المخبوء الكارثي وراء الإنخراط السعودي

أفغنة المسألة السورية

د. فؤاد ابراهيم

د. فؤاد ابراهيم

المقاربة السعودية للثورة السورية تتجلى هذه الأيام من خلال العناصر التالية: حملات جمع تبرعات علنية، فتاوى تكفير النظام السوري والطائفة العلوية، تشجيع عناصر على الهجرة والجهاد، خطب التعبئة العامة بنفس عقدي غرائزي، غطاء رسمي ودعوات شعبية ورسمية لتسليح المعارضة السوريّة..هي، بمعنى ما، نفس العناصر التي كانت حاضرة في المسألة الأفغانية في ثمانينات القرن الماضي، وهي تحضر في المسألة السورية، مع فارق أنها اليوم قد تفضي الى حرب إقليمية شاملة..

عملية اختطاف الثورة السورية السلمية لم تتم بقرار داخلي من الشعب الذي يخرج في تظاهرات سلميّة، ولا بقرار من المعارضة السياسية التقليدية أو حتى الناشئة حديثاً على إيقاع الريتم الثوري السوري، وإنما جرت وعن سابق إصرار وتصميم بملء الإرادة الخارجية الإقليمية والدولية.

محاولات إستدراج الثورة السورية الى العنف بدأت في مرحلة مبكّرة، وكلما بقي النظام متماسكاً، جيشاً وحكومة، كلما ازدادات وتيرة التحريض وتدوير الزوايا بحثاً عن عناصر تفجير كامنة يمكن توظيفها في رهان خلخلة النظام وتفكيكه، عبر عسكرة الثورة رغم ما تنطوي عليه من عواقب وخيمة على حاضر ومستقبل الوطن السوري..

ثمة نزعة شديدة القسوة لجهة إسباغ طابع مأساوي على ما يجري في سورية، واختزال (الثورة الشعبية) المطالبة بالحرية والديمقراطية الى مجرد (مأساة إنسانية) تتطلب مجرد (ممرات) لمرور المساعدات..ولذلك، كان مشهد الدم عنصراً مطلوباً لاستكمال شروط التأليب الشعبي والإقليمي والدولي، وتوفير مسوّغات التدخّل الخارجي..

ما يزيد حنق النظام السعودي ومناصريه هو اعتماد بعض الدول سياسة النأي بالنفس، التي بدت كما لو أنها خيار ثقافيً وشعبي على الأٌقل بالنسبة لأولئك الذين تكشّفت لديهم بعض أسرار الاستحواذ السعودي ـ القطري على الثورة السورية السلمية. محاولة تصوير الشعوب والدول المتحفّظة على عملية الاستحواذ تلك بأنهم إمّا أعداء أو متبلدي الشعور جزء من الرؤية السعودية بما في ذلك الدينية منها للآخر..

ما تقوم به السعودية في سورية لا يقل عن عملية إخماد للثورة فيها وإنزال العقاب بقادتها الحقيقيين، المعارضين للعسكرة والتطييف والتدخل الخارجي..في حقيقة الأمر، إن المقاربة السعودية تقوم على إقحام الثورية السورية في دوامة الحرب الطائفية بهدف شدّ العصب السني في مقابل الخصم العقدي والسياسي الممثل في ايران ومعسكرها الممتدة الى لبنان مروراً بالعراق وسورية..

هناك دون ريب محاولة لتقريب خطوط المواجهة بحيث تصل الى نقطة يتجابه فيها مقاتلو القاعدة مع مقاتلي حزب الله، خصوصاً بعد أن حدثت قطيعة بين الجيل الثالث من التنظيم عن قيادته في أفغانستان، وبات خاضعاً تحت تأثير الخطاب المذهبي في شكله الطائفي..وقد كشفت رسائل القائد السابق لتنظيم القاعدة أسامة بن لادن، والمسرّبة مؤخّراً عن الانفصال شبه التام بينه وبين قيادات الفروع التي برزت بعد تجربة الجهاد الأفغاني وبعد العام 2003، حيث تولى أو مصعب الزرقاوي شؤون القاعدة في العراق وبلاد الشام ودول شبه الجزيرة العربية وصولاً الى اليمن.

يتم استحضار لغة دينية متعالية في الخطاب السعودي، ويقدّم الحكام السعوديون أنفسهم باعتبارهم حماة السنّة، على سبيل المصادرة وأيضاً لتفجير المخزون الغرائزي..وهو إجراء لم يعد يبعث على الحيرة بعد الآن، إن مجرد الاستعانة بإسطورة يستسيغها الأنصار، حيث تأخذ كما في الثقافة الكنفوشيوسية شكل مبدأ (توضيح المصير)، ولذلك لا غرو أن يتصعّد الخطاب الديني الى ذروة التفرّد بالحقيقة المطلقة التي تبيح كل فعل بما في ذلك الكذب بإسم السماء.

