الكفار السعوديون وغزوة مانهاتن

يوسف أبا الخيل

من بين ما تداولته أروقة آخر الجلسات التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني التي عقدت في مدينة الرياض وفقاً لما نشر في جريدة الرياض في 17/11/2005م مقولتان أو رأيان غاية في التشدد والغلو، ولكنهما بالتأكيد ليسا غريبين إطلاقاً على السياق الثقافي المحلي المؤسَّس على حدية النظرة للآخر (سواء تجاه من هو من خارج الديانة أو حتى تجاه من هو من داخلها من المختلفين معنا في الرأي).

الرأي الأول: كان عبارة عما أسماه أحد أعضاء تلك الجلسة التحضيرية ب «غزوة مانهاتن» وهي إشارة إلى ما قام به فتية القاعدة من ضرب لبرجي مركز التجارة العالمي بمدينة نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م، وبالطبع فإن تسمية ذلك الحدث ب «الغزوة» تشير بشكل مباشر، لا إلى تأييد ذلك الحدث وفاعليه فحسب، بل تشير أيضاً إلى أنه مجال خصب للفرح والانتشاء والفخر، يتضح ذلك من خلع مسمى «الغزو» على ذلك الحدث، وهو مصطلح إسلامي يشير إلى غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم والراشدين من بعده على ذلك الحدث باعتباره داخلاً في مسمى وهدف تلك الغزوات، هذه التسمية أيضاً كانت ولازالت التسمية المفضلة لمنظمة القاعدة ومؤيديها وأدوات تنفيذها لا لأحداث الحادي عشر من سبتمبر فقط، بل لجميع العمليات الإرهابية التي تولت كبرها وعلى رأسها ما قامت من تلك الأعمال الإرهابية داخل المملكة.

الرأي الثاني: ما أعلنته إحدى المشاركات من وجود من أشارت لهم بأنهم «كفار داخل المجتمع السعودي» ومع ذلك - والكلام لا زال لتلك المشاركة - فلابد من محاورتهم، وهو رأي يشير - سواء قُصد به من هم في عداد الأجانب أو من هم في عداد السعوديين - إلى أن ذلك وضعاً استثنائياً أو شاذاً، ولكن استثنائيته لا تمنع من محاورة من هم والغون فيه تناسباً مع الظروف الحالية التي قد تؤجل المعاملة الأصل المختلفة بالطبع تماماً عن اسثنائية المحاورة.

كلا الرأيين يتكئان على إرث ثقافي متوطن في الوعي واللاوعي الاجتماعي، إرث تمت كتابته وتدشينه في سياقات تاريخية/ سياسية مأزومة مع واقعها آنذاك، وليس بالضرورة أن يكون متفقاً مع النصوص المؤسسة الأصلية، بل إن عكسه هو الصحيح، ولكن لأن النص الأصلي لا يستمر على حال نقائه الأول، إذ لا بد وأن يتعرض إلى تأويلات وتفسيرات مختلفة، وفقاً للأيديولوجيات المختلفة الأهداف التي يريد كل منها إنتاج قيم ثقافية تتوافق مع ظروفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقبلها مدى تزامنها بالذات مع هامش الحرية - بمعناها الشامل - المعطى لذلك المجتمع الحاضن لتلك الأيديولوجيات.

من سوء حظ ثقافتنا العربية، فإن مثل تلك القيم السوسيو/تاريخية أُبِّدت فيما بعد بواسطة الخلف باعتبارها جزءاً من النصوص الأصلية ذاتها، رغم أنها أُنتجت لتنظيم مجتمع يرزح حينها تحت واقع مأزوم بالهزيمة وتكالُبِ الأكلة على قصعته المتداعية آنذاك، وهذا التأبيد للقيم الأيديولوجية وتعليتها فوق التاريخ لا يشكل في الحقيقة إلا وضعاً ونتاجاً طبيعياً للغاية لأي ثقافة لا تجيد القراءة التاريخية للتراث، ولا تعرف بالتالي كيف تعيد زرع منتجاته في التاريخ، ومن ثم نتيجة لذلك، لا تستطيع التفرقة بين ماهو من صميم النصوص الأصلية، وبين ماهو من صميم نتاج التاريخ الاجتماعي للبشر.

