عقلاء السنّة والشيعة... لعبة اللوم!

فؤاد إبراهيم

المسألة السورية، بعد تحويلها من ثورة إلى أزمة، أفرغت ما في جوف الأمة من تناقضات وباتت ساحة حرب بين المحاور الإقليمية والدولية، كما أصبحت بمثابة سوق يعرض فيها كل الأطراف بضاعته: الاستبداد، الاستعمار، الطائفية، المقاومة، الصهيونية، تجارة السلاح، العصبيات العصابات بكل أشكالها. وحدها الديموقراطية كانت غائبة، ولا غرابة، لأنها لم تكن في أي وقت حاضرة في تاريخ الأمة وحاضرها.

والنداءات المتبادلة بين المعسكرين السني والشيعي بالعقلانية ليست سوى شكل آخر للأزمة المستفحلة في وعي الأمة ومشروع وحدتها، فما تتصوّره عقلاً هو جهل متنكّر.

القدرة الفائقة على تأويل الأشياء في ظل الاحتدام المذهبي تمارس فعل تدمير الثقة، والأجل الافتراضي لتداعيات النزاعات الأهلية، لأن التوظيف الإعلامي والسياسي يطاول كل فكرة، وشخصية، وواقعة جرت في التاريخ السجالي لناحية إهدار المجهود العقلي لما يحول دون تأبيد النزاع.

نداءات العقلنة تنطلق محثوثة بنزعة استئصالية ووصائية تقوم على تنزيه مطلق للذات وإدانة مطلقة للآخر. فالانغلاق المحكم على الذات يجعل من المراجعة أو نقد الذات جريمة في نظر الأتباع، فالسهام مصوّبة باتجاه واحد، ولا مجال فيه للتقويم.

بركان غرائزي مجنون تفجّر دماً في سوريا، ولا تكاد تجد جهة ما قادرة على إيقافه أو الحد من تأثيراته القريبة والبعيدة. وكأن ثمة من تمنى، بل غذّى هذا البركان على مدى عقود من الزمن من أجل لحظة كهذه لا تكون فيها مساحة بمقدار أنملة لعقل أو قيمة إنسانية.

لقد توارت النزعات الإنسانية وتحوّلت إلى مجرد «ميتافيزيقا»، وأنها ليست سوى، كما كان يخبر الأسلاف، ستار زائف لإخفاء الواقع وتصنيع قيم متعالية عليه أو خلق قيم مثالية تهدف إلى طمس حقيقته. ليس للمثل أي وجود في الحروب الأهلية، بصرف النظر عن هوية المنخرطين فيها، فالاستعارات الخطابية والأيديولوجية المشرعنة للضلوع في الحروب تلك تفضح التصورات الزائفة عن الذات والآخر، وأن مجرد تركيز هالة القداسة لا يغيّر من جوهر الأوهام المحيطة بها.

مشكلة الحروب الأهلية على قاعدة دينية أنها تلغي الفرد كذات مستقلة، وعاقلة، وقادرة على صنع قراراتها، فالتشكيلات الجماعية وحدها الحاضرة بكثافة. في النظر إلى ما بعد الحافات الأخيرة لهذه العلاقة المدجّجة بكل أشكال التمزق والتفتيت، تبدو أمامنا الصورة مكثّفة على النحو الآتي: أمة خارج حركة التاريخ.

إن أقسى ما في النزاعات الأهلية العربية على أرضية دينية أو مذهبية أنها تؤول إلى حبس الوعي في نقطة صفرية، حتى تتنكّر الأمة لذاتها، فيصبح عدوّها الرئيس في مأمن. نسمع لأول مرة عبارات من قبيل: الإسرائيلي أرحم منه، أو هذا الطرف (السني أو/ الشيعي) أخطر من اليهود. عبارات كفيلة بأن تحقق في الميدان، وتالياً القواعد الشعبية، أكثر مما حققته المؤسسات الإعلامية والثقافية والسياسية المعنيّة بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي.

كانت السلفية الوهابية تحلم بمواجهة سنية شيعية تعوّض عن الوهج الشعبي المتمدد الذي ناله حزب الله وأمينه العام بعد حرب تموز 2006. أنفق النظام السعودي حتى عام 2008 ما يقرب من 70 مليار دولار على تعميم نموذجه الديني دونما فائدة كبيرة. كان لا بدّ من مواجهةٍ تفقدُ حزب الله شعبيته، ولن يكون أفضل من حرب طائفية تضعه أمام خطر وجودي، فكانت سوريا، وكانت الطائفية أداة مشاغلة نموذجية لشعوب تتطلّع اليوم الى خلاص من المشيخات المستبدّة الطاعنة في الرجعية. لا دهشة في زيادة نبرة الهلوسة الطائفية في الإعلام الخليجي، فتلكم سلوة الإلهاء عن المطلب الديموقراطي حين تتوحّد الرؤية في أداة مصمّمة لإنتاج التعدّدية وتعميمها، يعني أننا أمام شكل مزرٍ من عقم الوعي، فالإعلام الخليجي الرسمي بات نصيراً لكل ما هو بغيض للحرية والمعرفة.

