النظام السعودي والفريضة الغائبة

فرانسوا باسيلي

حين أكتب عن النظام السعودي لا اكتب عن دولة ومجتمع سمعت عنهما من بعيد، وانما اكتب عن دولة ومجتمع عايشتهما وعرفتهما عن قرب، فقد اقمت في السعودية سبع سنوات كاملة اعمل مع شركة بكتل مديرا لقسم الترجمة ثم مديرا للمشروعات التجارية في مشروع الجبيل، الذي كان في نهاية السبعينات والي منتصف الثمانينات يعد اكبر مشروع هندسي في العالم بميزانية عشرين بليونا من الدولارات. وقد اتاح لي ذلك ان اعايش فترة هامة من فترات تطور المجتمع السعودي المعاصر، وان اشاهد عن كثب الكثير من بوادر الامل التي كانت تلمع في عيون شبابه، جنبا الي جنب عوامل الاحباط التي كانت تسارع الي اجهاض هذه البوادر قبل ان تتمكن من ان تري النور. حتي وصل الحال الي ما هو عليه اليوم من وضع كارثي ماساوي تقود فيه السعودية - دولة ومجتمعا - الحركة الوهابية التي اخرجت للعالم اكبر حركة ارهابية عالمية بزعامة شيخ سعودي من عائلة سعودية مرموقة: بن لادن.

فماذا حدث؟ كيف وصل الامر بنظام كان يستثمر موارده الهائلة في مثل هذه المشروعات العمرانية المدنية الجبارة الواعدة ومنها اكبر مشروع هندسي عمراني في العالم - في تحالف مع كبري الشركات الامريكية وصداقة مع الادارات الامريكية المتلاحقة - كيف وصل به الامر الي ان يصبح فجأة الاب الروحي الاكبر لمفهوم الجهاد لحركات الاسلام السياسي بدءا من طالبان وانتهاء بالقاعدة؟ كيف تتحول وعود الحداثة والمدنية التي كان يمثلها بالفعل مشروع الجبيل الذي عملت به الي ردَة حضارية تنتهي بقيام السعودية بدور الرائد للرجعية الثقافية في العالمين العربي والاسلامي؟

هذا التساؤل المحير، والتناقضات التي يكشفها، هي بعض جوانب ذلك اللغز الذي يمثله النظام السعودي، وهو لغز خفي علي اصحابه انفسهم، فهم لا يدركون ماهيته ولا ما الذي اوقعهم فيه. وبه تظل السعودية لغزا يصعب علي العالم فهمه، ويصعب عليه هو نفسه فهم العالم.

النظام - اللغز

لعل اسهل واوضح مظاهر اللغز السعودي هي تلك المتفردات التي ينفرد بها هذا النظام (الدولة والمجتمع معا) عن بقية دول ومجتمعات العالم.

فالمجتمع السعودي ما زال هو اشد مجتمعات البشر انغلاقا علي الذات واختلافا عن الآخرين. فالسعودية هي الدولة الوحيدة علي الارض التي ما تزال المراة فيها ممنوعة من قيادة سيارة! وهذا التفرد - علي بساطته - مذهل في الواقع فكيف يبرر نظام لنفسه مثل هذا الشذوذ عن المجتمع البشري؟ هل المراة السعودية هي وحدها دون نساء العالمين التي لا يمكن الوثوق بها؟ هل الرجل السعودي دون سائر رجال البشر هو وحده الذي لا يستطيع تحمل رؤية امراة تقود سيارة؟ هل المجتمع السعودي - دون مجتمعات الارض جميعها - هو وحده الذي اكتشف فضيلة ان تكون المراة مقودة لا قائدة لسيارة خاصة!

كذلك لا يوجد مجتمع آخر علي الارض يهيم في طرقاته رجال منفرون مكفهرون يلوحون بعصي وخرزانات يضربون من يصادفونهم علي الطريق من البشر كانهم حيوانات دابة - وهم يصيحون الصلاة يا ولد !

