صعوبة التفريق بين المعتدل والمتطرّف السلفي

معتدلون (وسطيّون!) في الحرب على الإرهاب

محمد بن علي المحمود

نقض خطاب التطرف والإرهاب، كان من امتيازات التيار الليبرالي، وأنه التيار الوحيد الذي مارس مساءلة حقيقية للمبادئ والأصول التي ينهض عليها خطاب الإرهاب. لم يكن، هذا مجرد ادعاء، كما لم يكن جهلا، أو تجاهلا لما قام آخرون من محاولات ـ صادقة وغير صادقة ـ في صد طوفان التطرف الذي كاد يجتاحنا. الجميع حاول أن يرد صائلة التطرف، ولكن كل وفق رؤيته الخاصة ومشروعه الخاص. ما سوى التيار الليبرالي، وخاصة التيار التقليدي، مارس مكافحة التطرف. لكنه كان يكافح التطرف، في الوقت الذي يقف فيه هو والمتطرف على أرضية واحدة. الخلاف لم يكن في الأصول، ولا في المبادئ العامة، بل ولا في متتالياتها الحتمية، وإنما كان في الحلقة الأخيرة؛ بعد الاتفاق على عشرات الخطوات الاستدلالية، إلى حيث يصل الأمر إلى جواز القتل والتفجير. وهنا ـ وهنا فقط ـ يختلفون، ويكون اختلافهم في التطبيق، دون التنظير.

يتفق التيار التقليدي مع الإرهاب في المبادئ العامة، وفي الأصول، بل وفي المنحى الاستدلالي، كما يتفقون في الطبيعة الثقافية، ومن ثم في تفسير التاريخ (التاريخ بوصفه صيرورة)، وفي رؤية الواقع. لا تبقى إلا الحلقة الأخيرة من حلقات الرؤية والاستدلال، وهي: هل من الأجدى والأنفع ـ لمصلحة الإسلام زعموا ـ أن نقوم بالتقتيل والتفجير؟ هنا، يرى التيار التقليدي أن هذا التقتيل والتفجير لم ينفع الأمة في شيء، بينما يرى الإرهابي أنه أمر جِدُّ نافع، ولا يختلفون إلا في قياس مستويات الضرر والنفع للأمة جمعاء.

هذا يعني أن التيار التقليدي كان سيوافقهم على هذا التقتيل والتفجير؛ فيما لو اتفق معهم على العائد الإيجابي لهذا العمل الإجرامي. هذا العمل الإجرامي المدان، كان سيكون ـ وفق هذا المنطق الاستدلالي للتيار التقليدي ـ من أفضل القربات عند الله؛ لأنه ـ حسب ما يزعمون ـ جهاد في سبيل الله، والجهاد ذروة سنام الإسلام، وباق إلى قيام الساعة. الخلاف بينهم ليس على قبول الجريمة أو رفضها، وإنما على مدى جواها في سبيل الانتصار للإسلام.

ومما يؤكد هذا الاتفاق الفكري والثقافي، بين عناصر التيار التقليدي وعناصر التيار المتطرف، أن جميع الكتب التي تعد من الأصول المرجعية في منظومة التقليد، هي أصول مرجعية للمتطرفين. بل إنهم في أحسن الأحوال ـ أو أسوأ الأحوال، لا ادري! ـ يتفقون في تسعة وتسعين بالمئة وتسعة من عشرة، من الكتب والمراجع التي تغذي تيّار التطرف. ولولا الحرج للكثير؛ لذكرت المراجع المذهبية ـ بأسمائها، وأسماء مؤلفيها، وشارحيها المعاصرين ـ التي يتدروش عليها هؤلاء وهؤلاء، ويُنظّرون فيها للتكفير والتفسيق والتبديع.

إذن، كيف يحارب التطرف والإرهاب، من يتأبط ـ صباح مساء ـ مراجع التطرف والإرهاب، وكيف يدين التكفير، من وضع الأسس له، وأسهم في شرح (النواقض!) الشهيرة التي بها يتم التكفير. وكمثال، من يعد الدخول في منظومة الأمم المتحدة كفراً؛ بوصفها تحمل أنظمة (قوانين) غير إسلامية، وأنها من قبيل الاحتكام إلى الطاغوت، ويقوم بشرح هذا، وتعميده في أحد نواقض الإسلام، مثل هذا، لا يستطيع أن يحاجّ المتطرف الذي يكفرنا؛ لأننا دولة عضو في هذه المنظمة الدولية. لم يزد المتطرف على التقليدي في هذا المبدأ (أو الناقض) سوى أن قام بالتطبيق، بينما أقرّ بالتقليدي بالتنظير وسكت عن التطبيق.

