السعوديّة تبحث عن دور مفقود

نزار عبود

أين السعودية اليوم من التطورات الإقليمية؟ هل لا تزال تمثّل ثقلاً في المنطقة بعد المتغيّرات المستجدّة خلال الأشهر القليلة الماضية؟ الجواب قد يكون سلبياً، وعرض بعض المعطيات داخل السعودية وخارجها يشير إلى أن الرياض تبحث عن دور وعن حلفاء جدد، ولا سيما أن العلاقة مع الحليف التاريخي، الولايات المتحدة، لم تعد، كما يبدو، على ما يرام.

الأشهر القليلة الماضية كانت كفيلة بإظهار انكفاء الدور السعودي الإقليمي بعد سلسلة من الإخفاقات في أكثر من ملف، إضافة إلى تراجع العلاقة بين الرياض وواشنطن، ما حتّم توجهاً سعوديّاً للحفاظ على ما بقي من المكانة، منها عرقلة مساعي الانفتاح الغربي على دول في المنطقة، وبالتحديد سوريا وإيران، والبدء في البحث عن حلفاء جدد مفترضين للتعويض عن التراجع في العلاقة مع الولايات المتحدة.

مؤشرات كثيرة في الآونة الأخيرة دلّلت على هذا التوجّه السعودي، ولعل أبرزها الاتفاق العسكري مع روسيا، الذي وقّعه الأمين العام لمجلس الأمن القومي السعودي، بندر بن سلطان، الشهر الماضي. اتفاق راجت أنباء عن ربطه بالعلاقات بين موسكو وطهران، واعتباره (رشوة) سعوديّة لروسيّا للتخفيف من انفتاحها على إيران.

الحامي الأميركي أمام هجوم إقليمي

رغم نفي الرياض وموسكو للأنباء التي أوردتها حينها صحيفة (كومرسانت) الاقتصادية الروسية، إلا أن للخبر ما يبرره في ظل القلق السعودي من الصعود الإقليمي الإيراني. كما أن الغاية السعودية من الصفقة تتجاوز (الرشوة) لتدخل في إطار (تنويع مصادر التسلح)، كما قال بندر، أو تنويع الحلفاء، كما يوحي المسار السياسي في المنطقة.

ومع مرور نحو شهر على الاتفاقية العسكرية، إلا أن الكثير من بنودها بقي غامضاً. فلا موسكو ولا الرياض نشرتا تفاصيل الصفقة الموقّعة في 14 تموز الماضي، خلال زيارة بندر إلى روسيا، كما لم تعرف قيمتها. لكن بعض المصادر الروسية والأميركية، وكذلك السعودية، قدرتها بأكثر من أربعة مليارات دولار. وقالت مصادر على صلة وثيقة بالعائلة الحاكمة في الرياض، إن (طائرات عمودية للنقل العسكري، أم آي - 17، ومروحيات الشحن والقتال (أم آي- 35) ستتصدر الاتفاقيات المرتقبة). وهناك اهتمام بشراء طائرات قتالية متطورة ودبابات من طراز (تي - 90). وأبرزت تلك المصادر اهتمام بندر بشراء أنظمة الدفاع الجوي الحديثة، ولا سيما من الطرازين الأحدث، (سام - 300( و(سام - 400). علماً بأن أيران ستتلقى النظام الأول في أوائل العام المقبل.

ولذلك دلالة كبيرة في المعادلة الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إذ إن أنظمة الدفاع الصاروخية الروسية هي التي ستحمي المنشآت النووية الإيرانية. وعندما تنتقل إلى دولة مرتبطة عضوياً بالمنظومة الدفاعية الأميركية، فإنها تسعى، سواء عن قصد أو حسن نية، إلى خرق أسرارها التقنية ونقلها إلى خصوم غربيين يدرّبون سلاح الطيران السعودي.