هذا بينما يتهادي سفراء وامراء واميرات هذا المجتمع في عواصم الغرب في احدث الازياء واكثرها عصرية واناقة وثراء. فكيف تكون القطيعة كاملة هكذا بين هؤلاء السفراء الامراء ومجتمعاتهم؟ كيف يمكن للانسان ان يعيش في عالمين مختلفين، وعصرين مختلفين - في نفس اللحظة؟

كذلك لا يوجد نظام (دولة ومجتمع معا) آخر علي الارض يتلفح باردية التدين والايمان والسلفية في جانبه الوهابي الذي يحكمه داخليا ويصدره الي الآخرين عن طريق آلاف المساجد والدعاة التي ينشرها في انحاء الارض بينما يسيطر رجال التجارة والمال من هذا المجتمع علي قنوات الاعلام الفضائية والورقية والالكترونية التي تقود مظاهر التحرر الي حد الابتذال مع تقليد ببغائي لمظاهر - وليس لجوهر - الحداثة الغربية، مقدمين ثقافة هي مسخ مشوه فلا هي عربية ولا هي غربية اذ افتقدت عطاء الابداع الحقيقي الذي لا يندلع الا من الروح الاصيلة للبشر في حياتهم اليومية علي ارض موطنهم بكل ما في ذلك من تاريخ وثقافة وتميز وخصوصية، وهو ما فعله مبدع مثل نجيب محفوظ الذي خطف الانظار العالمية لاستنباطه الروح المصرية المحلية الاصيلة.

والسؤال هو لماذا لا يركز هؤلاء الرواد السعوديون جهودهم علي تحديث بلدهم ومجتمعهم السعـودي اولا؟ لماذا يتركون اهلهم وابناء جلدتهم ويخاطبون الآخرين؟ ما هذا التناقض - الذي يشي بالنفاق والتخاذل وفقدان المصداقية - بين الاعلام السعودي (والتليفزيون السعودي نموذجاً) وبين اعلام السعوديين في قنواتهم الفضائية والالكترونية؟

ان هذه التناقضات والتشوهات في المشهد السعودي الحالي والتي يراها ويعرفها الجميع حينما يحدقون في اللغز السعودي من المنظار العربي تاخذ لدي المشاهدين في الغرب موقفا مشابها لذلك الذي وقفه كورتين وينزر، المبعوث الامريكي الخاص للشرق الاوسط في عهد ريغان، والذي عبر عنه في مقاله بمجلة ميدل ايست مونيتر عدد حزيران ـ تموز (يونيو/ يوليو) 2007 بعنوان السعودية والوهابية وانتشار الفاشية الدينية السنية والذي قال فيه انه علي الرغم من النجاح الذي حققته الولايات المتحدة حتي الآن في تدمير البنية التحتية لتنظيم القاعدة وشبكاتها الارهابية الا ان عملية التفريخ الايديولوجي للقاعدة ما تزال مستمرة علي المستوي العالمي. وان جهود امريكا لمواجهتها تظل قاصرة لان مركز دعمها الايديولوجي والمالي هو السعودية التي تقيم فيها العائلة الملكية الموالية للغرب ولسنوات طويلة تحالفا مع الوهابية الاسلامية، كما تحرص علي تمويل انتشار الوهابية الي بلدان العالم بما فيها الولايات المتحدة، وان ادارة الرئيس جورج بوش لم تبذل الجهد اللازم لمجابهة هذا الانتشار بسبب اعتمادها علي النفط السعودي والخوف من عدم استقرار المملكة والاعتقاد بان دعم امريكا للديمقراطية سيكون كافيا لمواجهة التطرف الديني. ويستعرض وينزر تاريخ نشأة الحركة الوهابية ودور الشيخ محمد بن عبد الوهاب في مزج قوة الدولة بالعقيدة في اطار الخلافة الاسلامية مشيراً الي العام 1744م كبداية لنشوء التحالف التاريخي بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب وآل سعود والذي مكن الاخير من بسط نفوذه، مقابل دعمه لاتباع عبد الوهاب في رسالتهم لتطهير الارض من الكفار.

هل الصورة تعبر عن حقيقة السعوديين؟!

