الغول الطائفي سببه فشل مشروع الدولة القطرية الإقصائي والطائفي

(المواطنة) في مواجهة تجار المذاهب والطوائف!


من أكبر المخاطر التي تتهدد دول المنطقة هو هذا اللعب على حبال الطوائف،
وهي الإثارة البدائية لأشكال التحزب على الهوية الدينية والمذهبية


عبد الله القفاري

برزت المشكلة الطائفية والمذهبية والعرقية في المنطقة العربية بشكل حاد ومقلق في الآونة الأخيرة. أصبح العراق نموذجاً باهض الكلفة للفرز الطائفي، على أن البعد السياسي هنا لم يكن غالباً فالتوظيف السياسي لهذا البعد لا يحتاج إلى دليل. إلا أن الوعي الطائفي والمذهبي، لو لم يكن مسيطراً على الجماهير المنتمية لهذه الطوائف لما اتخذ هذا الشكل الحاد والقاتل، ولما كان تجار الطوائف والمذاهب ـ قادة ومرجعيات ـ هم من يحرك تلك الكتل البشرية نحو اصطفاف طائفي أو عرقي أو مذهبي تجاوز مخاطر الفرز أو الإضعاف إلى الاحتراب والإبادة.

بين (حقوق الطائفة) و (حقوق المواطنة) تاهت معان كثيرة وسط هذا الطوفان الخطير الذي يكفي وحده لبناء جزر معزولة وينمي عقدة الخوف من الآخر القريب، ويعزز عقلية تستدعي الفرز على الهوية الطائفية بين أبناء الوطن الواحد والشعب الواحد والدولة الواحدة.

إن المحاولات التي تتوسل استعادة جذور الخلاف المذهبي بين أبناء الملة الواحدة كالسنة والشيعة في محاولة التقريب بين الانتخابات المذهبية، لم تحقق أي نجاح يذكر، وهي اقرب إلى الأمنيات منها إلى عقل أي جيل منتم إلى عقل طائفي، وكل محاولة أيضاً لنبش أضابير التاريخ ومدونات كتب العقائد أو وكلائهم الحاليين لإدانة هذا الفريق أو ذاك مصيرها الفشل بل وللأسف قد يترتب عليها مزيد من الفرز والاصطفاف.

من أكبر المخاطر التي تتهدد دول المنطقة هو هذا اللعب على حبال الطوائف، وهي الإثارة البدائية لأشكال التحزب على الهوية الدينية والمذهبية. الدولة العربية القطرية في العقود الماضية لم تكن قادرة على مواجهة تطوير فكرة الدولة من حدود الهيمنة والسيطرة الأمنية ولجم التناقضات ظاهرياً، الشاهد أن تلك التجربة ما زالت ترزح تحت الوعي الطائفي الذي تنامى في العقود الأخيرة لدرجة أن دولاً عربية صغيرة لا تحتمل فكرة الفرز، أصبحت تعاني منها وتعيش هاجسها، وأصبح عنوان المشهد السياسي هو عنوان المرجعية المذهبية، وهي قوى لم يكن لها أن تعيش أو تقوى سوى في ظل تراجع فكرة دولة المواطنة.

دولة المواطنة ليست مجرد عنوان سياسي بارز.. انها ممارسة ونظم ودساتير وقوانين وحياة سياسية واجتماعية وثقافية تتخلق منها فكرة جامعة، تعتمد فكرة مبدأ المواطنة وحقوقها التي طالما توسلتها التحزبات الطائفية على اعتبار الظلم التاريخي الذي نال هذه الطائفة أو تلك، وهو ما يخولها البحث عن نفسها تحت ظلال المرجعية المذهبية، التي تحولت من مرجعية فقهية إلى مرجعية سياسية أيضاً، أذكتها على وجه الخصوص فكرة ولاية الفقيه التي ابتكرتها إيران الثأئرة على الشاهنشاهية.

فشلت الدولة العربية القطرية تحت ولاية الأحزاب القومية التي تحولت إلى أحزاب عشائرية ونفوذ طائفي أيضاً بشكل أو بآخر، حيث عملت خلال عقود على إلغاء الحياة السياسية ومقاومة فكرة التعددية، ولجم الحريات الثقافية وانتهاك شروطها الإنسانية، وساهمت بفعالية في ترييف المدينة العربية.. وأخفقت في مشروع التنمية، ولم تنجح في أي مشروع توسلته، لا المشروع السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي، وأخيراً تحولت إلى دولة أمنيّة بامتياز، تتدرع فقط بالمؤسسة الأمنية لحمايتها.

