عن الدور السعودي الذي بات مباشراً ومقاتلاً!

سعد الله مزرعاني*

يلاحظ المراقبون منذ مدّة، دوراً سعودياً نشيطاً وحاداً ومباشراً في التعاطي مع أزمات المنطقة. لم يكن الدور السعودي على هذا النحو من قبل. عُرفت المملكة بممارسة دبلوماسية هادئة تفضّل اللعب والعمل في الكواليس وخلف الجدران المغلقة على العمل ذي الضجيج الدعائي والتحريضي والتصادمي والإعلامي. أو هكذا كان الأمر غالباً، باستثناء عدد من الحالات المحدودة التي اضطرت فيها قيادة المملكة إلى الدخول في صراعات ونزاعات إعلامية وسياسية وأمنية.

وكان يعزز من هذه السياسة، القدرات المالية المتعاظمة الحجم للملكة. فهي البلد الأول في تصدير النفط في العالم (إمكان إنتاج حوالى 12 مليون برميل في اليوم وتصديره). وتشغل المملكة أيضاً موقعاً معنوياً ودينياً مميزاً. وساعدها أيضاً غياب مصر عن موقع القيادة والفعل والمبادرة، سواءً في موضوع التغيير أو في موضوع الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

ويمكن الجزم بأن المملكة قد جنت ثمار هذه السياسة في عدد من الحقول، من أبرزها الاستقرار الداخلي، وتجنب الانعكاسات السلبية لعدد من الصراعات الحادة، والتمكن من ترتيب البيت الخليجي بغض النظر عن بعض (الشغب) من هنا أو هناك.

حصل كل ذلك، رغم أن قيادة المملكة كانت تنتهج سياسات (متطرفة) لجهة التحالف الراسخ مع واشنطن في مرحلة صراع القطبين الأميركي والسوفياتي، ولجهة العداء لكل قوى التحرير والتغيير وحركاتهما، ولجهة ممارسة أقصى المحافظة والتشدد والقمع حيال مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان.

ومن بين عوامل أساسية أبرزها الدور الإيراني وما يمثله من تحدٍّ، مثّل عام 2006 منعطفاً فرض على المملكة التخلي عن القفازات والانخراط في الصراعات القائمة على نحو مباشر. ففي ذلك العام، تعثر الاحتلال الأميركي للعراق، وفشل العدوان الإسرائيلي على لبنان، وهو عدوان وظفت فيه قيادة المملكة سياسياً ما كان مفاجئاً، وما كان منطلقاً في الوقت نفسه، من حتمية انتصار الصهاينة في لبنان. ولقد استخدمت إدارة بوش كل قدراتها، من أجل دفع حلفائها إلى لعب دور نشيط في صراعات المنطقة وفي دعم المشروع الأميركي فيها. لقد حذرتهم بشكل حمل كل مظاهر التعنيف والتهديد، بأن خسارتها في العراق ستؤدي تلقائياً وحكماً إلى سقوط أنظمتهم.

ولقد صاغت الإدارة الأميركية سياساتها تلك تحت اسم (استراتيجية بوش الجديدة). وقضت في بنودها المعلنة وغير المعلنة (أو شبه المعلنة)، بتعزيز القوات الأميركية في العراق بثلاثين ألف جندي إضافي، وبإحداث تعديل في مرتكزات واشنطن في العراق وتحالفاتها (الانفتاح على ما يسمى بفريق واسع من العرب السنّة وزعماء العشائر...). كما قضت هذه الاستراتيجية بتخلي واشنطن عن شعارات نشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان ومزاعمها (وهما عنوانان كانا يضغطان على الوضع السعودي أكثر من سواه) لمصلحة إعادة إطلاق تحالف معلَن وغير مشروط، بزعامتها، تحت عنوان (محور الاعتدال العربي).

وكان على المملكة في هذا السياق، أن تمارس دوراً نشيطاً ومقاتلاً في هذه الاستراتيجية الجديدة، بما في ذلك تبنّي كل شعارات واشنطن التي ترى الأولوية في مكافحة (الإرهاب) والتصدي لداعميه... و(الإرهاب) المذكور لا يقتصر على نشاط تنظيم (القاعدة)، بل يشمل كل أشكال المقاومة في العراق وفلسطين ولبنان. وكان هذا التصنيف يفترض حكماً أن تصبح إسرائيل دولة حليفة، يبادرها (المعتدلون) العرب بالحوار وبمشاريع السلام (قمة الرياض ووفد القمة لحوار الإسرائيليين). ويجب أن لا ننسى أيضاً (المسؤوليات) المالية للملكة، وهي عديدة: من صفقات الأسلحة وتمويل الجيوش، إلى المساعدات المباشرة وغير المباشرة.

أما الجانب الآخر، لا الأخير، في تلك الاستراتيجية، فكان يقضي بأن تشمّر قيادة المملكة عن ساعديها أيضاً، في فلسطين وفي لبنان. وإذا كان الهدف في فلسطين هو استيعاب حركة حماس لكي لا تبقى تغرّد خارج السرب (المعتدل) وخارج الاصطفافات المطبوعة بطابع مذهبي وقومي، في مواجهة (المحور الشيعي) و(الفارسي)، فإن الأمر بالنسبة للبنان أخذ شكلاً أكثر حدة وأكثر مباشرة.