السكوت عن التطبيق، لا يعني الاختلاف الجذري حول المبادئ التي يتم التكفير على ضوئها ـ فالاتفاق واضح كما سبق ـ بل يعني أن التطبيق مؤجل إلى حين. ومن هنا يتهم التيار المتطرف التيار التقليدي بالمداهنة، وبيع المبادئ؛ لأنه يراه غير صادق مع مبادئه. يراه يقول بالمبادئ التكفيرية ذاتها، وفي الوقت نفسه (يجبن، كما يصفه المتطرف) عن تطبيقها. وبهذا يصبح ما يميز بينهما ليس المنطلقات الفكرية، والخلاف حولها؛ إذ لا خلاف، وإنما هي مسألة: الشجاعة من عدمها. والمتطرف يدعي ـ ويحاول أن يثبت ميدانياً ـ أنه الأشجع، والأصدق، والأبعد عن مستنقعات النفاق. هكذا ندرك استحالة أن يقوم التيار التقليدي بدور مهم في مكافحة التطرف لدينا. كما ندرك أن الخطاب الليبرالي، هو الخطاب الوحيد ـ على الأقل إلى الآن ـ الذي مارس ويمارس نقدا جذريا ـ قدر ما تسمح به الظروف ـ لأصول الخطاب المتطرف. التيار التقليدي، والمعتدلون (الوسطيون كما يزعمون) ليس لديهم استعداد حقيقي وصريح، للقطع مع المنظومة التقليدية، التي يتكئ عليها المتطرفون في التكفير.

لا بدّ من الصراحة والوضوح. المتطرف بطبيعته إنسان حاد، ولكنه واضح، فلا بد من محاورته بكل وضوح. كما أن جماهير الخطاب المتطرف، هم من البسطاء. وهؤلاء لا يقنعهم غير الوضوح، وعدم التناقض. هذه الجماهير التي يختطفها الخطاب المتطرف، لا يمكن أن تقوم ـ أيها التقليدي ـ بشحنها بمفردات التكفير، ثم تقول لها: من (المصلحة!) التطبيق هنا، وليس من (المصلحة!) التطبيق هنا. إنها جماهير ـ مهما كانت ساذجة، ومنقادة عاطفيا ـ تعي ضرورة تعميم المبدأ، وأن هذا من ضرورات الاستدلال، كما أنه من ضرورات العدل.

الخطاب الليبرالي، ينقض كل هذا من جذوره. ان يقيم مساءلة حادة، ومستمرة مع أصول المنظومة التقليدية التي يتم التكفير من خلالها، كما أنه يعيد النظر في طبيعة الاستدلال، وفي تفسير حركة التاريخ. وهذا يجعل منه خطابا قاطعا مع رؤى التطرف على أكثر من مستوى، عكس التقليدي الذي لا يقطع معه إلا في سياق التطبيق الميداني.

هذه الصراحة، وهذا الوضوح، وهذا الدور الفاعل الذي تميز به الخطاب الليبرالي، في مقاربة ظاهرة الإرهاب والتطرف، هو الذي جعله موضوعا للهجوم من قبل تيار التقليد. وهو هجوم وصل به إلى درجة التكفير، كما نرى ونسمع. وردة الفعل هذه تجاه الخطاب الليبرالي، هي شهادة له، أنه الخطاب الوحيد الذي يمارس نقدا حقيقيا للخطاب المتطرف، وليس نقدا متسامحا متعاطفا، يقول شيئا، ويسكت عن أشياء!

ومن هنا، فليس عجيبا أن نجد الخطاب المتطرف الذي يتبنى الإرهاب، لا يهاجم التقليدي، بقدر ما يهاجم الليبرالي. إنه يدرك أنه يلتقي مع التقليدي في الكثير والكثير، وأن الخلاف بينهم لا يتعدى التطبيق في مسائل محدودة، تمس الموقف من السياسي. بل إن الخلاف بينهم في هذا ليس على تحديد الموقف، وإنما على طريقة التعامل مع الموقف ذاته، وهو موقف متفق عليه فيما بينهم.