وبعد قيام المملكة العربية السعودية في العام 1932م منح رجال الدين الوهابيون اليد الطولي في ادارة الشؤون الدينية والتعليمية. وظلت الوهابية محصورة في الجزيرة العربية حتي الستينات من القرن الماضي عندما نزح اليها عدد من الاخوان المسلمين من اتباع سيد قطب هرباً من بطش نظام جمال عبد الناصر ونشأ حينذاك التحالف السلفي - الوهابي وتبنيه الجهاد ضد الحكومات العلمانية الكافرة .

هكذا اصبحت مراكز الفكر والبحث في الغرب تفهم العلاقة بين آل سعود والوهابية ربما بدرجة اكبر مما يعيها الكثيرون من السعوديين انفسهم.

وقد ظهرت بعد الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) مقالات وابحاث وكتب عديدة عن السعودية ونظامها وعن الاسرة المالكة وعن الوهابية في محاولة لفهم هذا المجتمع الذي صدَر للغرب تنظيم القاعدة وحقق ضربة البرجين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن العاصمة. بينما لا نعرف عن دراسات مشابهة صدرت بالعربية!

الفريضة الغائبة

ان الفريضة الغائبة الحقيقية الجديرة بالاعتبار لدي مسلمي اليوم هي فريضة عصرنة الاسلام ، اي تحديث اساليب فهمه والاجتهاد في تفسيره وترشيد المسلم لمعايشة العصر، وحينما كنت في عملي بالسعودية في نهايات السبعينات تصورت ان السعودية مؤهلة للعب دور ريادي وقيادي نحو تأدية هذه الفريضة الغائبة، فقد بدا من اهتمامها الكبير بمشاريع التصنيع والتعمير ان لديها رؤية مستقبلية تستشرف ما بعد النفط، وانها قد قررت استثمار مواردها المالية الهائلة في ذلك الوقت في تحقيق تلك الرؤية المستقبلية.

وكانت اللحظة العربية والعالمية مهيأة لكي تلعب السعودية دوراً رياديا حضاريا مثيرا اذا ما اختارت ذلك. فقد منحها قرار الملك فيصل استخدام سلاح النفط لمساندة مصر وسورية في حرب 73 فائضا هائلا من المال كان يتدفق علي خزائنها بمعدل اكثر بكثير من معدلات قدرتها علي صرفه. فكان ذلك القرار ضربة حجر اصابت عصفورين في نفس الوقت، اذ اوقع علي الغرب ضغطا هائلا للاسراع في انهاء الحرب وهو ما حدث فعلا - فيما زاد من سعر النفط اربعة اضعاف محققا للسعودية وكل دول الخليج ايرادات هائلة منذ تلك اللحظة وحتي اليوم. وبالاضافة الي هذا كله ارتفعت المكانة العربية للمملكة السعودية بتلك الضربة بشكل كبير، اذ منحتها مكانة سياسية واقتصادية مضاعفة.

وراحت السعودية علي اثر ذلك تنكب علي انجاز مشاريع عمرانية واقتصادية ضخمة بشكل بالغ السرعة، وتدفق العمال والفنيون من كل قطر عربي - خاصة من دول الجوار مصر والسودان والاردن وسورية - للعمل بالسعودية، مما احدث تغييراً في مجتمعات هذه الدول عندما كان هؤلاء يعودون الي بلادهم محملين ليس فقط بالاموال ولكن ايضا بالفكر الوهابي وممارساته المتشددة مثل فرض الصلوات علي الجميع وايقاف كافة انشطة الحياة لأدائها وتحجيب او تنقيب المراة واعادتها الي البيت وحجبها عن اعين الغرباء واللجوء للفتاوي وتحكيم رجال الدين في كل امور الدنيا وتحويل المجتمع الي حفلة زار دائمة الهياج والصخب الديني.

