في السعودية

الإرهاب.. ذكريات التأسيس الثقافي

محمد علي المحمود

تشير النجاحات الأمنية الأخيرة، في القبض على خلايا الإرهاب المحلي، إلى أن الإرهاب - كما نكرر دائماً - ليس ظاهرة إجرامية معزولة فحسب، وإنما هو منتج ثقافي، سيبقى في حالة إخصاب دائم؛ ما لم تتم عملية التعقيم الثقافي بجدية وحسم. طبيعة الخلايا، وعدد كوادرها، وتنوع أهدافها، وروح الإصرار، بصرف النظر عن النتائج، كل ذلك يؤكد أن البعد الثقافي، مازال هو البعد المؤثر بقوة في إمداد الحركة الإرهابية بالحياة.

جزء من إشكالية الثقافة الوعي العربي، أنه وعي آني ومباشر، يصيبه الفتور بعد اختفاء الظاهرة عن مجال رصده المباشر. نحن - كأبناء لهذه الثقافة - نستعجل حل المشاكل الكبرى، ونفضل السكوت عنها؛ لعلها تموت من تلقاء ذاتها. يستفزنا المباشر والآني، على درجة الإحساس الحاد بالمشكلة، ونعمل جادين على حلها، وتدارك تداعياتها. ولكن، ما إن تغيب عن مجال رصدنا، إلا وندخل في غيبوبة النشوة الخادعة بالانتصار.

كثير من المعنيين بالشأن الثقافي - فضلاً عن غيرهم - كان يلومنا في كثرة الحديث عن الإرهاب، ويتصور أننا عندما تحدثنا عنه مفصلاً في تاريخه ومصادره الثقافية، وحجم التعاطف معه، أننا نبالغ، وأننا نعطي المشكلة أكثر مما تستحق. وقد زادونا من حدة اللوم، بعد أن خفتت حدة الإرهاب في السنتين الأخيرتين، ورأوا أن هذا مؤشر مادي على أن الظاهر الإرهابية، ظاهرة عابرة، سرعان ما تزول، بمجرد القبض على رموز التيار القاعدي، أو قتلهم. ولكن، في كل مرة، كانت الكوادر تتجدد، والأسماء تتغير، ويبقى الإرهاب.

كثيرون لا يصدقون، أو لا يريدون أن يصدقوا أن هذا العنف الدموي الذي يهددنا في كل مكان، حتى في أقدس مكان وزمان، تم التأسيس له ثقافياً، على مدى أكثر من عشرين عاماً من زمن الغفوة غير المباركة. الجيل الذي نشأ على أشرطة الكاسيت، وكتيبات التحريض المباشر وغير المباشر، أفرز عن طريق الانتخاب الطبيعي، رأس الحرب الإرهابية المشرعة في وجوهنا اليوم.

المتعاطفون مع الإرهاب، أو على نحو أدق مع ثقافة الإرهاب، خاصة الذين لايلتزمون ببعد تنظيمي، وإنما هي سذاجة تصل حد الغباء، يؤكدون لنا في كل يوم أنهم سمعوا تلك الأشرطة المحرضة، وقرأوا تلك الكتيبات، واستلهموا تلك الكتب الموجهة، التي تصف الفكر الإسلامي المعتدل بالإرجاء، ولكنهم - مع كل ذلك - لم يصبحوا إرهابيين، بدليل أنهم لم يحملوا السلاح قط، ولم يفجروا أنفسهم في سبيل الله!، فما زالوا أحياء.

هؤلاء إما بلغوا من السذاجة حد الغباء القاتل، وإما أنهم متعاطفون ومؤيدون، ولكن في الخفاء، ولمن تعرفه إلا في لحن القول. إنهم لا يعون أن عميلة الاقتناع والتأثر، ومن بعدها الاستعداد النفسي والمادي للعمل الإرهابي، يجعل من عملية تكوين الشخصية الإرهابية عملية انتخاب طبيعي. وهذه النقطة، لا بد أن ننظر إليها من زاويتين:

الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون عدم التأثر بالخطاب المؤسس للإرهاب، يفهمون الإرهاب في حده الإجرامي المتعين في وقائع مباشرة. ومن ثم، لا يعدون الإرهابي إلا من حمل السلاح، ومارس التفجير. وبما أنهم لم يفعلوا، فهم يعدون أنفسهم براء من الإرهاب، بل ومن التأثر بالإرهاب؛ رغم تعاطفهم الواضح مع كثير من القضايا التي يزايد الإرهابي عليها. هم لا يدركون، أولا يودون أن يدركوا أن هذا التعاطف منهم، هو بحد ذاته ممارسة إرهابية بامتياز، وأنه لولا التأثر العميق - الواعي وغير الواعي - بتلك الثقافة المؤسسة، لكان موقفهم من الإرهاب ومن ثقافة الإرهاب مختلفاً، ولنظروا إليه كجريمة لا تقبل التبرير، كما ينظرون إلى مهربي المخدرات ومروجيها.

الثانية: أن عملية الاقتناع عملية معقدة، تخضع لعدة عوامل: نفسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافة قبلية.. إلخ. ومن ثم، فليس شرطاً لوصف خطاب ما بأنه خطاب إرهابي، أن يكون جميع من سمعه قد تأثر به؛ إلى درجة التعاطف معه، فضلاً عن مرحلة الاقتناع فالتنفيذ وحمل السلاح. ومن هنا، فعدم تأثر الجميع بالخطاب الإرهابي، لا يعني براءة هذا الخطاب من عناصر العنف المدمر.

إننا لو افترضنا أن فضائية إرهابية ما - كبعض الفضائيات التقليدية التي تكتسب هويتها من خلال الغلو الصريح - بثت برامج تؤسس للثقافة الإرهابية، على مدى زمني طويل، وضمن خطة إعلامية محكمة، تتغيا تخريج كوادر إرهابية، تمارس الإرهاب العملي، وأنها كانت موجهة إلى أربعين مليون مشاهد - مثلاً -، فإن عدم تحول هؤلاء الأربعين مليوناً إلى إرهابيين عمليين، لا يعني أن خطاب هذه الفضائية قد أصبح خطاباً غير مؤثر في الدعوة إلى الإرهاب، وتجنيد الكوادر العاملة؛ لممارسة العمل الميداني.

الانتخاب الطبيعي في مثل هذه الحال، ألا يتعدى حجم المقتنعين بهذه الفضائية أصلاً، من مجمل هذا العدد: عشرة ملايين. ومن بعد ذلك يكون عدد المقتنعين من هؤلاء العشرة ثلاثة أو أربعة ملايين، على تفاوت كبير في درجات القناعة. وسيكون عدد الذين سينشطون للعمل غير المسلح في ميدان نشر هذه الفكرة والترويج لها، في حدود نصف مليون على أحسن تقدير. لكن، من هذا العدد الكبير، سينخرط في المنظمات الإرهابية في حدود الخمسة آلاف إلى عشرة آلاف مقاتل. ومن هؤلاء سيكون هناك ألف أو ألفان، على استعداد تام، لتفجير أنفسهم، بغية تحقيق الرسالة الموجهة التي تبثها تلك القناة على مدار الساعة.

هكذا، يكون الإرهاب قد حقق انتصاره، حتى وإن هزم في ميادين الملاحقات الأمنية. إذ قد كسب عشرة ملايين مشاهد متأثر، وأربعة ملايين مقتنع متعاطف مبرر، ونصف مليون عامل في الميدان الثقافي غير التنظيمي للإرهاب، وعشرة آلاف مجند في المنظمات الإرهابية، وألفين، من الكائنات البشرية المفخخة التي تنقل الموت هنا وهناك.

لقد تعمدت أن أستعرض هذا المثال، على هذا النحو من التوضيح والتبسيط؛ لأن هناك الكثير ممن لايزال يجادل في أن الإرهاب من مخرجات الزمن الغفوي في تواشجه مع التقليدية السائدة في مقولاتها التاريخية الأولى. كثيرون لا يريدون أن يصدقوا أنه تم استغفال مجتمع كمجتمعنا، بخطاب يتلون بالدين، ويزايد على مجتمع متدين في أعمق أعماقه. حجم الخديعة التي مارسها خطاب زعم أنه يردنا إلى الإسلام من جديد، كبير ومروع، على درجة تجعلنا نمارس الإنكار، دون أن نعي لماذا. أولئك الذين زعموا أننا كنا - قبلهم - عن الإسلام نائمين، صوروا للكثير منا، أنهم أخرجوه من جاهليته وجاهلية آبائه، في خطاب لا يمكن - في مؤداه الأخير - إلا أن يقود إلى التكفير.

