تترقب الصفعة المقبلة

السعودية و(لعنة بوش)

إيلي شلهوب

ضحايا جورج بوش كثر. غباؤه تسبب بالكثير من المآسي، حتى للأميركيين أنفسهم. سياساته الشرق أوسطية الطائشة أضرّت بمصالح بلاده والعديد من حلفائه، في مقدمتهم السعودية، التي يبدو أنها تدفع غالياً ثمن ولائها لأسياد البيت الأبيض.

علاقة هذه المملكة الوهابية بالعم سام قديمة، تعود إلى منتصف القرن الماضي. عندما أرسى الجانبان تحالفاً يقوم على معادلة بسيطة: النفط مقابل الحماية. تبادل منافع أثبت جدواه بالنسبة للرياض. حماها في الستينيات من طموحات مصر جمال عبد الناصر، والثمانينيات من وهج إيران الخميني، والتسعينيات من غطرسة عراق صدام حسين.

مسيرة طويلة استغلتها السعودية لبناء زعامة في العالمين العربي والإسلامي، مستخدمة المال سلاحاً والقضية الفلسطينية شعاراً، ساهمت خلالها في دعم اقتصاد أميركا وصراعها مع الاتحاد السوفياتي (أفغانستان نموذجاً).

ومع انهيار المعسكر الاشتراكي، ودخول المنطقة عصر الوجود العسكري الأميركي المباشر، استجابت السعودية للرغبة الأميركية بوضع حد للنزاعات في المنطقة، التي أرادت واشنطن احتكارها كمنطقة نفوذ تعزيزاً لأحاديتها القطبية على العالم. ساهمت المملكة حثيثاً في وضع حدّ للحرب الأهلية اللبنانية، وأعلنت دعمها لعملية السلام مع إسرائيل تحت عنوان (مؤتمر مدريد).

لكن مع ولوج منتصف التسعينيات، بدأت بوادر توتر تظهر في علاقات الرياض التي أرهقتها حرب الكويت مالياً، بواشنطن التي اتهمتها بأنها لا تبذل جهوداً كافية في التحقيقات بالضربات التي طالت المصالح الأميركية في أكثر من مكان في العالم، وبينها السعودية.

وسام مقابل ضرب تحت الحزام!

توتر تفاقم مع انهيار عملية السلام وتولي جورج بوش الابن مقاليد السلطة، حاملاً شعار الدعم المطلق للسياسات العدوانية لأرييل شارون. دعم أحرج المملكة وأفقدها الكثير من مصداقيتها، في وقت كانت فيه انتفاضة الأقصى في أوجها. رسالة ولي العهد آنذاك الأمير عبد الله، التي نقلها سفيره لدى واشنطن بندر بن سلطان إلى بوش في آب 2001، كانت أبلغ تعبير عن الامتعاض السعودي.

غير أن الأوراق سرعان ما اختلطت مع زلزال 11 أيلول؛ تنامت المشاعر المعادية للسعودية في واشنطن، وبدأت الضغوط تنهال عليها من كل حدب وصوب. بدت المملكة محاصرة، تفتقد إلى بوصلة تهديها في سياستها الخارجية، فكانت المبادرة الشهيرة للأمير عبد الله، التي تبنّتها قمة بيروت في آذار 2002. تلتها الزيارة الأولى لولي العهد السعودي إلى مزرعة كراوفورد في الشهر التالي، التي أدت إلى تحسن في العلاقات الثنائية، ترافق مع التحضيرات لغزو العراق، الذي كان بندر أبرز الضاغطين باتجاهه.

انقلب السحر على الساحر: أزال بوش الحاجز الصدامي الذي كان يقف في وجه إيران، بعدما كان أسقط الحاجز الطالباني في أفغانستان، وباتت منطقة نفوذ الجمهورية الإسلامية تلامس حدود السعودية. تطوّر فرض على الرياض إعادة حساباتها وتعديل أولوياتها (تحوّلت إيران إلى خطر داهم)، وعاد التوتر إلى علاقاتها مع واشنطن بسبب الدعم الأميركي اللامحدود لشيعة العراق على حساب سنّته.

توتر سرعان ما تلاشى عندما ضرب الزلزال الثاني: اغتيال الرئيس رفيق الحريري بعد أشهر قليلة على تواطؤ جاك شيراك مع جورج بوش في استصدار القرار 1559. عندها فتحت السعودية نيرانها على سوريا، التي أُجبرت على الخروج من لبنان غداة الزيارة الثانية لعبد الله إلى كراوفورد.

بات للسعودية قضية مجدداً، واستعادت (أمجادها) وزعامتها، لكن هذه المرة لمحور (المعتدلين العرب)، الذي ضمّ إليها كلاً من مصر والأردن، في مقابل (محور المتشددين)، بزعامة إيران وعضوية سوريا وحزب الله وحماس. صراع دارت رحاه في كل من العراق، حيث الاحتراب المذهبي بدأ يتفاقم، ولبنان حيث خيضت المعركة بالتظاهرات والاغتيالات.

حتى جاء عدوان تموز، الذي فرضته إدارة بوش، وحمّلت الرياض (ومعها القاهرة) مسؤوليته إلى (مغامرة) حزب الله. عندها أيضاً انقلب السحر على الساحر، وكرّت من بعده سلسلة الهزائم التي منيت بها السعودية في أكثر من محطة، كان آخرها (اتفاق الدوحة)، الذي تنازع الرياض حالياً للحد من تداعياته عليها وعلى حلفائها اللبنانيين.

(مغامرة) أدخلت المملكة في حال من التيه (عكست انقساماً في العائلة المالكة) لأكثر من عامين، لعبت خلالهما على الورقة الفلسطينية (اتفاق مكة الذي أسقطه الحسم الحمساوي) وعلى الإيحاء بابتعاد عن تبعيتها الأميركية (الحديث عن «احتلال العراق غير الشرعي» في قمة الرياض وعن إلغاء دعوة إلى الغداء في البيت الأبيض في نيسان 2007) وعلى التقارب مع إيران (الملك عبد الله ومحمود أحمدي نجاد يداً بيد في قمة الدوحة وزيارات الأخير إلى السعودية)، ناهيك عن الورقة الإسرائيلية مع الأنباء التي تواترت عن لقاءات لقياديين سعوديين مع مسؤولين في الدولة العبرية.

ومع بدء العد العكسي لولاية بوش، تلقّت السعودية صفعتان كبريان: الأولى من حليفها الأميركي عبر لقاء وليام بيرنز وسعيد جليلي في جنيف بعدما تقلصت إلى حد الصفر فرص توجيه ضربة أميركية وشيكة لإيران، والثانية من حليفها الفرنسي الذي فك العزلة عن دمشق، والذي يبدو أن واشنطن ستتبع خطواته.

ضحايا جورج بوش كثر. لكن السعودية تبدو أكثرهم مدعاةً للشفقة، بعدما حوّلها من أحد الزعماء الرئيسيين للعالمين العربي والإسلامي، إلى دولة منكفئة على نفسها، تلعق جراحها، وتترقب الصفعة المقبلة.

الأخبار اللبنانية، 10/9/2008

الصفحة السابقة