مثل هذا السيناريو له ما يبرره في التاريخ، ولا سيما أن بندر نفسه كان وراء صفقات الصواريخ البحرية الصينية (سيلكوورم) في منتصف ثمانينيات القرن الماضي. وكانت تلك صدمة للأميركيين لأنها تمّت من دون علمهم وبقيت سراً. وقتها، أبرمت السعودية صفقات مع الصين لحساب العراق بعلم أميركي، وفي الوقت نفسه حصلت على صواريخ صينية أخرى لنفسها ما أثار غضب واشنطن واللوبي الإسرائيلي. وكانت الرياض تلجأ في علاقتها مع الصين إلى شراء الأسلحة نفسها التي كانت تتم بين الصين وإيران وتحوّلها إلى العراق بسعر أعلى لتضعف إيران من جهة، وتقوّي نظام صدام حسين من جهة أخرى.

ويبدو اليوم أن السعودية تخوض سباقاً مع الزمن لإثبات فعالية دورها في المنطقة، وأنها تستطيع أداء أدوار كبيرة لحسابات إقليمية ودولية؛ فالرياض تشعر بانزعاج بالغ من أي حوار غربي مع إيران وسوريا، ناهيك عن القلق من التعاون العسكري بين طهران وموسكو. كذلك، تشعر المملكة أن أي فك لعزلة طهران ودمشق سيكون على حساب مكانتها الاستراتيجية في المنطقة وقد يهدد كيانها بالخطر. ورأى مصدر سعودي مقرّب من العائلة الحاكمة أن المملكة تحرص على بناء (علاقات عسكرية وسياسية كبيرة مع موسكو التي تؤدي دوراً مؤثراً في مجلس الأمن الدولي، فضلاً عن كونها المصدر الأساسي الخارجي للتسلح بالنسبة إلى سوريا وإيران).

ولم يعد سراً أن الرياض سعت بدأبٍ لوقف محاولات فكّ العزلة على دمشق، الأمر الذي عبّر عنه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير صراحة، بعد الزيارة السريّة لوزير الخارجية السعودي سعود الفيصل وبندر بن سلطان إلى باريس قبل أيام من انعقاد قمّة الاتحاد من أجل المتوسط والقمّة التاريخية بين الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ونظيره السوري بشار الأسد.

وتشير مصادر مطّلعة إلى أن الرجلين جاءا بهدف واحد هو (منع زيارة الرئيس السوري للعاصمة الفرنسية في 11 تموز، عارضين توقيع صفقات اقتصادية ضخمة مع الشركات الفرنسية على جميع الصعد). لكن ساركوزي كفّ يد كوشنير عن الملف السوري وواصل انفتاحه على دمشق وطهران، في تحوّل فرنسي أثار قشعريرة لدى رجال السياسة في الرياض.

المحاولات السعودية هذه، سواء مع موسكو أو باريس، ناتجة من إحساس الرياض بالتجاهل الأميركي لتوجّهاتها الإقليمية. ولم تجهد السعودية في إخفاء الانزعاج من البرودة الأميركية في التعاطي معها. وكان ذلك واضحاً في أكثر من موقف، فهي لم تستقبل الرئيس جورج بوش في أوائل أيار الماضي بالحفاوة التي كان يتوقّعها بالرغم من الرقص معه بالسيف. كما إنها رفضت طلب الرئيس الأميركي بزيادة إنتاج النفط، إذ تعهّدت الرياض بزيادة بمقدار مئتي ألف برميل يومياً فقط، بحجة أنها لا تمتلك طاقة إنتاج احتياطية، وأنها قادرة على تلبية طلبات السوق بكمية الإنتاج الحالية. وبدلاً من أن ينخفض سعر البرميل كما يتمنى الأميركيون، واصل صعوده مقترباً من حاجز الـ 150 دولاراً. آنذاك عبّر بوش عن سخطه بخطاب ألقاه في شرم الشيخ مغال في التأييد لإسرائيل، مضعفاً وضع حلفائه الإقليميين.

السعودية عادت بعد مغادرة بوش للمنطقة، وتعهدت في قمة الغذاء، التي عقدت في روما في حزيران الماضي، برفع إنتاج النفط إلى 9.7 ملايين برميل يومياً حتى يهبط سعر النفط. أي بزيادة نصف مليون برميل يومياً. كما قدمت 500 مليون دولار لصندوق «أوبك» المخصص لإقراض الدول الفقيرة المتأثرة بارتفاع سعر الطاقة بفوائد ميسّرة.