هذا الخطاب المنطوي على مقولات التمايز بين زمنين: زمن ظلال مُدّعى، وزمن هداية مُدّعاة، والذي تم توجيهه للمجتمع عامة، ولشبابه خاصة، خدع به كثيرون، لا لقوة فيه، ولا لصدق ينضح بالزهد والتجرد من قبل حامليه، وإنما لأنه مارس خداعه باسم الدين، وبمبررات النهوض بالإسلام. بل مارسه بوصفه - كما يدعي - هو حقيقة الإسلام الأولى، وأننا كنا قبله ضالين، نتخبط - كما يقول شيخهم - في جاهلية القرن العشرين.

كان هناك من لم يتحمل وهج الأحداث، ولم يستسغ المداهنة والمراوغة، وخاصة من غير الآباء المؤسسين لهذا الخطاب. ولهذا، سرعان ما جردوا أنفسهم لاستعادة موروث التقليدية، وأنزلوا مقولاتها الحدية على كل تشكيلات الزمن الراهن، وتصدوا للتأليف في هذا المضمار بكل إصرار ووضوح. وهكذا وقفوا بصراحة - عكس الآباء المؤسسين - مع الإرهابيين في بداياتهم الأولى، وأفتوا لهم بمواجهة الحكومة، ولو بالسلاح والتفجير، بدعوى التكفير؛ لأن شيخهم كان يفتي لهم - بصراحة موثقة - بأن طالبان، هي الحكومة الإسلامية الوحيدة، وأن على الجميع نصرتها بالمال والنفس، قدر المستطاع.

هؤلاء الصرحاء، أصدق بكثير مع أنفسهم ومع غيرهم، من أولئك الذين يؤسسون لثقافة الإرهاب، ويدعون البراءة من نتائجها. ولهذا دفعوا ثمن هذه الصراحة، وهذا الاستعجال - كما يقول أحدهم - في قطف الثمار. فالمسألة لم تكن مسألة خلاف على المبادئ، وإنما كانت مسألة توقيت، و(ضبط للنفس) لم يتدارسه هؤلاء المستعجلون من قبل.

ذكريات التأسيس تنضح بالكثير والكثير من المآسي. والمؤسسون مختلفون في درجة التصريح بالمقولات، وفي أهمية التوضيح للمراحل. ولا شك أن السياق يستدعي ذكر أسماء ومؤلفات. ولكن سأكتفي باستعراض نموذج واحد من رواد الزمن الغفوي، ومايزال. سأتناوله من خلال مقولاته، دون الإشارة إليه صراحة، ولا إلى عناوين محاضراته وكتيباته، التي يتدروش عليها كثير من مريديه اليوم.

إن أولئك الذين كانوا صرحاء في الإفتاء للإرهابيين بجواز ممارسة العمل الإرهابي المسلح، والذين هم الآن رهن الاعتقال؛ جراء تلك الفتاوى الإرهابية، لم يكونوا صرحاء فحسب، وإنما كانوا من الناحية المعرفية المحضة، التي تختص بتراث التقليدي، أعلم بكثير من هذه الشخصية التي سأتناول مقولاتها بالتحليل. وهذا لم يزد عليهم إلا بالنشاط الحركي والظهور الإعلامي، حتى أصبح من كبار الجماهيريين، ومن نجوم النشاط الغفوي، في تمظهراته الإعلامية كافة.

هذا الرجل، يحاول الاشتباك مع الواقع كثيراً، ويدعي فقه الواقع، وينظر لغيره، حتى ممن يفوقونه سناً وعلماً، في هذا المضمار: فقه الواقع. وهو يتصور أن فقه الواقع يكون بمجرد رصد المعلومات المجرد في أحدث صورها، ومن ثم، قراءتها بعيون تراثية. فهذا عنده هو الغاية في الاشتباك مع إحداثيات العصر، وغاية ما يجوز - من وجهة نظره - شرعاً.

بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، حاول أن يقدم رؤية تحليلية لهذا الحدث الكبير المفاجئ. وبما أن الرجل من دعاة التفاؤل دائماً، فقد رأى في هذا الحدث مقدمة حتمية لانتصار المسلمين على أمريكا. طبعاً: كيف توصل هذا العبقري في السياسة والدين إلى هذه النتيجة التي تتفجر العبقرية من جنباتها؟!. لقد رأى أن الروس في الراهن، يعادلون الفرس في الماضي (ربما لمح - بذكاء! - الراء والسين)، بينما أمريكا تعادل الروم (ربما لمح - بذكاء! - الميم والراء). وبما أن القرآن حكم بانتصار الروم في سورة الروم، ووقع هذا تاريخياً، ومن بعده انتصر المسلمون على الروم، فلا بد أن أمريكا ستنتصر على روسيا، وهذا ما حدث كمقدمة أولية مشاهدة من قبل الجميع. ولم يبق إلا الجزء الثاني: انتصار المسلمين على أمريكا.

صدقوني، لا أمزح، فهذا تحليل لرجل ناهز الستين، ويحمل أعلى الدرجات (العلمية!)، وصدقوني أيضاً، أن هناك جماهير واسعة، ليست من الغوغاء فحسب، وإنما ممن تعلم وتثقف - أو يفترض أنه كذلك - تتخذ من هذا المحلل الاستراتيجي!، مصدراً من مصادر المعرفة، ونموذجاً للرؤية التي تجمع بين التدين والمعاصرة.

ولأنه نجم فضائي شهير، ولأن سابقته في الغفوة لا تنكر، فهو يستضاف في كل واقعة من الوقائع التي ترتبط بالعالم الإسلامي. وحتى، إن غفل عنه - ولا يغفل عن مثله! - لكون الحدث لا يحتاج إلى برنامج خاص، فالرجل يتبرع ببيان مقتضب، سرعان ما تتلقفه المنتديات التي أنشأها مريدوه. فعندما تم إعدام الطاغية: صدام حسين، في العام الماضي، تبرع الرجل لبيان الموقف الشرعي. وهو يتذاكى، فلا ينساق وراء العاطفة، وإنما يظهر بمظهر الحكيم، إذ هو من دعاة الحكمة، ومن المنظرين لها. لهذا، عمد أولاً، إلى تجريم صدام، وبيان موقفه العدائي الواضح من الإسلام. لكن، سرعان ما يتباكى - بنفس طائفي مقيت - على وقوفه ضد الفرس الصفويين كما يقول. ويعتبر هذا، الإشادة بصدام، من العدل الذي يستوجب ذكر المحاسن والسيئات.

وليس هذا النفس الطائفي المقيت لديه، بأول تحريض طائفي، فهو من كان، يصارع في سبيل الاحتراب الطائفي، ويقدم النصائح تلو النصائح، داعياً إلى اضطهاد من لا يتوافق مع تياره التقليدي. وكان قد قدّم في أوائل التسعينيات مذكرة تنضح بالطائفية إلى درجة الجنون. فهو يرصد أو يترصد لإحدى الطوائف الوطنية، ويعدد المدارس المتاحة لها، وينبه إلى خطورة وجود بعض أفرادها في التعليم، أو في الميدان الصحي، أو الميدان الأكاديمي.

حقيقة، لا أدري ماذا يريد هذا، خاصة في هذه المذكرة الطائفية. يعدد المدارس والوظائف والأعمال التجارية. إنه هنا لا يقصد منظمات صهيونية معادية، وإنما يقصد شريحة من أبناء هذا الوطن. ماذا يريد منهم أن يفعلوا، وماذا يريد أن يفعل بهم؟!. هل يتعلمون في العراء، أم ينقطعوا عن التعليم أصلاً؟، هل يتركوا الوظائف، ولمن، ولماذا؟، بل هل يراهم مواطنين، أم لا؟، بل هل يراهم بشراً أم لا؟ لأن الوظائف متاحة للقدرات، من مواطنين وغير مواطنين. حقيقة لا ادعاء، لم أستطع - وقد حاولت بجد - أن أعرف ماذا يريد من هذا الاستنفار الطائفي، الذي يصل حد رصد الممارسات الطبيعية لأي مواطن أو مقيم، والذي لم أره يتوقف عند حد في ترصده لكل من يختلف معه في قليل أو كثير.