من بين هؤلاء وهؤلاء، يخرج أناس يدّعون (الوسطية!)، ويحاولون القيام بدور (المرازبة الجحاجح!) العقلاء، في الفصل بين الخصومات. وهم يصنفون ما يقوم به التيار الليبرالي، من تشريح للظاهرة الإرهابية، بوصفه خصومة واحترابا مع الإرهاب. وهم يسعون للصلح، وللتخفيف من حدة الهجوم. وطبعا، للتخفيف من حدة الهجوم الليبرالي على خطاب التطرف.

هؤلاء (الوسطيّون) يريدون أن يكون التعامل مع ظاهرة الإجرام الإرهابي، تعاملا سطحيا. لا يريدون أن نطرح الأسئلة عن ماهية الإرهاب، ولا عن الأصول الفكرية، ولا عن المرجعيات المذهبية، ولا عن العلاقات الخفية الحزبية، ولا عن الخطر المستقبلي، الذي قد لا يرى في المدى المنظور. يريدون منك ـ فقط ـ أن تقول للإرهابيين: لقد أخطأتم، وما فعلتموه جريمة..إلخ. ويرون أن مكافحة الإرهاب تكون بهذه الطريقة التي تحصره في الجريمة الميدانية فحسب.

الإرهابي ـ بطبيعته ـ غبي، ولكن غباءه مهما استغرقه، لن يصل به إلى مستوى أن يقول له صاحب العمامة: لقد أخطأت؛ فيترك التطرف والإرهاب. لا أحد بهذا المستوى من الغباء، أو الإمعيّة. الإرهابي الذي تشرب التكفير من منظومة التقليد، واعتقد أن هذا التكفير (عقيدة) يدين الله بها، ومستعد للموت في سبيلها، لا يمكن أن يتركها لأن أحدا قال له: لقد أخطأت.

مدّعو الوسطية، يريدون منا أن نعالج ظاهرة التطرف المعقدة، والمتواشجة مع أكثر من بعد، بهذا المستوى من التسطيح. وعندما يتم اكتشاف عشرات الخلايا الإرهابية، وتنشر ـ مرافقة للفعل الإرهابي ـ عشرات الكتب التكفيرية، فنعمد فضحها، وتسليط الضوء على علائقها في خطاب التطرف لدينا، نتهم بأننا نستغل الوقائع الإرهابية لتصفية الحسابات (أية حسابات!) لا لشيء، إلا لأننا لم نكتفِ بأن نقول للإرهابي: لقد أخطأت، أو هذا جريمة، وإنما قمنا بتشريح الظاهرة، كما هي في الواقع، أي بحجم امتداداتها وعلائقها.

هؤلاء الذين يتخذون موقفا (وسطا!) في الحرب على الإرهاب، يمكن تصنيفهم على النحو التالي:

الأول: جهلاء بحقيقة التطرف، ومسطحون ـ فكريا ـ بحيث لا يعون الظواهر إلا في حدود وجودها المتعين، أو تمظهرها الأخير. وموقفهم المتسامح هذا ـ بعد إحسان الظن بهم ـ ناتج عن تدين عاطفي ساذج، يحاول حصر التطرف كله في (الجريمة) المادية التي يقوم بها المتطرف، بينما لا يرى في التطرف ذاته ـ من حيث هو فكر فسلوك ـ أية جريمة، بل ربما عدّ هذا التطرف زيادة (محمودة) في التدين. وهؤلاء يمكن أن يكونوا من الجماهير. لكن، لا يمكن فهم كيف يكون منهم، من هو من حملة الأقلام!

الثاني: من تربطهم بالتطرف علائق فكرية، واجتماعية، وتنظيمية. وهؤلاء يعزّ عليهم أن يفضح التيار المتطرف على هذا النحو من الصراحة والوضوح. وهم يدركون أنهم شركاء في التطرف كفكر وكحركة ـ حتى وإن لم يعترفوا بالتوصيف ـ وأن أصابع الاتهام تكاد تفضحهم. وطبيعي أن يدافع هؤلاء عن الإرهابيين بطريقة غير مباشرة؛ لأنهم في الحقيقة يدافعون عن أنفسهم، وعن وجودهم الذي يرونه لا يكون إلا من خلال الانتماء العقائدي للتطرف.