تصبح كل الروايات السعودية عن الثورة السورية مختومة وغير خاضعة للفحص من قبل الأنصار، بل ثمة من أوحى إليهم بأن مجرد التفكير في مراجعة الرواية السعودية، فضلاَ عن نزع الثقة منها، تجعل منك (عميلاً إيرانياً)، أو (شبّيحاً). نظام الحماية المفروض على الروايات يحول دون السماح لك بمجرد رفض المتاجرة بدماء السوريين، التي باتت جزء من ملهاة ساخرة يديرها من لا عهد له بالحرص عليها.

التاريخ الذي يكتب الآن عن الثورة السورية ليس بالضرورة نسخة نقيّة، فثمة رواية يملك الثوّار السوريون وحدهم حق تعميمها، فليس كل ما يروى عنهم هو بالضرورة من قبيل التفويض، أو حسن الاسستخدام، فالثوار الأصيلون يدركون نوع التشويه الذي يطال الثورة حين تفتأت عليها قوى رجعية لا تكترث للثورة إلا بما يحقق احتياجات الدعاية. يقول الثوريون القدامى لن تحارب السعودية من أجل حريتنا، إنما تحارب خصومها بدمائنا ومن أرضنا.

تخفيض الثورة الى مجرد حالة إنسانية يجري التعامل معها بشفقة، أسوة بكل المآسي الإنسانية (المجاعة، الجفاف، التصحّر، السيول..) التي شهدتها مناطق متفرقة من العالم، ببساطة لأن النظام السعودي لا يريدها ثورة من أجل الديمقراطية والحرية، فثمة هلع ينتاب النظام من تكاثر الديمقراطيات المحيطة به، ولذلك لا غرابة في إصرار الحكّام السعوديين على تظهير البعد المأساوي في الثورة السورية، وتكثيف الصورة الدامية فيها..لم يعد مدهشاً أن يسيل لعاب القادة السعوديين للعبة “المجازر” التي قد تقع أحياناً عن سابق عمد، لتثبيث الصورة وتجميد اللحظة المأساوية في الوعي الشعبي، وفي الإعلام الدولي..

خلع ضلوع النظام السعودي المباشر في الثورة السورية قدداسة من نوع ما غير مسبوقة عليه، ولكن من قبل من هم باتوا مؤهّلين بدرجة عالية لخوض الحرب الأهلية في سورية، أما بقية الفئات الإجتماعية فلديها ما يبرر ازدراء كل أشكال التدخل الخارجي..وأيضاً القداسة السعودية المصنّعة مالياً.

حين قررت الولايات المتحدة التخلي عن فكرة التدخل العسكري في سورية، كانت السعودية وحدها التي عارضت وقررت الذهاب الى أقصى ما يمكن أن تصل إليه قدرتها على خلخلة بنى النظام السوري. حتى عملية التسليّح التي ناصرتها واشنطن في البداية وجدت بأن انفلاتها سوف يكون كارثياً على منطقة المصالح الحيوية الأميركية الممتدة من العراق مروراً بالكويت وصعوداً الى الأردن وسوريا ولبنان وفلسطين المحتلة. أفشى دبلوماسيون أميركيون الى نظرائهم العراقيين بأن العمليات التي يجري تنفيذها في سورية تفرض علينا مراجعة الاستراتيجية العامة التي نتبعها في المنطقة، لأن ثمة ما يجمع النظام السعودي والجماعات المسلّحة (والقاعدية على وجه التحديد) ما يهدد المصالح الأميركية في المنطقة..لاشك أن الهدف المشترك السعودي الأميركي الممثل في إسقاط معسكر الممانعة يبقى أولوية قائمة وثابتة، إلا أن المشكلة تكمن في قدرة النظام السعودي على ضبط مقاتليه الذي ينتمي بعضهم للقاعدة. قائد في المعارضة السورية نقل في آذار (مارس) الماضي: أن محامي قادة القاعدة في سجن المباحث العامة بالرياض أخبره عن صفقة أبرمها الأمير محمد بن نايف، مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، بأن قرار الأفراج عن هؤلاء سوف يتم بشرط انتقالهم للقتال في سورية.

لم تعد الصورة خافية عن وجود جماعات قاعدية يديرها سعوديون تقاتل الى جانب المنشّقين. ومن يقرأ سلسلة (ولتستبين سبيل المجرمين) التي يكتبها السعودي صالح القرعاوي، قائد (كتائب عبد الله عزاّم) المرتبطة بتنظيم القاعدة، ورسائله الموجّهة الى من أسماهم (أهل السنة في بلاد الشام) تنجلي أمامه ليس صورة المنبع الأيديولوجي السلفي للجماعات القاعدية العاملة في بلاد الشام، ولكن أيضاً الهوية السعودية لقيادة الجماعات. كتب القرعاوي في بيان رقم (5) من سلسلة (لتستبين سبيل المجرمين) بعنوان (سوريّة الأبية) بتاريخ 5 نيسان (إبريل) 2011، وصف فيه سورية بأنها (أرض جهاد ورباط، وأرض معارك وملاحم..). وفي بيان لتنظيم (فتح الإسلام) بعنوان (نصرة لإخواننا في سورياالإسلام) جاء ما نصّه (فأعينوا اخوانكم المجاهدين الموحدين وانشروا عقيدة اهل التوحيد). لا يتطلب المراقب كبير جهد لمعرفة هوية النص والمجال العقدي السلفي الذي ينتمي اليه.

