السعودية: ممنوعون من السفر حتى مع محرم

النخب السعودية ضحية الـ (منع من السفر)

د. مضاوي الرشيد

لم يكترث أحد حتى هذه اللحظة بمأساة نخبة سعودية من المفكرين والمحامين والناشطين في مجال المحاماة وحقوق الانسان الممنوعين من السفر والمصادرة جوازات سفرهم. فبينما ينشغل البعض بقضية المرأة الممنوعة من السفر بدون محرم، نجد ان هذه النخبة (المذكرة) ممنوعة من السفر حتى مع محرم. معظم هؤلاء من زوار السجون السعودية المنتشرة في عرض البلاد وطولها، خرجوا من السجن في السنوات الاخيرة ليجدوا انفسهم في سجن اكبر، حيث يحرم عليهم التنقل والسفر الى خارج البلاد حتى خلال عطلة صيفية يقضونها مع محارمهم. نذكر على سبيل المثال محمد سعيد الطيب ومتروك الفالح وعلي الدميني وعبدالرحمن اللاحم وكلهم قد منّ عليهم باقامة طويلة في سجون النظام السعودي، لا لسبب إلا لأنهم تجاوزوا الحظر المفروض على التعاطي مع ما يسمى (الشأن العام).

فالنظام السعودي يعتبرهم متطاولين على القيادة، خاصة عندما يحلم هؤلاء بمشروع اصلاحي ينتشل البلاد من حالة التخلف السياسي والفساد الاداري والمالي وانعدام العدالة الاجتماعية وتحيّز القضاء. فبعد ان حلمت هذه المجموعة وبلورت حلمها عن طريق الاعلان عن سلسلة من المطالب، تم اعتقال أعضائها وحكم عليهم بالسجن. وعندما نصب الملك الجديد في موقعه العام المنصرم خرج هؤلاء واصدقاؤهم من السجن الصغير بمكرمة ملكية وعفو من القيادة، وكأنهم مجموعة مجرمة خرجت عن ثوابت العقيدة. ولكنهم اليوم يعيشون مأساة الحرية في الجزيرة العربية وسجنها الكبير.

عندما اندلعت الحرب الصهيونية على لبنان نلاحظ أن أبناء المنطقة الشرقية ذات الأكثرية الشيعية نظمت مظاهرات لنصرة لبنان ومقاومته، وبينما خرجت هذه المظاهرات دون اذن مسبق حسب مصادر محلية، نجد ان بعض النخب السعودية توجهت الى القيادة في محاولة انتزاع موافقة بتنظيم مسيرة من أجل الاحتجاج على العدوان الصهيوني. قوبلت هذه المطالب بنفس النمط المعهود، أي بنوع من الغطرسة والتعالي ولم يسمح لها بتنظيم اي عمل احتجاجي في مرحلة عصيبة، فصمتت كما صمتت الاكثرية الساحقة من ابناء الجزيرة، وقوبلت بالرد الذي عود النظام شعبه عليه ملخصه ان الشأن العام ليس من اختصاص احد سوى تلك المجموعة من الامراء، وهم ادري بالمصلحة العامة، وطلب من المتقدمين لطلب الاحتجاج صرف اهتمامهم بالشأن الخاص فقط.

النظام السعودي يختزل شعبه بل هو يفعّل فقط الجانب الحيواني في الانسان. هو لا يريد فكرا او ثقافة سوى تلك التي تكرس هيمنته وتمجد انجازاته على مرّ العصور. يريد النظام انسانا يأكل ويشرب وينام وينكح فقط لا غير. لا يريد تعاطفا مع اي زعامة خارجة عن جوقة الامراء، او فكر ينهض بالمجتمع. لا يريد اعلاميا يحلل ويفكر بل يريد من يردد المنظومة الرسمية وكأنه ببغاء ينفش ريشه بين الحين والحين. لا يريد صقورا تحلق بثقافة جديدة قد تعري خطابه المبتذل ومواقفه المخزية.

لقد غيب النظام السعودي محاولات تجديد الخطاب السياسي والديني معا، فبينما فسح المجال لروايات المراهقة وخاصة تلك التي اصدرها كتاب النظام والتي تنبش المخزون الجنسي لشباب وبنات الجزيرة، نجد انه يحارب دوماً اي محاولة لانتشال البلاد من ركودها الفكري، ومشكلتها الأمنية التي ما تزال المدن السعودية مسرحا لها، وآخرها احداث المصادمة مع مسلحين في مدينة جدة.

ممنوعون من السفر الى متى؟

كتاب النظام وقصاصوه يشرحون من خلال الروايات نظرتهم ـ أو بالاصح نظرة النظام وتحليله لاسباب العنف ـ فيروجون منظومة الكبت الجنسي كسبب جوهري خلف هذا العنف، وقد اثبت هؤلاء القصاصون انهم اكثر هوسا بحور العين من الجهاديين أنفسهم. وبينما تتداول وسائل الاعلام السعودية مثل هذه القصص على صفحات الجرائد المحلية والفضائيات العربية، نجد ان الفكر الذي يحلل بواقعية ويطرح حلولا معقولة قد غيب كليا عن الساحة الاعلامية. اصحاب هذا الفكر يمنعون من الظهور على شاشات الفضائيات ليشرحوا رؤيتهم لمستقبل البلاد ونظرتهم لمأساتها الحالية وحلولهم المستقبلية.

