ديفيد اغناتيوس.. الطبّال الفخم

حين يصبح إبن سلمان فيلسوفاً.. ولكن (بفلوسه)!

في مملكة “الدب الداشر”، لست بحاجة الى أكثر من حفنة من المال كيما تصبح دكتوراً، ومؤرّخاً، ونبياً مرسلاً إن شئت.. هكذا هي حال الديار التي ما فتئت تولد من غير بطن أناساً يحملون سمات النبوغ من دون عقل، والنباهة من دون فهم، والطلاقة من دون لسان، والحكمة من دون منطق، والفلسفة من دون وعي!

محمد الأنصاري

ديفيد اغناتيوس، الكاتب الصحافي في (واشنطن بوست)، الصحيفة المدّللة والمقرّبة من البيت الأبيض، أدمن الكتابة عن أمراء آل سعود، ودبّج مقالات في إطراء محمد بن سلمان، حتى أنّه بشّر ذات مقالة بعد زيارة سلمان الى واشنطن، مصطحباً نجله محمد ولي ولي العهد في سبتمبر 2015 للقاء باراك أوباما.. بأن إبن سلمان هو الملك القادم بعد أبيه.

 
ديفيد اغناتيوس

ما يلفت، أن اغناتيوس كتب المقالة في عهد أوباما، وأجرى اللقاء في عهد ترمب، وإذ به يتحوّل مثل بعض الكتاب العرب الذين يبدّلون آرائهم كما يبدّلون أحذيتهم مع تغيّر الرؤساء.. فانساق الكاتب مع ابن سلمان الذي كان هو الآخر يعوّل على دعم أوباما له في الترشّح للعرش بعد أبيه، حين أطلعه على ما وصفه «آفاق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين» أي المملكة والولايات المتحدة، فكيف أصبح أوباما شخصاً «لا يثق فيه المسؤولون السعوديون»، وأن ترمب الذي أرعب آل سعود بوعده ووعيده بأنه سيرغمهم على دفع أثمان باهظة لقاء الحماية التي يتمتعون بها، أصبح فجأة الشخص الذي «استعاد جميع تحالفات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين».

في مقابلة أجراها اغناتيوس مع ولي ولي العهد محمد بن سلمان، نُشرت في الصحيفة في 20 إبريل الماضي، كان واضحاً البعد الاستعراضي والدعائي في المقابلة، الى حد أن اغناتيوس قامر بتجربته الصحافية حين تحوّل الى مجرد «طبّال» لابن سلمان، بالتركيز على جوانب ذات طابع دعائي، وصوّره بخلاف ما عرف عنه كل من التقى به أو خبره في كثير من المواقف.

اختار اغناتيوس العبارات الدعائية لابن سلمان، ومن بينها أن السماء هي الحد لطموحات السعوديين.. ولا نعلم عن أي طموحات وعن أي سعوديين، بل وعن أي سماء!

لا شك أن موضوع العلاقات السعودية الأميركية يأتي في صميم المقابلة، وقد أسهم محمد بن سلمان في التفاؤل المفتعل، برغم تعويل آل سلمان على هيلاري كلينتون التي موّلوا حملتها الانتخابية، كما كشفت عن ذلك التقارير الاعلامية والمالية. يقول ابن سلمان بأن دونالد ترمب سيعيد «الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح» في إشارة الى استعادة تحالف واشنطن مع الرياض.

تسعون دقيقة أمضاها اغناتيوس في مكتب محمد بن سلمان، نتج عنها مقابلة قال عنها اغناتيوس بأنها «الأولى المطوّلة له منذ أشهر». حسناً، ما عسى أن يقول، نابغة الزمان، في الساعة ونصف الساعة؟.

موضوعات المقابلة كانت تتراوح ما بين: السياسة الخارجية، وخطط خصخصة أرامكو، استراتيجية الاستثمار في الصناعة المحلية، وتنمية قطاع الترفيه.