مذهبة الربيع العربي

بدايات الربيع العربي ليست كنهاياته، تماماً كمن زرع فيه ليس كمن حصده. في كل بلدان الربيع العربي، تبدّل وجه الثورة، فالقوى الشبابية التي نزلت الى الشارع وتحدّت القمع ودفعت ثمن الحرية من أرواح أفرادها أبعدت عن المشهد، وصعدت قوى أخرى وصلت متأخرة إلى ميادين التحرير، ثم ما لبثت أن تبنّت خطاباً، أو بالأحرى خضعت تحت تأثير خطاب الثورة المضادة المصنّع سعودياً. ويمكن الزعم بأن التطييف أخطر سلاح شهرته السعودية منذ انطلاق الربيع العربي أواخر عام 2010.

الثورات التونسية والمصرية والليبية التي لم يكن فيها العامل المذهبي محرّكاً للثورة، ولكن لعبت المذهبة بطريقة أخرى حيث أريد فصل الربيع العربي عن المسكونية الشيعية عبر تصعيد خطاب طائفي لجهة إحداث قطيعة ومنع التواصل بين الثورات العربية وجمهور الشيعة.

لم يكن صدفة انخراط أعداد كبيرة من المقاتلين الليبيين والتونسيين في القتال في سوريا بخلفية مذهبية، وكذلك تصريحات لشخصيات دينية وسياسية في تونس ومصر بخلفية مذهبية. في اليمن والبحرين وسوريا ثمة مذهبة فاقعة.

في اليمن، على سبيل المثال، عارض الشيخ السلفي البارز يحيى بن علي الحجوري فتوى رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق في المملكة السعودية الشيخ صالح اللحيدان حول الثورة على رئيس اليمن السابق علي عبد الله صالح، وجاء في بيان له صادر في 27 نيسان 2011 أن أصحاب الثورة هم «الاشتراكيون والبعثيون، والناصريون، والروافض، والإخوان المسلمون»، وأضاف «وهذه الفرق الأربع عداؤهم للمسلمين معروف». وعارض الحجوري كلام اللحيدان في فتواه عن الثورة السورية بجواز «قتل الثلث ليسعد الثلثان» على قاعدة أن اليمن «بلد مسلم، والرئيس مسلم، ويمكّن لشعائر الإسلام كالمساجد والدعوة وغيرها. والإجماع قائم على عدم الخروج على الحاكم المسلم الفاسق». وهذا لم يقتصر على اليمن فحسب، بل ينسحب على الثورة البحرينية التي وصفها مشايخ الوهابية بأنها ثورة طائفية، لكون المكوّن الأكبر فيها من طائفة معينة، هم الشيعة.

الثورة السورية استثناء في كل فتاوى مشايخ الوهابية وبياناتهم. دع عنك الحكومة السعودية، وعلى خلفية مذهبية أيضاً، فنعوت الغوغاء والمفسدة وتهديد المصالح العامة، التي كان يسبغها كبار علماء الوهابية في السعودية على ثورتي تونس ومصر، غابت عن الثورة السورية. القبول بالثورة هنا ومعارضتها هناك يتمان وفق معايير مذهبية خالصة، وهذا ما جعل التراشق المذهبي شأناً شعبياً.

في الثورة السورية التي أريد تطييفها في مرحلة مبكرة منذ انطلاقتها وطمس هويتها السلمية والديموقراطية، بدا واضحاً أن ثمة استغلالاً هابطاً لجهة تحويل الثورة إلى فعل مساجلة مذهبية مفتوحة، وبات قادة الثورة الحقيقيون من طلاب الحرية في الصفوف الخلفية، فيما تصدّرت الجماعات القاعدية المموّلة من دول مناهضة للديموقراطية، مثل السعودية وقطر، قيادة الثورة المغدورة.

ليس هناك اليوم من يرى بأن العمل الثوري، على طريقة ألتوسير، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالممارسة المستنيرة وبقيم الحرية والعدالة والديموقراطية، فقد اختفى ما هو ثوري ومستنير وعلمي، وحلّ مكانه ما هو غريزي، ودموي، ومدمّر للمبادئ والقيم باسم الثورة والطائفية.

عن: الأخبار اللبنانية، ١/٦/٢٠١٣

الصفحة السابقة