وكان لا بد مع حالة الالتهاب الديني هذه ان يتراجع كل شيء آخر في المجتمع. فذبلت الانشطة الفنية والفكرية والاعلامية والثقافية والعلمية وكافة اوجه الابداع البشري الذي يخمده المتزمتون الذين هم بطبعهم خاملون فقراء الموهبة - لصالح ارتفاع الصخب الديني علي دقات طبول حفلة الزار القائمة ابدا في الشوارع والمكاتب والمحال التجارية وكافة الاماكن العامة. وهذا ما كان وما يزال قائما في السعودية. وهكذا صدَرت السعودية فكرتها الوهابية الي المجتمعات العربية الاخري، ووجدت في تنظيمات الاخوان المسلمين القائمة بهذه المجتمعات اعظم حليف وسند لها في نشر دعوتها السلفية المتشددة ونجحت في ذلك نجاحا عظيما في وجود حكومات ضعيفة بينها وبين شعوبها قطيعة في معظم هذه الدول.

بدلاً من قيادة نهضة عربية جديدة بما تملك من مكانة روحية واقتصادية وسياسية انتهت السعودية الي قيادة ردَة حضارية هائلة تحت مسمي الصحوة الاسلامية - ارتفعت فيها رايات الوهابية السلفية وتراجعت رايات النهضة العربية بمضامينها القومية والعلمانية والمدنية وافكارها التحررية والليبرالية بمختلف تنويعاتها. ربما يقول البعض ان انتظار قيام السعودية بدور ريادي نهضوي هو امر رومانسي وغير معقول، فمجتمعها البدوي غير مؤهل لمثل هذا الدور وفاقد الشيء لا يعطيه، واعترف انه ربما كان في موقفي ذاك رومانسية غير مبررة ولعل دافعي كان الرغبة المتلهفة في رؤية نهضة جديدة في المنطقة ليس بالضرورة ان تكون مصرية، فالنهضة في اي بقعة عربية لها ان تنتشل معها بقية البقاع والاطراف. وكان لضخامة الحركة العمرانية في السعودية والتي كنت مشاركا فعليا في تحقيقها في موقعي كمدير للمشروعات التجارية لمشروع الجبيل كجزء من ادارة شركة بكتل، ما يجعلني استرسل علي ذلك النحو الرومانسي. ولكن ما كان يجعل ذلك محفوفا بالشكوك انني لم المح اي مظهر من مظاهر النهضة الثقافية الفكرية التي كانت ضرورية لمصاحبة الحركة العمرانية الاقتصادية. ففي النهاية لا يملك المال وحده ان يصنع حضارة ولكنه يحتاج الي توهج فكري وتحرر ابداعي يفجر الطاقات والمواهب الكامنة في الشباب لكي ينطلق خالقا ومبدعا ومشيدا، زارعا وصانعا ومبتكرا، مفكراً ومعبراً ومعلما، وهذا لم يحدث، ولم يبد ان مثل هذه الرؤية كانت لدي القيادة السعودية، التي لم تظهر اهتماما سوي بارساء البنية التحتية من طرق وموانيء ومدن ومبان، دون التفات الي اهمية بناء البنية التحتية الانسانية عن طريق الانفتاح الثقافي والفكري والفني.

اختطفت الدولة والإصلاح

السعودية والناصرية

يقدم البعض تبريرا لنكوص السعودية عن وعد النهضة الشاملة بظهور الثورة الاسلامية في ايران وما شكل هذا من تهديد مباشر للمملكة. واضطرها الي الدخول في سباق لاثبات جدارتها بحمل لواء الصحوة الاسلامية ولذلك تخلت عن احلامها النهضوية التحررية وانجرفت في مزايدة ضد ايران علي من منهما صاحب الهوية الاسلامية الاكثر نقاء واصولية وسلفية. ولكن هذا العذر هو اقبح من الذنب. وقد كان يمكن للسعودية، لو امتلكت الرؤية الحضارية التاريخية والمستقبلية الصحيحة المتوثبة، ان تختار الخيار النقيض، فتكون هي رائدة التحرر الاسلامي والعصرنة الاسلامية في مواجهة نظام ايراني يمنح آيات الله مكانة وسلطة فوق بشرية جاء الاسلام بتعاليم واضحة تنهي عنها. وقد كان يمكن للسعودية ان تنتهز هذه الفرصة لانتزاع دور قيادي روحي واصلاحي معا بان تواكب النقلة العمرانية بنقلة موازية لتحديث الوهابية وتحرير رؤيتها المتشددة. ولكن كان ذلك سيتطلب مواجهة مع اركان الوهابية وجماعة الامر بالمعروف المتسلطة علي رقاب العباد باسم الدين. واختارت القيادة السياسية عدم القيام بهذه المواجهة وبهذا اهدرت فرصة تاريخية للريادة الحقيقية لعصر جديد يؤسس لبناء الحجر والبشر معا.