وكان يمكن للرياض أن تقدم تلك التعهدات للرئيس الأميركي كهدية رمزية بمناسبة زيارته، إلا أنها لم تفعل وفضّلت القيام بمثل هذه المبادرة إفرادياً وفي إطار تجمّع عالمي. لكن مع ذلك فإن سعر النفط واصل ارتفاعه.

محاصرة الأسد فشلت

هبوط سعر النفط الحقيقي وقع مباشرة بعد الإعلان عن أن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، وليام بيرنز، سيزور فيينا من أجل الاجتماع بالمفاوض الإيراني سعيد جليلي حول البرنامج النووي. وترافق أيضاً مع حلّ مشكلة الأسرى اللبنانيين وعملية التهدئة في غزة واستئناف المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل في تركيا.

منذ ذلك الحين والانفراج في سوق الطاقة يتواصل بوتيرة شعرت بها كل العواصم، ولا سيما مع تزايد الحديث عن إمكان تحقيق انفراج دولي واسع يشمل كل المسارات في الشرق الأوسط ولا يهمل وضع الاقتصاد العالمي المهدد بأفدح الأضرار.

انفراجات تبدو السعودية بعيدة عنها تماماً، ولا سيما أن دورها في المنطقة تميّز بعدد من الإخفاقات بدأت باتفاق مكة الفلسطيني في شباط 2007، الذي لم يصمد أكثر من أربعة أشهر، مروراً بقمّة دمشق الأخيرة، التي لم تفلح جهود الرياض في إفشالها، حتى إن مقاطعتها لم تنسحب على سائر القادة الخليجيين الذين حضروا لتكريس الرئاسة السوريّة للقمة العربية، وصولاً إلى مؤتمر الدوحة اللبناني، الذي كان الدور السعودي فيه لا يتجاوز دور مشاهد نشرات الأخبار.

فالسعودية فشلت، بالرغم من استثمار مئات ملايين الدولارات في لبنان وفي قضايا إقليمية أخرى ذات صلة، في بلوغ تسوية مناسبة لسياستها وبما يرضي الراعي الأميركي. وكان الأميركيون طيلة هذه المدة يدفعون ثمناً باهظاً في اقتصادهم وسمعتهم على الساحة الاستراتيجية الدولية. معطيات يضاف إليها إحجام السعودية عن إقامة علاقات مع العراق، ساهمت في إغضاب واشنطن.

إزاء هذا التآكل السريع في العلاقات الأميركية - السعودية، يبدو أن الرياض بدأت في إقامة استراتيجية إقليمية مستقلة تعيد الاعتبار إلى دورها الإقليمي. وبعض العارفين بالبيت السعودي يرون أن (الرياض أضحت في غاية التخبط بعد تلقي عدة انتكاسات لمصلحة خصومها الإقليميين). ويضيفون (صحيح أنها راكمت ثروات طائلة من عائدات النفط التي هطلت عليها في السنوات القليلة الماضية تؤهلها لأداء دور مؤثر على الساحة الدولية. لكن العاصمة السعودية لم تعتد الرقص السياسي المنفرد من قبل).

المعادلة الاستراتيجية اليوم جعلت الرياض معزولة سياسياً بالرغم من ثقلها النقدي الكبير. وتجلى ذلك بصورة واضحة عندما وقفت الولايات المتحدة في الأسابيع الماضية في وجه مشروع قرار سعودي في مجلس الأمن الدولي يندد بالاستيطان في فلسطين ويطالب بإيقافه. كان بوسع واشنطن الموافقة عليه، أو على الأقل إمراره بالامتناع عن التصويت، لأنه لا يخالف خريطة الطريق أو توصيات اللجنة الرباعية ولا حتى بيانات وزارة الخارجية الأميركية ذات الصلة. لكن امتعاض البيت الأبيض من خذلان الملك عبد الله للرئيس بوش، جعل الأميركيين، على ما يبدو، يلجأون إلى تحجيم الدور السعودي إلى أصغر ما يمكن.

ومع الاستهداف الأميركي للرياض، فإن السعودية تحاول البحث عن دور من خارج الفلك الأميركي. لكن لا يبدو أن محاولاتها تجد طريقها إلى النجاح، ولا سيما أن الحسابات الدولية في الأشهر القليلة الماضية، اختلفت كثيراً عما كانت عليه في السابق.