القلق الذي ينتاب ابن سلمان، وفق المقابلة، هو ألا يكون الشعب راغباً في التغيير أو غير مقتنع به! فيا للمصيبة «الأمر الأكثر إثارة للقلق هو إذا ما كان الشعب السعودي غير مقتنع..». ولكن الحمد لله، فإن كل المؤشرات تفيد عكس ذلك، بحسب ما أظهره استطلاع الرأي الذي أجراه مركز لقياس الرأي العام، برئاسة عبد الله الحقيل، إذ أظهرت النتائج أن «نسبة 85% من المواطنين، متى ما أُرغموا على الاختيار، فسيفضلون الحكومة على غيرها من السلطات المختلفة». تصوّروا أن تكون النتئجة عكس ذلك؟! ومن المؤكّد أن كل ما عداها من النتائج ستأتي منسجمة مع هذه النسبة، مثل أن «ما يقارب 77% من الذين شملهم الاستطلاع يؤيدون خطة الإصلاح «رؤية 2030» التي تقوم بها الحكومة، وأن هناك 82% ممن يفضلون العروض الترفيهية في التجمعات العامة».

ولكن اليس هناك ما يثير التساؤل في هذه الاحصائيات او الاستطلاعات التي يقوم بها اشخاص من المؤسسة النجدية الحاكمة نفسها؟

لماذا يصبح الترفيه وحده مقياساً من بين موضوعات أخرى على الاصطفاف الى جانب الحكومة؟

الغريب أن اغناتيوس الذي يفترض فيه صحافياً في بلد ديمقراطي يعتمد استطلاعات الرأي العام المستقلة، وجد في هذه النسب ما يعوّل عليه في مقالته، ودعمها بمشاعر شعبية، لا ندري متى وكيف اختبرها وزاد عليها بأنها «مدعومة بالأدلة».

تحدّث ابن سلمان في ملفات السياسة الخارجية، وكأنه المعني المباشر بها، وليس وزير الخارجية ولا ولي العهد محمد بن نايف، رئيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية، وكشف عن عرض نفطي تقدّم به ابن سلمان الى روسيا من أجل فك ارتباطها مع ايران وقال: «نحن قمنا مؤخراً بتنسيق سياساتنا النفطية مع موسكو، وهذه قد تكون أهم صفقة لروسيا في العصر الحديث”، وكل الهدف هو تخريب علاقات موسكو وطهران.

ماذا فهم اغناتيوس من مقابلته ـ وهذا مهم جداً، هو أنه “من الواضح أن ولي ولي العهد قد رسم الاستراتيجية العسكرية والسياسة الخارجية والتخطيط الاقتصادي»، ما يعني أن ابن سلمان هو الملك الفعلي، وأنه يدير «فريقاً فنياً أصغر سناً وأكثر شباباً من المسؤولين السابقين في المملكة»، ما يعني أن لديه حكومة موازية غير الحكومة المعلنة، في ظاهرة نادرة في تاريخ المملكة السعودية.

الملفت أيضاً، أن محمد بن سلمان لم يتمسّك بقوة بالطرح الذي تقدّم به في العام الماضي حول القيمة السوقية لـ 5 في المائة من شركة أرامكو، أي تريليوني دولار، بل بدا مرناً إن لم يكن متردّداً، وأخبر اغناتيوس بأن «الحجم الدقيق لمثل هذا الطرح سوف يعتمد على طلب سوق المال، وتوفر الخيارات الجيدة لاستثمار الإيرادات التي يتم جنيها، والفكرة الأساسية خلف بيع حصة» من أرامكو. والأولوية للاستثمار والاكتتاب العام هو لقطاع التعدين، الذي يمتلك ثروة معدنية محتملة «تقدر قيمتها بـ 1.3 تريليون دولار أميركي» حسب قوله.

كرّر الشاب الغرّ محمد بن سلمان ما قاله سابقاً حول توطين صناعة السلاح، وانتاج مركبات القيادة، وإنشاء قطاعات محلية للترفيه السياحي، التي أسهب في الحديث عن مجالاتها.. مع أن الخطط السياحية لم تعتمد على دراسة دقيقة لاهتمامات المواطنين وخياراتهم السياحية.

اغناتيوس، وفي سياق استكشاف الشخصية الاستثنائية لابن سلمان، فإنه يتعمد أن يخرجه من سياقه الجغرافي والاجتماعي والثقافي ويضعه في مصاف الشخصيات التاريخية «إذ بسلوكه المفعم بالطاقة والحيوية، فهو يناقض تماماً التحفظ الصحراوي التقليدي الذي يتسم به معظم المسؤولين السعوديين، وعلى خلاف الكثير من الأمراء السعوديين، فهو لم يتلق تعليمه في العالم الغربي، مما مكنه من الحفاظ على طاقته القتالية التي تعد سبباً لجاذبيته لدى الشريحة السعودية الشابة». لا نعلم من أين استقى اغناتيوس كل ذلك، ومن أي زاوية نظر فيها الى شخصية ابن سلمان حتى خرج بهذا الانطباع، الذي لا يليق الا بعظماء غيّروا مجرى التاريخ؟!