فهنا، أي في لبنان، ورغم كثافة التدخل الأميركي على كل المستويات، تتحمل المملكة العربية السعودية أيضاً مسؤولية (خاصة). وهذه المسؤولية ذات أشكال سياسية ومالية وإعلامية وأمنية. ويقع في نطاق الدور (الخاص) للمملكة في لبنان المحافظة على سلطة الأكثرية النيابية فيه. لكن يجب أن نضيف أيضاً المحافظة على سلطة الأكثرية الحريرية داخل الأكثرية النيابية المذكورة. ولهذا الأمر طابعه المذهبي الواضح. ويتقاطع هنا الموقفان السعودي والأميركي على نحو كامل من حيث الشكل والمضمون، ولجهة تسديد فواتير متبادلة تعويضاً عما حصل في العراق: بالنسبة للأميركيين، وكما أكد السفير الأميركي في العراق، ريان كروكر، وقائد القوات الأميركية هناك، دايفيد بيترايوس (يجب عدم لبننة العراق)، أي يجب عدم تمكين إيران (وسوريا) من تحقيق نجاحات سياسية من خلال دعم (المقاومة الشيعية). وبالنسبة لقيادة المملكة، يجب عدم (عرقنة) لبنان، أي يجب عدم إقامة سلطة فيه يكون الوضع الشيعي ركيزتها، كما هو الأمر في العراق!

لأسباب متعددة إذاً، دولية (المشروع الأميركي) وإقليمية (الصراع السياسي المذهبي)، بالإضافة إلى مستلزمات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تنشط قيادة المملكة الآن، كما لم يحدث من قبل، من أجل تدعيم الحكومة اللبنانية الحالية، ومن أجل منع أي تغيير لا يصب في مصلحة فريق الموالاة.

إنّ حسم موقع لبنان في صراعات المنطقة، وحسم مسألة الغلبة السياسية والمذهبية فيه، وحسم دوره (المزعج) والمحرج في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، هو مهمة سعودية اقتضت وما تزال، تأجيج الصراع السعودي مع سوريا، والصراع السعودي مع المعارضة اللبنانية، بالوسائل المباشرة والحادة التي لم تعتمدها قيادة المملكة العربية السعودية من قبل. إن مقاطعة القمة العربية في دمشق كانت لهذا الغرض. ولهذا الغرض أيضاً رفضت قيادة المملكة استقبال الرئيس نبيه بري.

وفي السياق نفسه، يواصل وزير الخارجية السعودية سعود الفيصل تصريحاته ومؤتمراته الصحافية، معلناً بشكل يتخطّى كل الأعراف الدبلوماسية، رفض استقبال الرئيس السوري بشار الأسد الذي بادر إلى تبريد الأجواء مع قيادة المملكة في أثناء القمة وبعدها، وخصوصاً في حديثه لجريدة الوطن القطرية الذي اتسم بالمرونة وبالرغبة في زيارة المملكة وفي الحوار مع قيادتها.

وفي المبادرات والمواقف السعودية الأخيرة، (إيفاد) سعد الدين الحريري إلى لبنان بعد زيارة للمملكة استمرت شهرين كاملين(!) من أجل «التعامل» مباشرة مع المبادرة الحوارية لرئيس المجلس النيابي نبيه بري. وهذا (التعامل) ذو هدف إضافي، باستيعاب تمايز رئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط، مهما كان هذا التمايز جزئياً أو محدوداً، أو مهما كان صاحبه مصمماً أو مناوراً.

إن الحفاظ على تماسك الأكثرية النيابية، هو مسؤولية أميركية وسعودية مشتركة. ولهذا الغرض يتناوب الطرفان على الزيارات والاتصالات والوعود والعهود والموجبات السياسية وغير السياسية (العسكرية والمالية، الرسمية وغير الرسمية).

لقد لاحظ بيان (منبر الوحدة الوطنية) الأخير، وهو التجمع الذي يقوده الرئيس سليم الحص، أن موقف وزير الخارجية السعودي (كان محرّضاً لفريق لبناني على فريق)، وأن (الغريب أن المملكة لم تكن منفتحة حتى على الاستماع إلى رأي آخر، فلم يحظَ رئيس مجلس النواب بموعد مع خادم الحرمين الشريفين).

ليس الموقف السعودي وحده مسؤولاً عن عدم التوصل إلى تسوية، ولو مؤقتة، للأزمة اللبنانية. ثمة لاعبون آخرون لا يقلّون مسؤولية عن بلوغ الأزمة اللبنانية مرحلة الاستعصاء. وبين هؤلاء المسؤولين قوى خارجية عربية ودولية عديدة. بينهم أيضاً أطراف لبنانيون لم يدركوا بعد، من مواقع ومواقف متباينة، أن الأزمة اللبنانية ذات ارتباط وثيق، ليس فقط بصراعات إقليمية ودولية ناشطة، وخصوصاً منذ الغزو الأميركي للعراق، بل أيضاً بطبيعة النظام السياسي ـ الطائفي اللبناني، أي بالعلاقات اللبنانية ـ اللبنانية.

لا سبب للاعتقاد بأن المشهد الصراعي في لبنان سيسلك سبيل التسويات حتى إشعار آخر. وحتى ذلك التاريخ، لا يمكن النظر إلى الدور السعودي في لبنان بوصفه دوراً إيجابياً، هذا رغم (الودائع) المالية، ورغم الدعم الفئوي الذي يقدم لأطراف، على حساب دور آخر مطلوب لمصلحة لبنان والعرب جميعاً.

* كاتب وسياسي لبناني

الأخبار، 5/5/2008

الصفحة السابقة