المحافظون السعوديون الجدد!

عبدالله العودة

(كلنا خدعنا ولا نخجل أن نقول خدعنا بدعاوى الحرية التي يتعطش إليها كل رجل حر وإلى فرص النجاح في العالم المفتوح على كل الأصعدة، لكنني بعد سنين طويلة وأنا أتأمل هذه القافلة اللبرالية التي استشرت في كل البلاد العربية، إلى أين تسير؟. ما هي الوجهة؟. فلا أراها تخدم في نهاية المطاف إلا المشروع الصهيو ــ أمريكي الذي يسعى لتفتيت بلادنا وتمزيق وحدتنا والاستيلاء على خيرات بلادنا، هذا هو المآل في مساره العام).

هكذا يعبر أحد (الليبراليين) المهتدين إلى طريق اللاحرية، حين أصبحت الحرية غواية سياسية، وحين وصلت الحرية لتهديد بلاط (السيد الكبير) الذي يحوم حوله السدنة والمنتفعون الذين يرون وجودهم من وجوده، ويعدون خيراتهم من خيراته، ونهايتهم بنهاية استبداده.

الكاتب خالد الغنامي يكتشف في نفس المقال – وفقط بعد الثورات العربية – أن (الليبرالية) التي جاءت بمفهوم الحرية هي (مكر يهودي) حسب تعبيره. ولكي أوضح فقط بعض النقاط المهمة في المقطع السابق من مقاله، أظن أن المصداقية تحتّم أن أؤكد أن طرح الكثير من (الليبراليين) في السعودية ليس له علاقة بحال من الأحوال بقيمة (الحرية) السياسية التي تجتاح مفاهيمها العالم العربي، بل في كثير من الأحيان كان (الليبرالي) في أحسن الأحوال إما ساكتاً مغمغماً أو مؤيداً مستثمراً، فالقول بأن الكاتب الغنامي مثلاً اكتشف خطر (الحرية) التي كان يدعو إليها هو مثل قول بائع الطماطم أنه اكتشف فساد وضرر الباذنجان!، فالحرية التي كان يعرفها لم تكن تتحدث عن مشاركة الناس في صنع القرار، ولا حرية التعبير عن الرأي في بلدٍ مستبد، ولا عن أن الاعتقال التعسفي والسياسي يخرق أبسط حقوق الإنسان، ولا عن الحقوق ولا عن الإصلاح السياسي.

الحرية السياسية لم تكن في السعودية طرحاً ليبرالياً من الأساس، بل كانت في كل دول العالم ومؤخراً في العالم العربي على وجه الخصوص قيمة شعبية سياسية لا تصنيف لها، وهذا ما أثبته حراك الشارع العربي في أكثر من مكان. إن ما يريد بعض الكتاب التراجع عنه هو شيءٌ آخر لم يدعوا إليه، ولم يعرفوه أصلاً.

وفي ذات الاتجاه، كاتبة أخرى بعد قرارت الملك عبدالله في السعودية وراتب الشهرين تذمرت من تخوف الليبراليين من المشايخ أو التيار المحافظ، لتكتشف هي الأخرى أن (المشايخ يستاهلون) ويستحقون كل هذا الاحتفاء، فالمخرج (عاوز كده)!، وكأن الحرية المحرمة في كل هذا المشهد هي حرية (الناس) بكل أطيافهم وتياراتهم وتنوعاتهم، فهي الفاكهة المحرمة التي يختفي وراءها كل مكرٍ يهودي وصهيوني، وبعد الثورات العربية وفورات الحرية، صار بعض أولئك الذين كانوا ينتقدون (سد الذرائع) أدواتٍ مختلفة لسد ذريعة الحرية، وسد ذريعة الحقوق، وسد ذريعة المشاركة الشعبية.

هؤلاء هم المحافظون السعوديون الجدد. هم لم يكونوا محافظين بالمعنى المدرسي والعلمي، ولم يكونوا محافظين بالمعنى المنهجي والثقافي، بل يطرحون أنفسهم خارج (المدرسة التقليدية)، لكن الخوف من (حرية) الناس ومشاركتهم السياسية دفعهم إلى أن يكونوا (محافظين) بالمعنى السياسي، ولأنهم حديثو عهدٍ بذلك فهم (جدد).

وإذا كانت هذه المحافظة (سياسية) بامتياز، فهي لا تقدم مفهوماً ثقافياً معيناً، ولا إصلاحاً اجتماعياً رائداً، بل همها (درء فتنة الشعوب عبر دعم فتنة الحكام)!، ودرء مفسدة الرئيس المنتخب، عبر دعم الحاكم المستبد والمتغلب؛ ودرء ضرر التدخل الخارجي العالمي لأجل الشعوب عبر دعم التدخل الخارجي العالمي لأجل الحكام.. فكل شيء يجوز لأجل مصلحة الحاكم، الذي هو نفسه يحرم ذلك لأجل مصلحة الشعب.

الغرب الذي يفتخر أكثر حكام العرب بالتعامل معه وتشكيل علاقات تاريخية وطيدة والارتباط به عبر (زواج كاثوليكي)، هو نفسه الذي تخاف الحكومات من وجود أواصر وروابط تصله بشعوبها، وبصوت الناس المبحوح، فالغرب والتعامل معه تهمة للشعوب، ومصدر حنكة وفخر للحكام، كما يرى المحافظون السعوديون الجدد.

المحافظون السعوديون الجدد ليسوا ليبراليين، ولم يكونوا يوماً كذلك بالمعنى المبدئي، ولم يصبحوا إسلاميين، لكنهم في منزلة بين المنزلتين، منزلة صممها (الحاكم العربي) لإنقاذ البلد من الإصلاح، وسد ذريعة الحرية، ودرء فتنة المشاركة الشعبية، وحماية هوية المستبدين، فهي منزلة بين المحافظين والإصلاحيين الذين سوياً ينتقدون السياسي لتضييعه الحقوق التي أمر الله بها، ويطالبونه بالعدل ورفع الظلم وإخراج المعتقلين السياسيين، وحفظ حق الناس في العيش بحرية وكرامة. ولأن المحافظين والإصلاحيين سوياً لا يؤدون الدور المرغوب، كانت هذه المنزلة الرفيعة بينهما لتخدم البلاط بطريقة قد تتسامح مع نصف محافظة ونصف إصلاح، ولكنها تتشنج تجاه كل دعوة لحرية الناس وحقوقهم السياسية.

المحافظون الجدد هم صناعة سعودية محلية خالصة.. و (والله ما مثلك بهالدنيا بلد)!

عن موقع المقال، 4/10/2011

الصفحة السابقة