من الطبيعي أن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، خاصة عندما يقوم نجم جماهيري، يتلبس الدين، ويدعي النصيحة، بزخ هذا العداء الإرهابي الطائفي داخل أبناء الوطن الواحد. الآن، يوجد الكثير من المرددين الذين يصورون كل حدث على إيقاع التمايز الطائفي، بعيداً عن الإشارة - ولو إشارة! - إلى ضرورة الالتزام بحدود الوطن الواحد، وفضاء الدين الفسيح.

إن مثل هذه الرؤية الممعنة في تعصبها ونفيها للآخر، حتى من داخل الإطار الإسلامي العام، تعكس الأزمة الحقيقية التي يعيشها الخطاب الإسلامي المختطف من قبل هؤلاء، هؤلاء الذين جعلوا من الإسلام أداة تدمير وتقتيل واحتراب داخلي، بدل أن يكون أداة سلام وإخاء، وخيرية عامة، لا تقف عند حدود الجغرافيا الإسلامية، وإنما تتعداها إلى كل العوالم، بما هو - أي الإسلام - رحمة للعالمين.

هذه الرؤية، هي دعوة صريحة ل(التطهير المذهبي)، داخل أبناء الملة الواحدة، بحيث تتجاوز في صراحتها وعدائيتها، جميع أنواع الفاشيات العرقية التي ظهرت في القديم أو الحديث؛ لأنها تتحدث بلسان الدين، وتدعي الانقياد التام في هذا السلوك للمقصد الرباني.

وإذا كان المنطق العرقي، بطبيعته عنصرياً، مهما ادعى التسامح، إذ هو يقوم على رؤية تفاضلية طبقية للأعراق، فإن المنطق الديني، بطبيعته، تسامحي، حتى وإن تم استخدامه من قبل أتباعه في لغة عنصرية. وبهذا، تغدو عملية تحويل منطق الدين إلى منطق عرقي، جريمة في حق الدين، وبالضرورة في حق الإنسان.

التعنصر حالة سيكولوجية خاصة. لكنها من جهة أخرى، حالة ثقافية عامة، تحكم جميع أبناء هذه الثقافة بمنطقها الحاد. وإذا اجتمعت - في شخص ما - حالة التعنصر السيكولوجي، مع ثقافة عنصرية، أدت إلى مثل هذه الحال من التعنصر الصريح، الذي لا يستنكف أن يمارس التطهير المذهبي علانية دونما حياء أو لوم ضمير بل بكل ما يحتويه التزمت من عناد وإصرار.

غالبا، ما يكون الذي يمارس العنصرية على إيقاع المفردة الدينية، منطوياً على بعد عرقي في التعنصر. فالذي يرى المختلف معه في تفاصيل الديني، كائنا لا يستحق الحياة، أو لا يستحق حقوق الكائن الإنساني، تراه من جهة أخرى، يرى عرقه أفضل الأعراق، وقبيلته أفضل القبائل، وشخصه أفضل الأشخاص. فهي حالة وعي بالأنا والآخر، تنسحب من شخصية عصابية آنوية؛ لتمرر ذلك على العرق، ومن ثم على مفردات الديني.

إذن، فالتعصب حالة ثقافية عامة، تتحدث عن نفسها - في بعض الأحيان - على لسان من ينطوي على حالة تعصب خاص. ولهذا، فإن الرجل الذي نادى - في مذكرة له - بالتطهير المذهبي، مارس - ولكن بلغة أقل حدة - التمايز العرقي صراحة، وألف مذكرة عن (جزيرة العرب) انطلق من أفضلية المكان!، إلى أفضلية العرق فصرح فيها أن العرب أفضل من العجم، من حيث الأصل. يقول بالنص: 'عند الإطلاق والتعميم فالعرب أفضل من سواهمب. بل وينقل - مؤيدا - عن تقليدي آخر قوله عن العرب: 'امتازوا من بين سائر الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع في التاريخ لأمة من الأمم وهي جودة الأذهان وقوة الحوافظ وبساطة الحضارة والتشريع والبعد عن الاختلاط ببقية الأمم'.

لاحظ، أنه يقول هذا الكلام، ويستشهد به - مؤيدا - في العقد الأخير من القرن العشرين. ربما يمكن تفهّمه أو الاعتذار لتخلفه، لو وجد في أحد المصنفات التاريخية التي مضى عليها أكثر من ألف عام، لكن، أن يستشهد بها - مؤيدا - رجل تعلم وتكوّن وعيه في النصف الثاني من القرن العشرين، بعد أن سقطت نظريات التمايز العرقي، فهذا ما لا يمكن فهمه إلا بتصوره لم يزل - على مستوى الوعي - قابعاً في حدود القرون الأولى.

