الخطاب الديني: المأزق والمخرج!

سليمان الهتلان

كأننا أخيراً بدأنا ندرك بعض أخطائنا ونعترف بها. للتو بدأنا ـ فيما يبدو ـ نعترف بخطورة الزج بشبابنا وقوداً في صراعات السياسة وأدوات رخيصة في معارك خاسرة أو لتصفية حسابات سياسية قديمة أو جديدة. في هذا الزخم من الضجيج القاتل، أخيراً بدأ صوت العقل، على استحياء، يبحث عن مكانة تليق به وبالحاجة الآنية لسماعه.

ما زلت مصرا على أن بإمكان الخطاب الديني المستنير أن يحدث أثراً إيجابياً كبيراً في رؤية شبابنا للواقع وللمستقبل. لا يمكن أن تنسف قناعات الناس ـ التي هي نتاج طبيعي لعقود طويلة من التهييج والترويع والتضليل ـ أو تغيير المواقف بين عشية وضحاها أو بخطبة أو فتوى مختلفة. ولا يمكن الآن تجاوز الخطاب الديني في مواجهة أزمات المجتمعات العربية وإشكالياتها. فما تم زرعه على مدى عقود يحتاج إلى جهد أكبر وربما زمن أطول لتصحيحه (أو استبداله) بشرط أن نملك الجرأة والرؤية والنية الصادقة لإصلاح ما أفسدته أنظمتنا التعليمية وخطاباتنا الدينية والإعلامية لعقود.

لا بدّ من البدء في 'مشروع' متكامل يخطط للمستقبل برؤية واعية لحقائق الراهن وإمكانات وتحديات المستقبل، مشروع يجب أن يقوم عليه المؤهلون من المنفتحين على العالم وأهل الرؤى التنويرية والواعية بما يحمله المستقبل من تحديات. البيانات الدينية التي صدرت مؤخراً تحذر شبابنا من التورط في أعمال إرهابية داخل أو خارج حدودنا (باسم الجهاد) تأتي في غاية الأهمية حتى وإن جاءت متأخرة. لكنها يجب أن تتواصل وأن تأتي صادقة وواعية بمخاطر الزج بالشباب في ألاعيب السياسة ومتاهاتها باسم الدين والقضايا الوطنية. وتلك البيانات التي بدأت في الظهور تردد ما نبّه له كثير منا منذ سنوات (و تحديداً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية) وبسببها كُفر بعضنا أو ألحقت بهم تهم الخيانة والتبعية وربما الإلحاد أو الضلال الفكري، وتلك ضريبة الجرأة الفكرية والمسؤولية المهنية والأخلاقية التي يضحي من أجلها المثقف المسؤول عكس الآخر الذي يجاري الريح والأمزجة.

علينا، مفكرين وناشطين وسياسيين وإعلاميين ممن ينشد الإصلاح لبلاده وأهله، أن نحتفي بأي بادرة إيجابية من قبل صناع الخطاب الديني الجديد ذي الرؤية الناقدة والإيجابية من أجل بناء نهضة حقيقية تمنح مجتمعاتنا فرصة جادة للبناء والإسهام في المنجز الحضاري العالمي. لماذا لا نقرأ جيداً تجارب الآخرين في الاعتراف المسؤول بالهزيمة والانطلاق منها إلى إسهام حضاري صناعي عالمي كبير؟ كيف كان لليابانيين الانتقام من هزائمهم لو لم يعترفوا أولاً بالهزيمة قبل الشروع في تحد صناعي وثقافي كبير قاد إلى تميز صناعي وتقدير عالمي؟ أنا ممن يؤمن بأن العلم وحده هو المنقذ من كوارث متسارعة سيجلبها الإنسان لنفسه إن أغرق في الكذب على نفسه أو أسرف في تمجيد 'انتصارات' الماضي وإنجازاته. لكن العلم لا يتعارض مع قيم الناس وعاداتها وتقاليدها أو عقائدها الدينية. من هنا تأتي أهمية أن نحث رموز الخطاب الديني الجديد على كسر تلك 'القدسية' التي تشكل حواجز منيعة بين الإنسان والأسئلة الجريئة حول رؤيته لذاته ولمحيطه ولـ 'الآخر' القريب أو البعيد.

لن ننطلق في أي مشروع حضاري قبل أن نحرر الإنسان أولاً من الرقابة ـ بكل أشكالها ـ التي تحاصر عقله إن شرع في السؤال الجريء والمباشر.

لكم يحزنني أن أسمع قصصاً لعشرات من شبابنا قادتهم الغيرة على أمتهم إلى أتون معارك سياسية، ليس لها علاقة بقضايا الأمة الحقيقية، ثم إلى الموت العبثي باسم الجهاد. أنظر كيف يتنافس الشباب في دول العالم الأول على الابتكارات في العلوم والطب والتكنولوجيا الحديثة فيما العشرات من شبابنا يتنافسون على من يصل أولاً إلى ساحات الموت العبثي والمأساوي.

ما ذا لو استثمرت طاقات شبابنا للمنافسة على الإبداع العلمي والفكري؟ وماذا لو خصصنا جوائز مالية ومعنوية كبرى للمبدعين من شبابنا في كل الأصعدة؟ وماذا لو أنفقنا نفس القدر من الملايين والجهود التي تنفق على 'مزايين الإبل' وأمثالها لإعداد مشاريع متواصلة لابتعاث المميزين من أبنائنا وبناتنا للجامعات العالمية المميزة؟ كيف يمكن أن نؤسس لثقافة تبجل المتفوق علمياً وتصنع 'قدوة' في مجالات الطب والكمبيوتر والفن الراقي؟

أكاد أجزم أن الخطاب الديني المستنير لن يسهم فقط في تغيير أولويات الشباب من الموت إلى الحياة ولكنه يستطيع أيضاً أن يحث طاقات شبابنا نحو الإبداع والمنافسة الخلاقة. صحيح: الخطاب الديني، مهما كان تقدمياً في رؤيته وإنسانياً في لغته، لن يحقق ما نطمح له هنا من دون خطط اقتصادية وتنموية شاملة تتبناها الحكومات وتُشرع في تنفيذها مؤسسات مؤهلة بجدية وشفافية، لكن البدء في أي مشروع حضاري جاد لن يتحقق ما لم نتخلص من إرث الخطابات السابقة، بكل أنواعها، التي أسهمت في تشكيل ثقافة كاسحة لا تنجب سوى هذا التطرف، في اليمين أو في الشمال، ولا تنتج سوى هذه الثقافة المسيطرة من تسطيح القضايا والاهتمامات كما لو أننا أمة وضعت نفسها أمام خيارين فقط: الموت العبثي السريع باسم الجهاد أو الموت العبثي البطيء أمام شاشات التلفزيون في انتظار لا شيء!

هل تتحد الجهود والأفكار، من كل الأطياف، لصياغة مشروع حضاري إنساني تنويري عاجل في العالم العربي؟

تلك أمنية العيد!

الوطن، 10/10/2007م

الصفحة السابقة