنا الأفكار المثالية حول الوطنيات المصنّعة لخدمة مصالح مرتبطة بالدولة بدرجة أساسية وربما وحيدة، فإن ثمة مشاهد عارية تكشف عن حقيقة مشاعر الناس حيال الكيان الجيوسياسي الذي يعيشون فيه، وهل هو حقاً وطن يدينون له بالولاء والحب، أم هو مجرد كيان وجدوا أنفسهم فيه مرغمين على العيش فيه بشكل معين، وفي هيئة ما، وضمن علاقات محددة.

في مقابلة مع عضو لجنة المناصحة الدكتور فاطمة السلمي دراسة نشر خبر مقتضب عنها في صحيفة (الشرق الأوسط) في 2 إبريل الماضي ترصد غياب الانتماءالوطني بين نساء في (المناطق الحدودية). السلمي وهي عضو لجنة المناصحة النسائية، وأستاذة في أصول التربية الإسلامية في جامعة الملك سعود، رصدت من خلال متابعة أسر الموقوفين والمطلوبين أمنيا في السعودية، ودراسة الأوضاع الاجتماعية، تبين مدى حجم غياب الانتماء الوطني في المناطق الحدودية السعودية، من خلال متابعة أسر عدد كبير من المطلوبين في تلك المناطق.

قامت السلمي بدراسة ميدانية لعدد من مدارس الفتيات لا تتجاوز أعمارهن الـ20 عاما في المناطق الحدودية - مثل عرعر وحفر الباطن وينبع ورفحاء، وغيرها - إتضح رفض عدد كبير من طالبات المدارس الحدودية ممارسة أي أنشطة لها علاقة بالوطن، إلى جانب حرصهن على إتلاف الممتلكات العامة في المدرسة، كإهمال المياه وتعمّد إهدارها، إلى جانب إعطاب المحولات الكهربائية وإتلاف المزروعات.

وفي النتيجة، توصّلت السلمي في دراستها المديانية لقريبات المطلوبين والموقوفين أمنياً الى أنهن انخرطن في التطرّف من خلال زعزعة المعتقدات العقائدية والفكرية عبر مواقع التجنيد الإلكترونية من خلال الموقوفين والمطلوبين أنفسهم، بمناقشة القضايا المطروحة كافة، وذلك كله في سبيل تأمين وسائل دعم مشروعة من خلال الزوجات والشقيقات والأمهات، لتتضمن عمليات الدعم النسوي في الفكر المتطرف البحث عن المواقع الإلكترونية المشبوهة، أو طباعة البيانات المطلوبة وتوزيع المنشورات.

وأفادت الدكتورة السلمي بأن معتقدات نساء المطلوبين من زوجات وشقيقات تتباين ما بين تكفير رجال الأمن ومنسوبي الدولة في المؤسسات الحكومية، مستشهدة برفض إحداهن الاقتران برجل أمن (لكفره)، باعتباره منسوباً إلى إحدى المؤسسات الحكومية، إلى جانب تأثير التعصب القبلي في عملية تعزيز الفكر المتطرف، مشددة على خطورة التعصب القبلي الذي قاد بشكل كبير إلى التطرف من خلال الانتماء القبلي وحمل السلاح، وكيد القبيلة للأخرى في مناسبات اجتماعية.

وكما يبدو، فإن دراسة السلمي تنطوي على إشارات خاطئة، ومن أبرزها إن تركيز الحديث عن ضعف ولاء السكان في المناطق الحدودية ضعيفاً أو حصره في النساء يغفل حقيقة أن الولاء لدى غالبية السكان هو كذلك ضعيف، وإن لم يجد فرصة تظهيره واستعلانه، بخلاف تلك الفئة التي أصبحت في مركز الاستهداف الإعلامي في السنوات الاخيرة. فقد عثر الملك عبد الله بنفسه على ضعف ولاء الناس لما أسماه بالوطن في السنة التي بدأ يطرح فيها الشعار الوطني بدلاً من الشعار الديني/المذهبي، حين شكى له أولياء أمور الطلاب إبان ولايته للعهد فرد عليهم بأنه سمع أشياء كثيرة ولم يسمع منهم شيئاً عن الوطن، كما كان يخاطب الوفود التي تأتي إلى مجلسه بتكرار كلمة الوطن، وكأنه استشعر غيابها في ثقافة الناس، لأنها غابت لعقود من نهج الدولة وسياساتها.

كانت إحدى الردود على الخبر الذي نشرته الصحيفة حول دراسة السلمي ملفتة من جهة كون كاتبها أراد الدفاع عن سكّان الشمال بطريقة خاصة حين ذكّر (أن منطقة الحدود الشمالية بالذات كانت المنطقة الوحيدة التي خلت قائمة الـ 36 الشهيرة من أي من أبنائها.. وأن العديد من أبناء رفحاء وشبابها قد قتلوا ـ أو أصيبوا ـ طيلة العشرين سنة الماضية أثناء حمايتهم لحدودنا الشمالية كي تنعم هي وأمثالها بالأمن والاطمئنان وتجد الفرصة لطلب العلم الذي اكتشفنا أنه مسخرٌ للنيل منا).

قيل بأن الدكتورة فاطمة السلمي نفت ما جاء في تقرير الصحيفة جملة وتفصيلاً، ولكن ذلك لايلغي حقائق على الأرض، فالأصل في هذا البلد ليس الولاء للوطن، الذي لم يسمع به أحد الا قبل سنوات، وأن الأمثلة التي أوردتها السلمي في دراستها لإثبات عدم ولاء النساء أو سكان الشمال يمكن أن نجدها في مناطق أخرى، إن لم يكن أغلب المناطق. خلاصة الأمر، أن مطالبة السكان بموالاة كيان غير قائم يعتبر عبثاً، فهل يحب الناس شيئاً معدوماً؟.

الصفحة السابقة