إنني لا أدري بعد كل هذا الادعاء التفاضلي المتعنصر، الذي يستطيع أي عرق من الأعراق أن يقول به، ماذا ترك للزعيم النازي: هتلر، وادعاءاته للعرق الآري المجيد!. كل فضيلة للأنا، ولكل رذيلة للآخر. بل حتى رذائل الأنا التي يستحيل إنكارها تتحول إلى فضائل، حتى الانغلاق: البعد عن الاختلاط ببقية الأمم، أصبح في هذا السياق، فضيلة للعرق العربي المجيد!. ولا يخفى هنا، أن دعوى جودة الأذهان، والحفظ، والحضارة، مجرد دعوى، لا ترد على الخاطر إلا في أحلام اليقظة. إنها دعوى للتسلية والضحك لا أكثر؛ خاصة عندما يدعيها عربي، لا يملك من كل هذه الصفات إلا أقل القليل.

لا شك أن مثل هذه الادعاءات العنصرية، قد تستهوي بعض البسطاء، وتلامس أحلام الغوغاء؛ لأنها تمنحهم نوعا من التميز الموهوم. لكن، أن توضع هذه الادعاءات العنصرية في سياق يدعي المعرفية، والأهم، أنه يدعي صاحبها الاتكاء على رؤية دينية، حتى ادعى أن تفضيل العرب على غيرهم، هو مذهب أهل السنة والجماعة!، فهذا ما يجعل منه خطابا مدمرا، يوهم الأنا بالاختيار الإلهي للعرق، ويمنحهم - ادعاء - شعار اليهودية الزائف: شعب الله المختار.

طبعا، الرجل يحاول أن يتذاكى، وربما يكون ذكيا في إطار جمهوره!. هو لا يذكر تميز العربي عرقياً لمجرد إحساس ساذج بالتميز الذاتي فحسب، وإنما يريد أن يدخل من هذه الزاوية إلى إشكالية المكان الذي كان موطن العرب الأساس: جزيرة العرب. ولهذا أتت هذه الدعوى العنصرية في سياق الحديث عن جزيرة العرب. وهو يريد تأثيم الحكومات العربية: السعودية والكويت، التي استعانت بالقوات الأجنبية، إبان الغزو العراقي الآثم للكويت. فالخصوصية المدّعاة هنا للإنسان، هي خصوصية يراد بها تعزيز الخصوصية المكانية؛ ليخلص منها إلى تأثيم حكومتي: الكويت والسعودية، بادعاء انتهاكهما لهذه القداسة التي يدعيها.

ولأن الرجل صريح أحيانا، وخاصة عندما يتذاكى، فيحاول التأسيس لمقولات لا تسمي الوقائع، وإنما تترك للجماهير تطبيقها الآلي على هذه الوقائع، فإنه عندما تحدث عن التوحيد، وكفّر - بسيف التوحيد الذي يرفعه شعارا - بقية الطوائف من المواطنين، ذكر عدة أمور، ادعى أنها تنافي التوحيد أو كماله، ومنها:

1- استقدام النصارى.

2- الابتعاث.

3- احترام الأنظمة الإدارية.

واضح، ماذا يقصد باستقدام النصارى، في سياق الحديث عن التوحيد، والذي يضعه في مقابل الكفر. والابتعاث عنده عمل تغريبي مدمر، ينبغي إيقافه أو الحد منه؛ لأنه يؤدي - بزعمه - إلى خفوت عقيدة الولاء والبراء، وإلى التأثر بالحياة الغربية، وكسر الحاجز النفسي بين المسلم والكافر. وهو الحاجز الذي يراه عقيدة لا ينبغي التفريط فيها. كما أن احترام الأنظمة الإدارية، والالتزام بها، يجعلها - في نظره - شبيهة بالتعاليم الإلهية. وهذا - في تصوره - خلل عقدي، لأنه يحمل نوعا من الشرك في تصور المنظر التقليدي للتوحيد.

عن: جريدة الرياض، 27/12/2007م، 3/1/2008م

الصفحة السابقة