وإذا كانت الرياض تحاول شراء مواقف سياسية من باريس وموسكو في مقابل عقود تسلح وعقود بناء عملاقة لها ولشركائها في دول مجلس التعاون الخليجي، فإن تلك الدول باتت مقتنعة بأن ما تجنيه من علاقة مع لاعبين فاعلين في الشرق الأوسط أهم بكثير.

أما أوروبا والولايات المتحدة وآسيا فتدرك تماماً أن التوتر مع إيران وارتفاع سعر النفط بنتيجته بات يصيب الاقتصاد العالمي في مقتل. وخير مؤشر على ذلك هبوط أسعار المنازل في الولايات المتحدة بنحو 16 في المئة خلال أيار الماضي وحده، وما لذلك من تداعيات كارثية على أوضاع المصارف. فالصين تفقد بانهيار مصرفين متعثّرين يعملان في مجال التسليف العقاري الأميركي، هما (فريدي ماك) و(فاني ميه)، 400 مليار دولار. وتفقد روسيا فيهما نحو 100 مليار. واليابان 100 مليار. وتقدر خسائر الدول الخليجية بنحو 200 مليار دولار. ولقد سجّلت أخيراً اتصالات بين الخزانة الأميركية وحكومات الدول الخليجية لطمأنتها بأن الولايات المتحدة لن تسمح بانهيار المصرفين اللذين يتوليان قروضاً عقارية بقيمة 12 تريليون دولار.

لكن الكل يشتم رائحة الدم الأميركي بنتيجة هذا النزف المالي والسياسي والعسكري الحاصل. وهناك من يشعر بأن الولايات المتحدة قد تضطر قريباً إلى العودة مكسورة من الشرق الأوسط على طريقة هزيمة فيتنام. تعود لتلعق جراحها، وكلها عتب وسخط على الحلفاء العرب الذين، بحسب رأيها، لم يساهموا جديّاً بدفع أجندتها، سواء في لبنان أو فلسطين أو العراق.

أمام هذا الواقع، يقول دبلوماسي في نيويورك إن (السعودية تعيش خوفاً وهمياً من احتمال تعرضها لهجوم إقليمي. وتشعر أن واشنطن لن تستطيع الوقوف إلى جانبها في زمن الشدة. وبالتالي فإنها تحاول من جهة إضعاف خصومها الوهميين، إيران وسوريا، ومن جهة أخرى تسعى إلى تنويع مصادر تسلحها وربما اللجوء إلى اقتناء أسلحة نووية سراً إن استطاعت).

وذكّر الدبلوماسي بما ورد في تحليل الكاتب ريتشارد راسل عن امتلاك السعودية لقدرات نووية، وقال فيه (من غير المناسب للرياض الاعتماد بشكل أساسي في دفاعها على الولايات المتحدة وتنتظر منها أن تهبّ لنجدتها في جميع الظروف... وطبقاً لوجهة النظر السعودية فإن امتلاك أسلحة نووية وأنظمة التوصيل الصاروخية يبدوان منطقيين وضروريين). ويرى أن هذه الأنظمة لن تكون على شكل سلاح الطيران الضعيف أمام شبكات الدفاع الأرضية. بل صواريخ باليستية على غرار (سي إس إس 2).

وذكّر الدبلوماسي بما ورد في تحليل الكاتب ريتشارد راسل عن امتلاك السعودية لقدرات نووية، وقال فيه (من غير المناسب للرياض الاعتماد بشكل أساسي في دفاعها على الولايات المتحدة وتنتظر منها أن تهبّ لنجدتها في جميع الظروف... وطبقاً لوجهة النظر السعودية فإن امتلاك أسلحة نووية وأنظمة التوصيل الصاروخية يبدوان منطقيين وضروريين). ويرى أن هذه الأنظمة لن تكون على شكل سلاح الطيران الضعيف أمام شبكات الدفاع الأرضية. بل صواريخ باليستية على غرار (سي إس إس 2).

البحث لا يزال جارياً، والهدف لا يبدو سهل المنال، إلا في حال انتكاسة إقليمية كبيرة، تعيد للسعودية أهميتها الاستراتيجية. والانتكاسة لا يمكن أن تكون إلا على حساب أطراف إقليمية أخرى.

* عن الأخبار اللبنانية، 4/8/08

الصفحة السابقة