د. مضاوي الرشيد

ملاذ الديكتاتوريات

السعودية وعدوى مصر

د. مضاوي الرشيد

لسنا تونس في البداية، واليوم لسنا مصر.. عبارات مرتجفة على شفاه الدكتاتوريات الكثيرة المتبقية في العالم العربي. من يتشدق بها تفوته المعطيات المشتركة رغم الاختلافات الظاهرة. وان لم تتوحد الدول العربية بديمقراطياتها وقوانينها العادلة، فهي بالفعل قد توحدت بأنظمتها البوليسية، وفسادها المستشري، واستهتارها بحقوق الإنسان. تكثر القواسم المشتركة، وان كان هناك من تميز، فلقد تميزت مصر عن غيرها بأمرين: أولا الثورة الفكرية التاريخية في القرن العشرين؛ وثانياً ثروتها البشرية الهائلة.

اليوم نتعلم من مصر ابجديات الاحتجاج السلمي، وهي ثورة مصر الجديدة التي لن تكون حالة فريدة شاذة غير قابلة للتكرار.. لأن تجارب مصر السابقة هي دوما قدوة للغير سيستلهمونها ويقلدونها ويستوعبون تكتيكها ويفعلونها في محيطهم المحلي؛ تماما كما كانوا يفعلون في السابق. سيشيدون ميدان تحرير في كل قرية ومدينة، وسترون العدوى المصرية تنتقل وتمتد، تماماً كما كانت الثورات الفكرية السابقة تفعل وتشتعل في أكثر البيئات بعداً عن القاهرة ودمنهور والاسكندرية والسويس.

لا لم نقل أنكم (شعب جبان). من قال هذا هو عدو ثورات مصر السابقة وافكارها التي تفجر الركود والمستنقعات الساكنة في الوطن العربي. هذا العدو المتربص يخاف مصر اليوم كما كان يخافها في السابق. إنه يريدها جبانة جائعة حتى لا تقلق سكونه وسكون شعبه. ثروة مصر بشعبها، وليس بمواد خام. انها ثروة حقيقية لا تنضب او تستبدل لحظة وجود بدائل. هي الثروة الدائمة التي لن تختطف اذ انها ليست بحاجة الى تأميم او اعادة الملكية. إنها ثروة شبابية متجددة لا تخضع لمفهوم السوق والبيع والشراء.

ما هي تداعيات الحدث المصري على المنطقة العربية؟

الاحتجاج السلمي ثقافة جديدة لا تعرفها السعودية، بل هي تمنعها وتحاربها، وتسنّ القوانين ضد،ها مستندة الى تفويض الهي يعتقد الكهنوت السعودي انه يفهمه دون غيره من الشعوب المسلمة. وعنده اجتهادات غريبة عجيبة عن بعبع الفتنة؛ وفي مخزونه مصطلحات الخنوع المطعمة بالتراتيل الدينية التي يفعلها دوما في مواجهة التغير نحو الافضل حيث انه يعلم شعبه ابجديات السمع والطاعة حتى في السجون عندما تكسر الظهور، او في البنوك عندما تسرق الاموال، فالكل يجب عليه غض البصر حتى تبرأ الذمة.

ستصطدم موجة ثقافة مصر الجديدة بثقافة السعودية المبنية على مزيج من الثقافة الشعبية والدينية تحت امرة النظام التسلطي والشمولي. ما زلنا نعتقد ان شبابنا يحتاج لأن يكسر حاجز الخوف. نعم رجال الجزيرة العربية يخافون اليوم أن يخرجوا في مظاهرة سلمية احتجاجاً على سيل جرف نساءهم وأطفالهم وممتلكاتهم فخرجت امرأة واعترضت. نساؤنا هنّ من سيتعلم من ثورة مصر الجديدة، وان كان شباب مصر هم ثروتها فنساؤنا هن ثروتنا الجديدة!