غزوة مانهاتن السعودية

من ضمن تلك القيم السوسيو/تاريخية والتي أبَّدتها القراءة غير الواعية بإضافات وقولبات وتحويرات التاريخ، ما يخص العلاقة مع الآخر - أياً كان هذا الآخر- إذ إن هذه العلاقة - وفقاً للنصوص المؤسسة - تعتمد في تشكيلها على نوعية علاقة ذلك الآخر تجاه الأنا أو الذات، فعلاقة البر والصلة والإحسان والقسط واجبة الاتباع تجاه ذلك الآخر متى ما كان في حالة سلم ومودة معنا، وعكس تلك العلاقة تماماً يكون واجب الاتباع متى ما كان ذلك الآخر في حالة حرب علينا أو ممالأة على محارب لنا أو مظاهرة له، وهذه العلاقة الثنائية من البر أو المخاصمة تبعاً لنوعية العلاقة التي يقيمها معنا ذلك الآخر لا تخص غير المسلم فقط، فمتى ما اعتدى معتدٍ على أوطاننا وجب علينا التصدي له ورده على أدباره سواء أكان ذلك المعتدي مسلماً أم غير مسلم، ومن غير المعقول ولا من المنطق الشرعي ولا الإنساني بل والمخالف للنصوص القرآنية، أن نقول بغض الطرف عن المعتدي المسلم ليحتل أو يعتدي على أوطاننا في الوقت الذي نذود فيه عن حياضها متى ما كان ذلك المعتدي غير مسلم.

من الطبيعي أننا سنسمع عند مناقشة من يعتدَّون بأحداث الحادي عشر من سبتمبر أو بضرب محطات القطارات في لندن ويفخرون بها ويرمزون لها بالغزوات، بأنهم إنما ينطلقون في ذلك التوجه من العداء للمعتدين على ديار المسلمين فقط، وأنه ليس من منطلق عقائدي بحت تحكمه العلاقة الحدية بين المسلم وغير المسلم، ولكن واقع التعامل مع أحداث مشابههة، بالإضافة إلى الإرث الثقافي الذي يقتاتون منه، وهم بالمناسبة أكثرية وسواهم أقلية، يكذِّب ذلك الادعاء ويفضحه في وضح النهار، آية ذلك أننا لا نجد منهم الآن، كما لم نجد منهم سابقاً موقفاً كهذا الموقف تجاه صدام حسين وأركان قيادته من حزب البعث البائد عندما غزوا الكويت وحشدوا الجيوش على حدود المملكة تمهيداً لاجتياحها، بل على العكس فلم يلق ذلك القرار الصارم الحكيم الذي اتخذته المملكة حينها من الاستعانة بالقوات الصديقة لصد هجوم كان سيتم في أي لحظة إلا التشكيك والغمز واللمز، بل وربما تكفير وتضليل متخذيه ومباركيه، رغم أن ذلك القرار كان حداً فاصلاً بين البقاء والاضمحلال بالنسبة لبلادنا، إذ إن ما فعلته أمريكا وبريطانيا رغم سوئه لا يقارن بفعل من كان قاب قوسين أو أدنى من وطء بلادنا بأقدامه النتنة.

ألا ينهل ذلك الموقف الانتهازي الذي لا زالت دعائمه الثقافية موجودة بيننا، من معين ثقافة النظرة للمسلم وغير المسلم، فحيث إن صداماً مسلم - ولا يمنع أن يكون ذلك بالاسم فقط - فلم تستطع تلك الثقافة ولن تستطيع أن تتحرج أو تتورط بوصمه بأية عبارة كفرية أو ضلالية، ناهيك عن تسمية عملية إخراجه من الكويت وحدود المملكة ب «الغزوة»، وبالتالي فلا بد من الاعتراف مهما كان مذاق هذا الاعتراف مراً بأن العلاقة مع الآخر - المختلف معنا بالمذهب - ناهيك عن المختلف معنا بالدين تتحدد وفقاً لنظرية الفسطاطين أو الفريقين الذين أحدهما في الجنة والآخر في السعير.

ولا مجال في تقديري لحل هذه الإشكالية بشكل جذري إلا بإعادة موضعة التراث الذي كيَّف العلاقة مع الآخر وفقاً لتلك الثنائيات في التاريخ، لمعرفة المعطيات السوسيو/ تاريخية/ سياسية التي وطأت الأرضية لتلك الحدية في موضعة تلك العلاقة مع الآخر والتعامل معها باعتبارها نتاجاً بشرياً تأثر ولا شك بتلك الظروف، وليس من طبيعته التأبيد بل يجب أن يتغير ويتطور وفقاً لمعطيات التاريخ اللاحق، وهو ما يؤسس بالتالي إلى العودة إلى الأصول التي كيَّفت العلاقة مع الآخر على منطق (لكم دينكم ولي دين) وعلى منطق (لا ينهاكم الله عن الذي لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) وعلى منطق (يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) وهي نصوص تؤسس لعلاقة مدنية واضحة تفصل تماماً بين العلاقة الشخصية والاجتماعية، وهذا الفصل أو التكييف لمثل تلك العلاقة المتكئ على الفصل بين الإلهي والبشري لا يتوفر إلا لثقافة تقرأ تراثها بوعي تاريخي وهوما لم يتوفر بعد لثقافتنا العربية.

الرياض 10/12/2005

الصفحة السابقة