كيف يمكن اليوم مواجهة حالة الفرز والاصطفاف الطائفي، هل يمكن أن يكون هذا عبر محاولة التقريب من الطوائف، وهل يمكن أن يحدث هذا عبر توسل المشهد التاريخي الذي نمت فيه تلك الطوائف، هل يمكن أن يكون هذا عبر مناظرات أو محاورات أو محاولة تقريب يائسة تستدعي التاريخ ولا شيء غير التاريخ.. مما يعزز حالة الفرز، هل يمكن استدعاء تاريخ ما قبل 1400عام في محاولة لمصالحة عقائد أصبح لها صفة الرسوخ والتمكين وتعتاش من خلالها قوى مذهبية وطائفية ولها مرجعيات ولها سلطات اجتماعية وسياسية لا يمكن الاستهانة بنفوذها أو الإقرار بأي قدرة على النهوض منها، غير توسل مشهد تاريخي في محاولة لإضفاء مسحة من التسامح أو القبول بالآخر.. أو حتى إعادة تلك القراءة التي قامت عليها عقائد ومذاهب وتاريخ لا يمكن التعامل معه بمنطق التجاوز ناهيك عن الإخفاء. أعتقد أن تلك المحاولات لن يكتب لها النجاح مع تقدير النوايا الطيبة التي تتوسل ذلك التقريب في محاولة للجم تلك التناقضات في حدها الأدنى.

في محاولة لفهم نمو هذه الظاهرة علينا أيضاً أن نستعيد تاريخاً قريباً - في زمن الأحلام العربية الوطنية والقومية بُعيد الاستقلال الوطني، لم يكن لهذه الظاهرة أن تنمو وتنتعش حتى تصبح هي الفاعل الأكبر في التأثير على جموع المنتمين لها. ظاهرة التحزب الطائفي والمذهبي وحتى العرقي لم تكن لتقوى لولا حالة الإحباط واليأس. لم تكن لتنمو هذه الظاهرة وتشتد لولا عتمة الاستبداد، ومحاولة الاستئثار بالسلطة عبر أداة القمع والإلغاء. ولم تكن لتنمو وتعزز لولا حالة الفشل التي مني بها مشروع الدولة القومية الاقصائية.

في زمن جيل عربي حالم كان شباب الطائفة الشيعية في العراق أو لبنان - على سبيل المثال - هم جزء حقيقي وفاعل في وقود الحلم العربي. ألم تكن أغلب كوادر وقيادات الأحزاب العلمانية والوطنية والقومية في العراق ذات انتماء إلى بيوت عربية شيعية.

السبب في نشوء ظاهرة الاصطفاف الطائفي والوعي المذهبي الذي تقدم على ما سواه يعود لعاملين: أولهما نجاح المؤسسة الدينية الشيعية في الاستحواذ على السلطة في إيران الثورة، مما عزز حضور المذهب السياسي الطائفي في المنطقة، والأمر الآخر حالة الفشل التي أصابت مشروع الدولة العربية القطرية في فهم ومعالجة تلك الجذور الأثنية سواء كانت قومية أو مذهبية والقمع التي طالت الأثنيات وانحسار الأحزاب والحركات السياسية العلمانية التي تلقت ضربات موجهة وتهميش الحياة المدينية السياسية. الاخفاق الكبير كان في العجز عن تقديم مشروع قابل للحياة، والاتكاء على الحزب القائد والرئيس الضرورة والدولة الأمنية التي لا تتميز بشيء أكثر من تعدد مؤسساتها الأمنية، ولا تبرع بشيء أكثر من متابعة أنفاس مواطنيها، ولا تقدم نجاحاً يذكر سوى عبر قمع أي تناقضات داخلية من خلال الأداة الأمنية وحدها.

ولا يمكن اليوم استعادة التاريخ القريب ناهيك عن محاولة فتح اضابير التاريخ البعيد محاولة مصالحة الطوائف. ما يمكن أن يقوم اليوم هو مصالحة المواطن لا مصالحة أو مهادنة طائفة. الطائفة تكوين ثقافي له حقوقه في ممارسة شعائره واحترام عقائده، لكن المشترك والبالغ الأهمية هي المواطنة التي بقدر ما تتعزز على المفهوم العريض لها تتروى تلك النزعة لاستدعاء الطائفة للتدرع بها.