هنّ لا يعرفن الخنوع، وقد نمت شخصيتهن بعيدا عن غطرسة صاحب القرار.. لذلك جاءت هذه الشخصية قوية مدوية لا تهادن الظالم. أما رجالنا فحتى تنزاح عنهم أوبئة الخوف سينطلقون يتلعثمون ويطأطئون رؤوسهم، يتزلفون عند عتبات السلطة علها تجود عليهم بكسرة من موائد فانية فارغة حتى من المضمون. خلال أسبوع خرجت امرأة بعد صلاة الظهر لتهتف هتافات لا تروق للسلطة، وبعدها بأيام خرجت أخرى تقابل الأمير بثوبه الأبيض متعطراً يستمع لشكاوى النساء ويعد باجراءات سريعة حتى لا تتكرر كوارث السيول المتدفقة.

قالوا عنها امرأة، ولكنها ليست ككل النساء. جاءت بنبرة عالية متعالية مشحونة بعاطفة صاحب الحق، فانبهر الرجال من حولها. استدارت أعينهم، وارتفعت حواجبهم، وراحوا يثرثرون ويتلون تراتيل التهدئة. يطوفون حولها بغية تهدئة عدوى مصر الثروة والثورة، ولكننا نستطيع أن نجزم بأنها وصلت وأصابت النساء قبل الرجال.

كنساء.. لن نقبل ان يكون بيننا جبان، وان لم يستجب رجالنا لثقافة الإحتجاج السلمي، فهذا يرجع الى عوامل منها انهم لم يتعلموا أبجديات العمل السياسي، لان نظامهم قطع عليهم وقطعهم عن ثقافة العصر الحديث.

كل ما يريد منهم هو العنف والتفجير ولغة السيف عندما جندهم لحروبه الشخصية مطلع القرن العشرين ومن ثم صدرهم الى خارج الحدود حاملين نفس السيف الأول، ولكنه يعلم أن ثقافة التفجير هذه هي من تحصنه من الغضب الشعبي السلمي؛ فهو يفضّل لغة المؤخرات المفخخة، على لغة الإعتصام! لان في الاول فرصة للشجب والقتل وسحب البساط من تحت أقدام من يقوم بهذه الاعمال، ولكن ان اعتصم شاب في ميدان، فكيف يبرر قمعه وقتله أمام رأي عالمي وداخلي لم يعد يقبل بالبندقية تصوب على صدور شباب مسالم رافض للقهر.

ملاذ الدكتاتوريات العربية

استضافت السعودية الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي وزوجته على خلفية هروبه تحت ضغط شعبي عارم، وبررت قرارها مستحضرة مفاهيم العروبة والضيافة التي تأبى أن ترد المستجير وتقفل الابواب في وجهه! وفي هذا تحريف لمبادئ وأصول إغاثة المستجير في التراثين العربي والاسلامي. فكان استحضار هذه الثقافات واسقاطها على حالة بن علي استهتاراً بها وتقليلا من شأنها حيث للمستجير مفاهيم ترتبط بأصول عريقة وممارسات تاريخية حيث لا نعرف في تراثنا ان العرب آوت القتلة والمجرمين والخارجين على القانون ووضعتهم تحت الحماية ووفرت لهم القصور.

وان كانت الثقافة وقفت ضد ذلك الا ان الممارسات عبر التاريخ ربما كانت قد اعطت النظام السعودي سابقة يستحضرها عندما أجار هارباً من عدالة شعبه بعد ان نكل به وسرق خيراته واصبح وكيلاً لاعمال التجسس والرقابة يقوم بها مكلفاً حتى تحولت تونس الى صرح عتيد يخدم مصالح الآخرين ومنهم النظام السعودي والذي جعل من تونس المكان الذي تنطلق منه قوانين التقييد على الحريات والاعلام من خلال مؤتمرات تمولها السعودية وخاصة وزارة داخليتها.

خلقت المصالح المشتركة لحمة عضوية بين بن علي والنظام السعودي فككتها احداث تونس وثورتها السريعة، فما كان من النظام الا ان احتضن بن علي حالة هروبه، وكأنه طريدة لفظها شعبها وتخلص منها خلال اسابيع معدودة. وربما يظل بن علي في السعودية التي اجتمع تحت رمالها عدد غير قليل من السابقين الذين وجدوا في السعودية ملاذاً آمناً.