هؤلاء يخفون تطرفهم، أو كما يرون، يخفون (إيمانهم!) لأنهم لا يأمنون على أنفسهم. ولهذا يقومون بالدور الذي يدعي (الإنصاف) في التعاطي مع الإرهاب.هؤلاء، وعندما تضطرهم الظروف والمواقف، يدينون التطرف بتصريحات عامة، تجعل من التكفير والتفجير، مجرد: اجتهاد خاطئ. ويعقبون بأن الإنسان يخطئ ويصيب، ولا أحد معصوم!

هذا التيار يعي ما يقوم به، وهو يحسب خطواته بدقة. ومن ثم يتعمد هذه الإدانة المائعة؛ لأنها ستحفظ له خطوط الرجعة؛ فيما لو انتصر المتطرفون. وانتصار المتطرفين ـ في تصور هذا التيار ـ ليس بعيد الاحتمال، بل هو المرجح في عندهم؛ لأن العاقبة للمتقين، وهم يرون أن المتطرفين هم المتقون!. ومن ثم، فهؤلاء ـ قعدة الخوارج ـ فئة متربصة، تمني نفسها بانتصار (الشيخ!): أبي عبدالله، وقيام الخلافة الـ (بن لادنية) الإسلامية!. ولهذا، لا تجد لهم أية إدانة صريحة لهذا (الشيخ!): ابن لادن، أو الخليفة المنتظر، كما تتمنى قعدة الخوارج، بل إن بعضهم وصفه في برنامج فضائي على قناة (اقرأ) وفي برنامج (البينة) بالشيخ. وعندما تعجب مقدم البرنامج من هذا الوصف، وسأله عن ذلك، قال: (إن له سابقة في الإسلام).

الذين يمنحون شيطان الإرهاب الأكبر (ابن لادن) صفة: شيخ، لا نعجب حينما يضيقون بالخطاب الليبرالي الذي لا يداهنهم في شيخهم، ولا في منظومتهم التي يصدرون عنها. ويصبح من الطبيعي أن يتعمدوا الهجوم على كل من يقطع مع خطاب التطرف. وبما أنهم ليسوا صرحاء في تعاطفهم مع الإرهاب، كما كان هذا (الشيخ!) صريحا، فهم متغلغلون في كثير من مؤسساتنا، ويسعون ـ عبر وسائل شتى ـ لاغتيال (الاغتيال هنا بأنواعه) كل من يسهم ـ بجد وصراحة ـ في محاربتهم، وكشف دورهم في تلغيم عقول الأجيال.

الثالث: فريق تجاوز التطرف، ولكنه لم يقطع معه تماما. هؤلاء لهم تاريخ في التطرف، وفي الحشد لأفكار المتطرفين. ولكنهم ـ بحكم الظروف، أو تراكم التجربة، أو تنوع مصادر الوعي، أو ذلك كله ـ تجاوزوا الخطاب المتطرف، ولم يبق منه في أنفسهم إلا ذكريات الهوى القديم. وقد أدركوا ـ بعد لأي ـ أن خطاب التطرف خطاب مأزوم، وغير مجد في الواقع، وأنه يقود جماهيره إلى وضع كارثي. ولهذا طابوا عنه نفسا.

لكن، ومع كل هذا، يعزّ عليهم أن يروا الخطاب المتطرف موضوعا للتشريح الثقافي الذي لا يرحم. وبما أن الحب ليس إلا للحبيب الأول، فالعاطفة تدركهم، والذكريات تعطفهم. وبهذا فهم يدركون ـ فكريا ـ جدوى هذا العمل التشريحي، وصوابية الصراحة، ولكنهم ـ عاطفيا ـ لا يستطيعون تحمل هذا القدر من الفضح؛ لأنه ـ في النهاية ـ فضح للمعشوق القديم. ولا سر في ذلك، فمن يريد أن يعرف حقيقة هؤلاء، فليقرأ تاريخهم الفكري، والتنظيمي، أو شبه التنظيمي.