قدر هذه الشعوب أن تتعايش بسلام أو أن ترضخ لتجار الطوائف والمذاهب والباحثين عن أنفسهم ونفوذهم وسط هذه التحولات القاتلة لمعاني الدولة/ الوطن الحاضنة لكل أبنائها. التباكي على الحالة العراقية اليوم واستعادة الطائفية وترسيخ وعي الفرز على الهوية الطائفية، نوع من الخلل الفكري في ملامسة قضية معقدة حلها لن يكون عبر الترحم على نظام استبداد حتى لو حفظ للدولة العراقية كيانها، إلا أنه كان أكثر عجزاً من المحافظة على هويتها الوطنية.

أين يكمن الحل إذن؟، لن يكون ثمة حل لهذه التناقضات الطائفية والحد من محاولة استغلالها سياسياً إلا عبر ترسيخ مفهوم المواطنة، أداءً وممارسة واقتراباً. ليس المهم التنظير لهذا المفهوم واستعادة نشوء فكرته التاريخية. هذا المفهوم مر عبر تحولات جعلت فكرة المواطنة في كل أنحاء العالم المستقر والمزدهر قادرة على استيعاب الأثنيات أياً كانت.

فكرة المواطنة في استعادة فكرة العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، وتجريم أي تميز طائفي أو مذهبي أو ديني أو قومي أو على اعتبار الجنس أو اللون أو العرق، وهذا المفهوم لن يترسخ سوى عبر ممارسة قادرة على وضعه كحالة قانونية ونظام دستوري حتى يصبح جزءاً من ثقافة اجتماعية له صفة الرسوخ والثبات والممارسة. المواطنة حقوق وواجبات. ليست شعاراً براقاً يرفع اليوم في محاولة للجم تلك التداعيات ولكن وسيلة فعالة كشفت قدرتها على لجم الفرز الطائفي والمذهبي والعرقي لصالح الانسجام الوطني.

مفهوم المواطنة مفهوم متصالح مع قيم المجتمع المسلم.. وفي الإسلام من القيم والمعاني ما يعزز هذا المفهوم. هذا المفهوم المتصالح مع القيم الثقافية قادر على تقديم حصانة فريدة من محاولات الاختراق عبر توسل الفرز الطائفي تحت حجية أو ذريعة المظالم التي تنال أي طائفة. النظام المستبد على مر التاريخ لم يتأخر في سحق خصومه دون اعتبار لطائفة أو مذهب أو تكوين.. إنه معني باستتباب النظام، لكن الذرائع التي تقدم اليوم تحت راية الاصطفاف المذهبي هي ذريعة تتجاوز اليوم فكرة المساواة بين أبناء الدولة الواحدة. تعميق مفهوم المواطنة وممارسة هذا الحق كاف لإضعاف حالات الفرز تحت حجية الحقوق المسلوبة، وبالتالي كاف لإحداث مجال رحب للعمل الوطني يتجاوز المرجعية الطائفية التي ستجد نفسها تعود إلى موقعها الطبيعي بعد أن يصبح الجميع تحت ظل حقوق المواطنة لا ظل المرجعية.

المسألة اليوم ليست مواجهة الفرز الطائفي أو محاولة سحب البساط من تحت أزمة تشتعل في المنطقة، لكنها أيضاً مستقبل شعوب وأوطان ودول عليها أن تتخلى عن امتيازات العشيرة أو الطائفة أو القبيلة في سبيل بناء دولة حديثة تستلهم تجربة تاريخية ما زالت ماثلة نتائجها أمام أعيننا في بلدان العالم الذي تجاوز هذه الإشكالية. إغلاق اضابير التاريخ أجدى من البحث فيها اليوم، وتجريم المحرضين على الأحقاد الطائفية أو إدانة العقائد أولوية في عرف دولة المواطنة. وتعميق مفهوم دولة المواطنة هو الوسيلة الوحيدة لانهماك الناس فيما هو أجدى لمستقبلهم ومستقبل أجيالهم، وهو الوسيلة الأفضل لإزالة الاحتقانات وإضعاف تجار المذاهب والطوائف على اختلاف مللهم ونحلهم، وهو الحصانة الكبرى اليوم من أي محاولة اختراق خارجي يأتي تحت ذريعة حقوق أو مظالم طائفة.

الرياض، 30/7/2007

الصفحة السابقة