لماذا لا يستضيف الاعلام السعودي امثال عبد الله الحامد ليشرح لنا معنى العدالة في الاسلام وتبعيات فقه السلاطين ومعنى المجتمع المدني ومغزى الشورى في الاسلام، وكلها موضوعات قد كتب عنها هذا المفكر. ولماذا لا يقدم لنا التلفزيون السعودي في دبي مثلا اطروحات متروك الفالح بخصوص (التنمية المبتورة) والتي لم تصل الى منطقته الشمالية؟ لماذا لا يستضاف هذا المفكر ليحدثنا عن تبعيات هذه التنمية ومخاطرها القادمة كما فعل على صفحات كتب لم تنشر الا خارج الوطن؟ ولماذا لا نتمتع بأمسية شعرية تستضيف الشاعر على الدميني ليطرب مسامعنا بكلمات خرجت من وراء القضبان، وقوافي امتزجت بالعزة في زمن الانبطاح؟ يغيب كل هؤلاء لأن عندهم الفكر الذي يعري الخطاب الرسمي امام ملايين المشاهدين العرب ولا يبقي لهم سوي الفضاء الالكتروني ومعظمه يتم حجبه عن طريق المجهود الجبار الذي تقوم به (مدينة الحجب) في عصر العولمة والانفتاح، مدينة الملك عبد العزيز للتكنولوجيا. لماذا يبقي هؤلاء محرومين من مخاطبة المشاهدين للتلفزيونات العربية، بينما يتصدر المجلس من هو غير قادر الا على المديح والاطراء والتبجيل والتقديس.. لماذا يسمح لشعراء الغزل والحكواتية السفر الى خارج البلاد، ويبقي هؤلاء محاصرين في بلادهم دون جوازات سفر؟

لا يوجد اي سبب لمنع هؤلاء من السفر، فهم ليسوا مجرمين ولا مختلسين للاموال العامة او الخاصة، وليسوا هم مفسدين في الارض. جريمتهم الوحيدة انهم نطقوا وحلموا احلاما ربما تتحول في المستقبل الى كوابيس تقلق النظام. وبينما يسمح للشباب الصايع السفر الى الخارج فينشرون غسيلا سعوديا قذرا في شوارع العواصم العربية حتى المجاورة منها، وكذا العواصم العالمية البعيدة، نجد ان النخب الفكرية الجريئة مصادرة حقوقها في التنقل والكلام. بعضهم يهرب فكره الى الخارج من أجل نشره في دور نشر لم تخضع بعد لسلطة النظام السعودي، وكأنهم يهربون مادة ممنوعة.

لا يمكن تصور مدى الضغط النفسي الذي يعيشه كل من في عقله ذرة فكر، وفي وجدانه نخوة، وفي عاطفته صدق مع قضايا العرب والمسلمين. هناك مأساة حقيقية يعيشها هؤلاء بعيدا عن الاضواء وخلف الكواليس. والاسماء التي نذكرها هنا ليست الا لمجموعة صغيرة محيدة حاليا، ولكن هناك العشرات بل المئات يعانون من نفس المشكلة والجور. ليس لهؤلاء ملجأ كجهاز قضائي مستقل يحسم امرهم ويطلق سراحهم. قضاياهم تبقي عالقة ومعلقة على أهواء الأمراء. وما دامت الجزيرة العربية فاقدة لقيادة واحدة تحسم الصراعات الداخلية، ستظل قضايا المجتمع ونخبة معلقة بين أهواء هذا الأمير أو ذاك.

تبعات هذا الضغط النفسي الذي تعاني منه النخب متعددة، منها الشعور بالغربة في الوطن، هذا الوطن الذي تحول الى ولاية مهمشة عربيا واقليميا وعالميا. خذ من هذا الوطن نفطه، ولن تجد عندها اي اهتمام عالمي به. سيظل المسلمون يحجون اليه ويحنون الى عزته التي فقدت بسبب تسلط النظام السعودي على موارده ومصادرة ابنائه والترويج لخطاب سياسي أقرب لخطاب أعداء العرب وليس أصدقاءهم.

ليس لهذه النخب الاّ الحلم، خاصة وان النظام السعودي ما زال مصادرا من الخارج. هذا الخارج يعتقد ان اطلاق الحريات في الداخل السعودي قد يؤثر على مصالحه وعلى تصدير الطاقة. وهو اليوم يصمت على التعديات على حقوق الانسان وعلى حرمانه من الكثير من حقوقه التي ضمنتها الشرائع السماوية والقوانين العالمية. ولم تكن هذه النخب الممنوعة من السفر تعول على الضغط الخارجي لانها واقعية، وتعلم علم اليقين مدى اهمية المصالح المتبادلة بين القيادة السعودية ونظيرتها في العواصم العالمية التي تدعي مناصرة حقوق الانسان، ولكنها على ارض الواقع تتبع مبدأ النفعية، وتضحي بمفاهيمها وقناعاتها مقابل صفقة اسلحة او برميل نفط.

تظل هذه النخب صامتة ممنوعة حتى من الاحتجاج او التضامن مع اخوة لهم في لبنان. قد يطول صمتهم وحرمانهم من التنقل والسفر خارج البلاد، لكن عندما توجد الارادة ستسقط كل الحواجز وتنهار كل الصروح. وربما تجعلهم معاناتهم الحالية يعيدون النظر في طروحاتهم السابقة والتي طرحوها على استحياء، وكلما طال سجنهم كلما اقتنع هؤلاء بانعدام الرؤية الاصلاحية على مستوي القيادة، التي لا تؤمن بسوى حكم القبيلة وغطرستها. ربما يعيد هؤلاء النظر بالاصلاح الحذر ودور القيادة في تدشينه، وما على هذه النخب سوى حسم خيارها الآن قبل فوات الأوان.

عن: القدس العربي: 28/8/2006

الصفحة السابقة