ليت النظام السعودي لم يستحضر تراث العرب وضيافتهم. فالمجرم الهارب من قومه وقبيلته ومنطقته والذي ارتكب عملاً قبيحاً ضد مجموعته لا تؤويه العرب الا اولئك الذين فقدوا معنى العروبة وثقافتها. والنظام السعودي يعرف مصير هؤلاء فهم شريدة تتيه في صحارى العرب تفقد قومها وحمايتهم كما تفقد نسبها وأصلها ان لم تلحقه مجموعته وتمسك به لتحاسبه وتقتص منه فأي قيم عربية هذه التي تؤوي الظالم والمجرم؟

كان على النظام السعودي ان يستحضر قيمه الخاصة به أملتها سياسة المصالح المشتركة ومفاهيم وحدة الدكتاتوريات. بن علي ليس بمظلوم او مسلوب الحق بل هو ظالم لا يمكن للقيم القديمة ان تفسح له مجالا للمأوى. القيم السعودية هي من حدد الممارسات السابقة للنظام وسياسته تجاه الهاربين إليه من قومهم. خذ مثلاً توسيع دائرة مفاهيم الاستجارة السعودية لتشمل عيدي امين الاوغندي؛ وجنرالات باكستان الذين احتضنتهم السعودية في قصور معروفة. وفي اواخر الخمسينات وبعد الصراع بين غالب امام الاباضية في الداخل العماني وسعيد بن تيمور سلطان مسقط، استضافت السعودية الإمام غالب نكاية بسلطان مسقط على خلفية الصراع على البريمي ونفطها. وقبل ذلك في الاربعينات استضافت السعودية رشيد عالي الكيلاني ليس تيمناً واستبشاراً بثورته على الاستعمار البريطاني وانما نكاية بملوك العراق الهاشميين حينها، فلا يمكن للسعودية ان تكون ملاذاً لقوة تقدمية في المنطقة وهي الخاضعة لهيمنة بريطانية في طريق استبدالها بهيمنة امريكية.

وتتالت حالات الاستجارة في الستينات عندما آوت السعودية امام اليمن المخلوع ليس تقريباً بين مذاهب اهل السنة والزيدية وانما نكاية بعبد الناصر والجمهوريين. وفي التسعينيات آوت السعودية امير قطر المبعد من قبل ابنه الذي أراد ان ينفض عن بلاده غبار السكون والتحجر، فآوته السعودية حرصاً على اقتناص فرصة لاعادته واعادة قطر الى قمقمها حتى لا تتحول الى ما تحولت اليه خلال سنوات قصيرة وتصبح محوراً له شأن داخلي واقليمي.

وربما تفتخر السعودية بضيافتها عندما لجأ اليها اكثر من خمسة الاف لاجئ عراقي في اوائل التسعينات على خلفية اجتياح صدام للكويت وكانت الضيافة السعودية لا تعتمد على فتح الابواب لشيعة اهل البيت فوجد هؤلاء انفسهم في مخيم صحراوي ينتظرون ترحيلهم الى جهة ثالثة فلا عامل انسانيا ولا قيم عربية استطاعت ان تكسر جدران المخيم واسلاكه الشائكة او تقوض مبادئ الضيافة السعودية.

لقد استعدت السعودية باستضافتها لجلاد تونس شعب هذا البلد ونخبه الثقافية والسياسية وكرست موقعها كملاذ للمطرودين والهاربين من العدالة وهي بذلك مدعومة من المجتمع الدولي وخاصة الاوروبي الذي وجد في بن علي مطية لمصالحه ولم يرفع احتجاجاً واحداً على قهره وتنكيله بشعبه. ستظل السعودية تحت وطأة كابوس بن علي الذي سيتحول الى صفحة جديدة في تاريخ حافل من الاستجارة والضيافة التي لا تشرف المضيف. واخيرا ليس لنا الا ان نقول ارفعوا ايديكم عن قيمنا المعروفة حيث لم تكن بلادنا يوماً ما بؤرة يحج اليها المجرم والقاتل والسارق.

القدس العربي، 6/2/2011، 23/1/2011

الصفحة السابقة