في مؤتمر (أصدقاء سورية) الذي انعقد في تونس في اعتبر وزير الخارجية سعود الفيصل تسليح المعارضة السورية فكرة ممتازة، وانتشرت أنباء وتقارير عن حشود عسكرية وعمليات تسليح واسعة النطاق..وعد الأمير حلفائه الأميركيين بإسقاط النظام السوري في غضون ثلاثة شهور، وكان خطأه متعمداً، على مايبدو، بهدف استدراج التدخل العسكري الأميركي..

ولكن بعد مجزرة حولة، جرى ما هو أكثر من ذلك، فقد عادت حملات التبرّع بالمال بصورة علنية وغير منضبطة لتسليح المعارضة السورية إضافة إلى تقديم المساعدات الإنسانية..يستحضر البعض مشهد الثمانينات حين كانت مجاميع من الأفراد وكميات كبيرة من الأموال تتنقل الى أفغانستان دون ضوابط الأمر الذي أدى الى العواقب الكارثية التي شهد العالم صوراً منها منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

نستعيد بحسرة عالية الإحساس بخطر المجازفة في توصيف ما يجري في سورية، وعلى طريقة فوكو في تردده في المبادرة لإعطاء إسم لشيء ما، فإن من الصعوبة بمكان الفصل بين ماهو ثورة شعبية سلمية تستحق التبجيل وبين جماعات مسلّحة تحظى بدعم مالي وتسليحي سعودي وقطري..

المحاصرة الفجّة بإسم الدفاع عن حياة السوريين بقدر ما عبث بالحقائق على الأرض، فإنه دنّس صورة الثورة السلمية، وصارت مصدراً للكسب الشخصي، وتصفيات الحسابات الطائفية، وحرب المعسكرات (معتدل وممانع). ثمة مشهد هجين ومقرف يجمع المفكر القومي، والداعية الطائفي، والمقاتل القاعدي، والفضائيات المقولبة، وتجار السلاح على معابر الحدود جميعاً، ثم تكتمل المهزلة حين يكون مصدر تمويل هؤلاء جميعاً المال النفطي السعودي والقطري...

الشعوب التي احتفت بالثورتين التونسية والمصرية ما لبثت مشاعرها أن انقسمت في اللحظة التي دخل العامل الخارجي على الخط في الثورات الأخرى اللليبية واليمنية والبحرينية والسورية..من هناك ايضاً بدأنا نسمع عن مخطط سعودي لتحويل الربيع العربي الى خريف، كما ظهر من بين المثقفين من يكيل الشتائم لهذا الربيع الذي تقوده السعودية وقطر..

بين الحقيقي والوهمي في المسألة السورية مسافة احترازية، ولا يضّر ذلك بالقناعة الراسخة بأن التحوّل الديمقراطي حتمي، فدوي سقوط (شاهد عيان)، و(مصدر في المعارضة)، و(زيد بن عبيد) المجهول الهوية والصورة وضع الفضائيات المبجّلة على محك الصدقية..وبقدر ما ناضل الثوّار السلميون من أجل الحفاظ على مصداقية تقاريرهم، فإن من تسلّق الثورة في مرحلة لاحقة وصار يعمل عن طريق (الغرف السريّة) قد أحدث هزّة عنيفة في مصداقية الأنباء الصادرة عن وسائل الاعلام العربية والاجنبية، بل سهّلت دخول قنوات فضائية أخرى في لعبة الحقيقة والزيف وباتت مفتوحة على أفق واسع.

ما يبعث على الحزن خضوع مجزرة حولة، بالقرب من حمص، لمزايدات هابطة بين أطراف عددّة بما فيها المسؤولة عن الجريمة..ما ظهر لاحقاً من فبركات لصور المجزرة سكب ماءً بارداً على الجناة، فقد خلطت الأوراق، وبات الفاعل مجهولاً، الأمر الذي فتح الباب أمام مساومات رخيصة، حتى أن المصّور الإيطالي ماركو دي لاور أصدر بياناً على صفحته في (فيسبوك) يستنكر فيه نشر بي بي سي صوراً من كاميرته حول مجزرة في العراق سنة 2003 ونسبتها الى مجزرة حولة.

الضلوع السعودي في المسألة السورية لا يعبر عن شكل من أشكال التدجين فحسب، بل يتسبب في نهاية المطاف بوقوع أزمة أخلاقية لدى القوى والشخصيات المعارضة حين تقبل التفريط بالقيم المعيارية للثورات والانتقال الديمقراطي وأن تمفصل علاقاتها مع الجانبين السعودي والقطري على أرضية هموم خاصة وذاتية.

عن جريدة السفير اللبنانية، 2/6/2012

الصفحة السابقة