وكان خيار المواجهة هذا هو ما فعله عبد الناصر حينما حاول الاخوان اغتياله في ميدان المنشية بالاسكندرية عام 1955 فضربهم ضربة اقعدتهم خمسة عشر عاماً كاملة حققت مصر فيها معدلات تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية شاهقة واقتربت من عصرها بشكل مثير وجميل حقا. واللافت ان عبد الناصر وجد نفسه مضطرا للدخول في مواجهة مع النظام السعودي الذي وقف موقفا معاديا لخطاب الثورة بابعاده الجمهورية الشعبية الوحدوية العلمانية (اي الفاصلة بين الدين والسياسة وليس الالحاد )، ولذلك نعت عبد الناصر النظام السعودي بالرجعية العربية، ورغم عدم شغفي بمثل هذه الصفات الجاهزة الا ان النظرة التاريخية الموضوعية تجعلنا اليوم نكتشف كم كان هذا الوصف دقيقا، فها هي السعودية تجهض احلامها الواعدة بنفسها وتجبن عن مواجهة قوي الوهابية الخارجة عن العصر وتزايد عليها في صفقة مع الشيطان تبيع له فيها روحها في مقابل ان تحصر الوهابية جهادها خارج المملكة. وراحت تغدق عليها بالاموال بما يصل اليوم الي حوالي مائة بليون دولار! وهو رقم خرافي كان بامكانه ان يحدث نقلة نوعية لو كان قد استثمر في تحديث التعليم والاعلام السعوديين.

غياب الوعي

ان اكثر ما يثير الشفقة والحزن هو مشهد انسان لا يعي ذاته ولا يكاد يدرك كنه نفسه، ويبدو النظام السعودي - دولة ومجتمعا - في هذه الحالة من عدم ادراك الذات وغياب الامتلاك لحس قوي واع بالنفس. وتسال ما هي صفات ومميزات ومواهب وهبات النظام السعودي وما الذي قدمه للبشرية وللحضارة منذ تاسيس الدولة السعودية؟ فلا تكاد تجد اجابة، فقد كانت السعودية دائما في موقف رد الفعل لا الفعل، والتبعية لا الريادة، فقد كان موقفها الاساسي في الخمسينات والستينات مجرد رد فعل للحركة الناصرية، باستثناء استخدامها لسلاح النفط مرة وحيدة لم تتكرر في عهد الملك فيصل لم تقدم المملكة مبادرة او رؤية او مشروعاً عربياً هاما آخر سوي احتضانها لاتفاق الطائف في نهاية الحرب الاهلية اللبنانية ثم مبادرة الامير عبد الله التي تقدم الصلح والاعتراف باسرائيل من كافة الدول العربية مقابل الانسحاب لحدود 67 وقيام دولة فلسطينية. ولكن النظام السعودي اكتفي بطرح هذه المبادرة كمن يطرح رايا علي العالم دون اي جهد حقيقي او تعبئة او حشد للجهود لتفعيلها او الضغط علي اطراف الصراع لقبولها. وهذا موقف يدل علي عدم الجدية السياسية وكأن الامر كله رفع عتب ليس الا.