يعكس اغناتيوس فلسفة خاصة لدى بن سلمان بخصوص العلاقة مع الولايات المتحدة، فهو لا يريد أن تكون مملكته دمية في يد الولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه لا يريد أن تكون متمرّدة على غرار كوريا الشمالية، ولكنه يريد سبيلاً ثالثاً هو الاقناع: «لو وضعت فيلماً في دار السينما وشاهدته، فقد اقتنع بما شاهدت»، كما قال أيضاً: «مع استمرار الولايات المتحدة في أن تكون حليفة للمملكة العربية السعودية فمن دون شك سوف نندمج بشكل أكبر مع المتغيرات العالمية”.

في العلاقات مع المؤسسة الدينية الوهابية ودورها في الابطاء من وتيرة التطوّر في المملكة، ينفي ابن سلمان عن المؤسسة سمة التطرّف، لأنها ايديولوجية الدولة، وادانتها تعني ادانة النظام السعودي نفسه. ويرى ابن سلمان بأن: «النهج الديني المتطرف في المملكة السعودية هو ظاهرة حديثة نسبياً، نتيجة للثورة الإيرانية التي وقعت في عام 1979، واحتلال المسجد الحرام في مكة من قبل متطرفين في ذات العام كردة فعل للتطرف الشيعي».

من الواضح، أن ابن سلمان إما هو قارىء بليد لأدبيات الوهابية وتجربتها في بلاده وبلدان أخرى غزتها، ولو قرأ بتمعّن لرأى ما يشيب له الولدان من اقترافات الوهابية في المجتمعات التي دخلتها (وليراجع ابن بشر وابن غنام وغيرهما)، وأما حركة جهيمان العتيبي واعتصام الحرم، فهذه حركة نشأت برعاية المفتي السابق عبد العزيز بن باز، وهو من أسبغ عليها اسم المحتسبة، وقد تحوّلت الى حركة مسلّحة بناء على أدبيات أنتجت محلياً والتي تحدّثت عن أحوال آخر الزمان وظهور المهدي المعرّف باسم محمد عبد الله القحطاني وقد كتب الشيخ حمود التويجري (إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة)، وكان كتاباً إلهامياً للجماعة، ولا صلة له لا بالثورة الايرانية ولا برد فعل على التطرف الشيعي الذي لو كان موجوداً لظهر في المنطقة الشرقية التي شهدت انتفاضة، بعد أقل من شهر على اعتصام الحرم المكي، ولم تشهد أي ظواهر عنف، سوى عنف القوات الأمنية التي استخدمت الرصاص الحي ضد المتظاهرين.. حينذاك، اي يومها، كان بن سلمان لا يزال في رحم الغيب، اي لم يُولد بعد!

حمّل ابن سلمان الثورة الايرانية مسؤولية التطرف والإرهاب، وليس في ذلك ما يدعو للغرابة، فقد سبقه والده وعمه نايف وعبد الله الى ذلك، لإبعاد الاتهامات عن الوهابية التي اعتنقوها وحاربوا بها الآخرين تكفيراً وتهويلاً وقتلاً. لم تكن الثورة الخمينية هي التي منعت الاصلاح السياسي، ولا الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي، ولا هي التي حالت دون مشاركة المرأة في الحياة العامة، ولا هي التي شجعت أشخاصاً يعتنقون الوهابية كيما يشيعون الخوف في قارت العالم عبر عمليات انتحارية وارهابية متنقلة، ولا الثورة الخمينية كانت مسؤولة عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر.. ولا هي التي منعت الشباب في تطوير أنفسهم ولا تطوير مجتمعاتهم.

في كل الأحوال، فإن اغناتيوس سقط سقطة كبيرة بتدبيجه المدائح في شخص لا يزال الناس تنظر اليه «دباً داشراً»، لا يتقن سوى حفظ مجموعة من الأرقام المفصولة عن سياقها الموضوعي، وأن رائحة النفط وحدها هي التي يمكن أن تفوح من مقابلة اغناتيوس مع بن سلمان، وهي وحدها التي يمكن ان تبرر ما كتبه. كفانا الله شر النفاق النفطي، ومن يركع له.

الصفحة السابقة