سلمان العودة: ثائر أم واعظ؟

د. مضاوي الرشيد

د. مضاوي الرشيد

من كان يصدق ان شيخ السلفية الحركية السعودية سلمان العودة سيكتب عن الثورة؟

من كان يتوقع ان يكون كتابه (اسئلة الثورة) مزيجا من.. قال الله وقال الرسول، وقال ماركس وفانون وبوبر؟

من كان يعلم ان حلف الفضول يستقرّ بالنصّ مع الماغنا كارتا البريطانية، كجارين يلهمان الامم في حراكها الهادف الى تقنين السلطة المطلقة؟

يثير كتاب (اسئلة الثورة) اسئلة اخرى عن التحول الذي حدده نص الشيخ، الذي اتى كنص حداثي يجمع بين التراث الاسلامي واعلامه والتراث الفكري الغربي، متفكرا بالتغيير السلمي الذي اطاح بأنظمة قديمة يتجذر بها التسلط والاستبداد، فهوت رؤوس كبيرة، اعتقد البعض انها في ديمومة لا متناهية، وسقطت استراتيجيات العنف المسلح كوسيلة لانهاء حالة المستنقع العربي السياسي، واستبدلت باستراتيجية الميدان في مصر وتونس.

لا بد انها كانت صدمة ومفاجأة للتيار الاسلامي الذي تبنى العنف كوسيلة للتغيير السياسي، وان كان العودة ليس من ضمن هؤلاء، الا انه بلا شك وقف لحظة تأمل التغيير الذي حصل خلال السنتين الماضيتين، فكان حصاد هذه الوقفة كتابا يطرح الاسئلة ويستفسر عن مفهوم الثورة، التي كانت وما زالت ذلك المصطلح التابو الذي تشبع بالفكر السلفي السني الرافض للتغيير من باب درء الفتنة، وأصّل للصبر على الظالم وظلمه والاكتفاء بمناصحته سرا، من باب رفع الحرج وابراء الذمة.

عاد سلمان العودة بنصه الى مسألة التغيير السياسي واسلوبه الجديد، حيث انبثق من الميدان وليس من ثغر من ثغور الاسلام ليطرح الخيار الثالث، وهو التغيير السلمي الذي يقف في منتصف الطريق بين العنف من جهة، والطاعة المطلقة للحاكم من جهة اخرى. وهو بذلك يفسح المجال لثورة سلمية بخطاب ليس فيه ذلك التجييش او الخنوع. ورغم ان كتابه لم يتطرق الى الحالة السعودية مباشرة او مواربة، الا ان الرسالة كانت واضحة وصريحة تتجاوز الحالة المصرية والتونسية، مما ادى الى منع الكتاب وحجبه في السعودية وهجرته الى العالم الافتراضي. فالثورة بنظره ـ اي العودة ـ ثمرة قد تنضج او تجف او يتم حصادها بعد فوات الاوان. ويعتبر في كتابه ان الثورة ليست ضرورية الا عندما يفشل الاصلاح ويتقهقر على عتبات السلطة فتصبح الخيار الحتمي للشعوب المغلوبة على أمرها.

ويدخل العودة مصطلح الجماهير بما فيه من رومانسية وقوة، الى لغة النص بعد ان كان من المحظور او المستهزأ به تحت مصطلحات اخرى كالعوام والرعية وسواء الناس. فكما ان الميدان او الشارع ارتبطا بالغوغائية سابقا، تحولت الرعية الى جماهير فاعلة لا مفعول بها. ولكن ماذا بعد الثورة؟

بالطبع حالة مخاض عسيرة ينبه الكاتب من تحولها الى ديكتاتورية دينية بعد ان كانت عسكرية. فلا دغدغة للمشاعر عن طريق رفع شعارات تطبيق الشريعة بشكل مفاجئ، ولا محاكم ثورية تتهاوى بعدها الرؤوس السابقة، ولا ثيوقراطية اسلامية، بل ديمقراطية. قد يستغرب البعض من ان الشيخ السلفي يلفظها، بل ويدعو اليها، وهي ذلك الغريب المستورد، فيسأل: كيف يقبل المسلمون بالاستبداد ويرفضون الديمقراطية كونها بضاعة وفكرا مستوردا لمجرد انها غريبة قادمة من وراء البحار والصحارى؟

وهنا تبرز المصطلحات كالتعددية بدلا من الاقصاء، وحقوق الانسان بدلا من حقوق المستبد، والشريعة كعملية تدريجية تهدف الى تحقيق العدالة وحماية الارواح والاملاك، بدلا من اخبار الرجم وتعليق المشانق. واهازيج الثورة واناشيدها ناهيك من زيها وفنها تحولت الى خانة المباح بعد ان كانت من المحظورات.

لا حرب على الاقليات العرقية والاثنية والدينية، بل دعاء يستوعب الجميع حيث النهضة تحتاج الى سواعد مختلفة وأطياف متنوعة وتفشل بالاستئثار بالرأي والمبادرة.

لا يوجد بالثورة عمليات تصفية لفلول او ما شابه ذلك، فكل هذا مدعاة للتدخل الخارجي، وباب تدخل منه عناصر الفتك بانجاز عظيم.

يقف سلمان العودة على عتبة الثورات العربية متأملا معتبرا، لا منددا او شاجبا كرفاقه الذين تتلمذ على ايديهم في قريته البصر على هامش بريدة في العمق القصيمي السعودي، الذي ارتبط بصف طويل عريض من مشايخ السلفية، وان كان بعضهم فضل السكوت، الا ان العودة اختار الحراك، ودفع سنوات من عمره في السجن ليطلق سراحه بعدها فيتطور فكره وتهدأ عاصفة الشباب. وبعد عشرين سنة نجده يناجي الثورة، ليس بذلك الخطاب الحماسي، بل بخطاب الرجل المتأمل الذي انحصرت خياراته تحت ضغط النظام السعودي بخيار الوعظ والارشاد لاعادة تأهيله كصوت معتدل هذبته اسواط السلطة، ثم فتحت له المجال ليتصدر شاشاتها في برامج طويلة حوارية تجمع بين العلم الشرعي والتنظير الاجتماعي.