الرابع: الباحثون عن مكانة. وهم أكثرية الكتاب الذين يرون الكتابة مجرد مكانة اجتماعية، وليست فاعلية معرفية. هؤلاء وجدوا أنفسهم في مأزق، بعد أن اكتشاف خلايا الإرهاب، وتصاعد موجة النقد لخطاب التطرف. فهم لم يعرفوا أين يمكن أن يضعوا أقدامهم (أقلامهم!) في هذا الموقف. ماذا يقولون، غير ما قالوه سلفا، من تجريم الإرهاب في بعده المادي المتعين؛ في حين أن الذي يجري ـ ويجب أن يجري ـ هو فضح صريح، غير مهادن، للإرهاب.

ماذا يمكن أن يقول هؤلاء؟ خاصة وأنهم يرون الخطاب الليبرالي يقوم بمسؤوليته المعرفية والأخلاقية في مساءلة أفكار المتطرفين. إنهم في حيرة. وحيرتهم هذه نابعة من كونهم ذواتا اجتماعية؛ قبل أن يكونوا ذواتا معرفية. إنهم لا يبحثون عن الحقيقة، ولا عن الخطاب الذي يقارب الحقيقة، وإنما هم مهمومون بمكانتهم الاجتماعية، وكيف تمنحها الكتابة مزيدا من الوجاهة. الكتابة عند هؤلاء مجرد زي اجتماعي، وليست التزاما معرفيا وأخلاقيا.

هؤلاء يدركون أنهم إذا قاموا ـ هذا إن استطاعوا ـ بتشريح ظاهرة التطرف، كما يفعل الآخرون، فإن مكانتهم الاجتماعية ستهتز من جذورها، وستنفض عنهم الجماهير، وسيشكك فيهم المريدون. وهم لا يحتملون القليل من ذلك؛ لأن علائق وثيقة لا زالت تربطهم بالتيار الجماهيري (الغفوي) المتماهي مع خطاب التطرف.

هناك خيار السكوت. وهذا صعب جدا، ليس لأن جماهيرهم تطالبهم بالكتابة المنافحة عن التطرف فحسب، وإنما لأن نجوميتهم ككتاب، لا تسنح لهم بالسكوت، وإلا تراجعت هذه النجومية؛ لأنها تتجاهل الحراك الفكري الساخن، وتغمض أعينها عن حديث الساحة. وهذا ليس في صالح النجومية الكتابية، التي يرونها من زاوية نجوميتها الاجتماعية؛ لا غير. أما المعرفة، والالتزام الأخلاقي للمثقف، هي آخر ما يفكر فيه هؤلاء، ربما، لأن ليس ثمة معرفة، في صلب خطاب هؤلاء.

إذن، لا بد من موقف (المرازبة الجحاجح!). أي لا بد من الظهور بمظهر الكبير العاقل، الذي يفصل بين الجميع بالعدل، إنه (الثقيل، الجبال المثّل، أو رزانة الجبال؛ بلغة الفرزدق) لا يميل إلى أي طرف من أطراف الصراع؛ حتى وإن كان الإرهاب أحد أطراف الصراع. ولأنه حليم وقور، وصاحب تجربة ومكانة، أي من (المرازبة الجحاجح!) ـ كما تقول العرب في لغتها الشاعرية! ـ فسيلوم هذا الحليم الوقور، هؤلاء (الليبراليين) وهؤلاء (المتطرفين)، ويصف بالتطرف هؤلاء وهؤلاء، ويدعوهم ـ بذهنية عشائرية، أو أبوية تتبطرك ـ أن يكفوا ـ بإشارة منه ـ عن الشجار والخصام، وكأن الأمر مجرد شجار عارض!

هذا الدور، يكفل لصاحبه رضا جميع الأطياف، كما أنه يظهره بمظهر العاقل المنصف، الذي لا يدين الإرهاب بعنف، وإنما يسعى ـ فقط ـ إلى فض الاشتباك، والتأكيد على أن الجميع مخطئ. وطبعا، يستثني من هذا الجميع ـ بوعي أو من غير وعي ـ نفسه، كيف لا، وهو ذو العقل الراجح، الذي يمارس دوره الاجتماعي (لا حظ غياب المعرفة كسلوك) على أكمل وجه، ولا تذهب بلبه الحادثات، ولا تستفزه هذه الصراعات. إنه الذي يعرف الكثير، ولكنه لا يقول إلا القليل، فدوره ليس في المقال، وإنما تصميت المقال. ليس في الكلام، وإنما في وأد الكلام. ليس في الثقافي، وإنما في نفي الثقافي.

عن صحيفة الرياض، 7/6/2007

الصفحة السابقة