هل يعي النظام السعودي ذاته؟ هل يفهم نفسه؟ هل يستطيع ان يحدد اي نظام هو؟ في اي عصر يعيش؟ الي اي فكر ينتمي؟ ما دوره الروحي؟ ما دوره السياسي؟ ما دوره الثقافي؟ هل يسال رجل السعودية الاول في البلاط الامريكي - بندر بن سلطان - نفسه هذه الاسئلة ويعرف اجابات لها؟ حينما يجلس الامير بندر بالبنطلون الجينز بلا كلفة علي مسند المقعد ينظر بالفة الي الرئيس الامريكي جورج بوش الصغير ويبادله النكات، ويجاريه في القفشات هل يعتقد عندئذ انه قد نجح في تقديم صورة حضارية لمجتمعه في الخارج؟ هل يدرك مدي التناقض في هذه الصورة المسخ؟ هل هو مرتاح النفس انه سفير عصري لمجتمع يعيش في القرن السادس الميلادي؟ بدلا من الاستغراق في المراسيم والطقوس البهلوانية للدبلوماسية الارستقراطية الفارغة هل حاول التاثير في مجتمعه لانتشاله من ثقافة العشيرة ووضعه علي طريق النهضة الحقيقية التي لا تتنكر لذاتها ولكن تطورها وتهذبها وتعلمها تعليما جديداً مستنيرا مثيرا؟

كيف يعج مجتمع بكل هؤلاء المثقفين والكتاب والاعلاميين والامراء المتحررين الذين يريدون تحرير الانسان العربي في كل مكان ما عدا السعودية؟ فباستثناء مجموعة نادرة تطالب بالاصلاح ويطاردها النظام ويلقي برموزها في السجون فان كبار المثقفين السعوديين العاملين في كبريات الصحف والفضائيات والانترنت المملوكة لسعوديين لا يجاهدون اي جهاد لتحديث مجتمعهم وانما هم - بصمتهم - متواطئون لاستمرار وضعه السلفي الراهن. فاية مسخرة هذه؟

مع غياب الوعي بالذات غابت الرؤية الاستراتيجية، فقد جاءت مواقف المملكة علي مدي تاريخها - مع استثناءات نادرة - مضادة لحركات التنوير والنهضة العربية، وقدمت نفسها اداة لخدمة الاهداف الاستراتيجية الامريكية في ضرب الاتحاد السوفييتي في افغانستان - في اندفاع وراء هاجس ديني احمق - دون تقدير استراتيجي لدور الاتحاد السوفييتي في مساعدة العرب في صراعهم ضد اسرائيل، فحققت المملكة بذلك مصالح امريكية واسرائيلية بحتة.

ويبدو انها داخلة اليوم في طريق ستصبح فيه طرفا اساسيا في حرب سنية - شيعية تعيد فيها اخطاء صدام حسين وحروبه العبثية الماساوية ضد ايران، فغياب الوعي والرؤية يجعلانها غير قادرة سوي علي اتباع اهواء الادارة الامريكية وسياستها الغبية بالمنطقة، والتي لا تعود علي شعوب المنطقة الا بالكوارث. وها هي علي وشك الانجراف وراء هذه السياسة والسقوط في اهوال حرب سنية - شيعية تشعل وتحرق كل من فيها وما فيها.

هل هناك جيل سعودي جديد مدرك لذاته يستطيع التخلص من طبيعة اللغز وهوية التناقضات وصفقة الشيطان بين السلطة السياسية والوهابية السلفية فيقدم لنفسه ولمجتمعه رؤية جديدة جديرة بموقع السعودية التاريخي ومركزها ومواردها وامكاناتها، لكي يخرج المجتمع السعودي لاول مرة من كهف التاريخ ويجاهد الجهاد الحقيقي وهو اللحاق بالعصر والانضمام لبقية مجتمعات الارض التي تخلص البشر فيها من عاهة الهوس الديني والاصولية الدينية وانخرطوا في عمل جاد مفيد يدفعون به حضارة عصرهم قدما ويقدمون الخير لانفسهم وللآخرين.

نعم لقد تاخر الوقت واضاع النظام السعودي فرصا تاريخية للتغيير والنهوض والريادة، ولكن ربما لم يضع الوقت تماماً بعد.

ان التاريخ ما زال ينتظر، والتاريخ لا يرحم.

القدس العربي، 2/8/07

الصفحة السابقة