ورغم انخراط الشيخ بهذه البرامج الا انه تعرض لحملة عنيفة من ثلاث جهات، اولها السلفية الرسمية الغيورة على احتكارها للدين، والليبرالية السعودية النائحة على اطلال النظام ولا تقبل نقده بل ترفض ان يشاركها الحظوة عند السلطان اي فريق آخر، والتيار الجهادي الذي اعتبره متراجعا عن فكره ومبادئه تحت ضغط السجن والسلطة.

هنا اتجه الشيخ الى الوعظ لفترة طويلة، لكن الثورة بقيت هامدة محاصرة، الى ان جاءت من الجوار العربي، فكانت فصلا من فصول حياته المكبلة، رغم الحظوة والمكانة وربما المال الوفير والاتباع والمعجبين. واستغل الشيخ الوقت ليحدث جمهوره عن الحب والعشق والخلود للحبيب، ويظهر كأب حنون يرتمي في حضن ابنته الصغيرة تداعب شعره وتشبكه بشرائطها الملونة، ثم نراه في الصحراء وحيدا يلتحف الرمال ويحتسي قهوة تطبخ على النار المشتعلة. ومن ثم نراه يعانق الشباب في حلقات الدرس والزيارات مستغلا قوة الصورة في عصر العولمة.

لسلمان العودة تيار عريض يزداد يوما بعد يوم؛ فالساحة السعودية تظل مقيدة تحاصر من يبرز كملهم او محرك للمياه الراكدة، ورغم ان الشيخ لم يطلق اي تصريح يدعو للحراك، الا انه في احدى تغريداته اتبع اسلوب النصح للحاكم بعد ان تجرأ هذا الاخير على حصار الحراك السلمي الذي ارتبط بقضية المساجين في بريدة. وربما شعر الشيخ بالحرج لالتزامه الصمت، قام بتغريدة عدة فقرات تستنكر الاعتداء على النساء وسجنهن، وتطالب النظام بحل قضية المساجين وملفات المعتقلين بدون محاكمة.

ومن ثم استحضر العودة الميدان كحل اخير بعد انقطاع الطرق، ورفض سلطة الاستجابة للمطالب المشروعة. فكان حذرا مهادنا واعظا لا ثائراً. يعكس موقف العودة في هذه اللحظة بالذات التحولات التي طرأت على الساحة الاسلامية السعودية، ورغم ان هناك من يشكك بقدرة هذه التيار التقليدي المحافظ على تقديم بديل وخيار معقول لمفهوم السلطة ومشاركة المجتمع في صنع القرار عن طريق انتخابات حرة ونزيهة واستقلال للقضاء وفصل للسلطات.. الا ان الخيارات الاخرى لا تزال معدومة او باهتة، فالليبرالية السعودية التي تسمى هكذا تعتبر جزءا من السلطة، همها ان تبقى في موقع الحظوة والتأثير، والسلفية الرسمية تتشبث بمناصبها ومواقعها وتظل تدور في فلك النظام كظل من ظلاله مدافعة عنه كالعادة.

وفي مثل هذه الحالة سيجد خطاب العودة جمهورا جديدا لانه تجاوز ثنائية العنف والطاعة ليفسح المجال الى خيار ثالث ربما تعتبره السلطة اخطر بكثير من عمليات التفجير والتفخيخ، التي على خلفيتها تحشد هذه السلطة المجتمع خلفها بعد ان يدب الذعر في قلوب الكثيرين الرافضين للعنف وزعزعة الاستقرار والامن وازهاق الارواح، فيؤجل هؤلاء ملف الاصلاح السياسي الى اجل غير مسمى تحت ضغط الخوف.

سيظل خطاب العودة معلقا حتى تكتمل شروط الثورة، التي من اهمها لحمة الجماهير التي تستطيع ان تتجاوز اختلافاتها وتعدديتها في تلك اللحظة الثورية لتخرج ككتلة بشرية تطلب حقها ونصيبها في الوطن.

وطالما لم تتحقق هذه اللحمة، سيظل النظام وسطوته وآلته الامنية تسود الموقف، تعتقل وتنكل وتستهتر بحقوق المواطن لانه مجزأ مفرق غير قادر على العمل الجماعي الذي يتجاوز محدودية المنطقة والقبيلة والمصالح الشخصية. فالثمرة السعودية لم تنضج بعد بسبب سياسات التفرقة والزبونية التي ينتهجها النظام وتجعله يصطاد الاصلاحيين والناشطين واحدا واحدا في محاكم شكلية صورية يكون فيها هو الخصم والحكم معا.

ولكن تبقى حتمية التغيير قائمة تنتظر تلك اللحظة الحاسمة وما خطاب العودة الا تمهيد لها وتأصيل لها. وستكون الساحة السعودية مساحة اختبار لهذا الخطاب ومدى تأثيره على جمهور عريض، وسيتصدى له الكثيرون وسيعرضونه كتمهيد لحكم طالباني بنكهة سعودية. الا ان استشراف المستقبل لن يكون سهلا حيث يصعب الحكم على نصوص قد تجد مجالا لتطبيقها في المستقبل. وفي مرحلة الانتظار سيظل شيخ الواعظين يحن الى تحوله القادم الى شيخ الثائرين.

عن القدس العربي، 28/4/2013

الصفحة السابقة