د. مضاوي الرشيد

محنة اللاجئين السياسيين السعوديين في بريطانيا

خفايا وأسرار العلاقات البريطانية ـ السعودية

د. مضاوي الرشيد

منحت محكمة بريطانية أميرة سعودية حق الاقامة الدائمة تمهيداً لمنحها صفة اللاجئة على خلفية علاقة غير شرعية مع بريطاني أدت الى الحمل.

وفتحت هذه القضية ملف اللجوء الى بريطانيا من قبل بعض السعوديين الذين طالبوا بحق اللجوء منذ اكثر من عقد من الزمن، وهم ما زالوا حتى هذه اللحظة لا يتمتعون بحق اللجوء حيث تماطل الاجهزة البريطانية في البت في قضاياهم. وما يزال التعتيم على أعدائهم قائماً. إذ ان المؤسسات المعنية لا توفر الاحصاءات أو المعلومات عنهم. وكلهم يطلبون اللجوء على خلفية سياسية وليست أخلاقية، كما هي حالة الاميرة السعودية.

يبدو ان الحكومة البريطانية تحاول ان تجنب النظام السعودي الاحراج من خلال إعلانها الاحصاءات أو المعلومات عن طلبات اللجوء السعودية بناء على حالة تفاهم سرية بين المملكتين، حيث تحرص المملكة البريطانية على التعاطي مع الشأن السعودي بسرية وبعيداً عن الأضواء، خوفاً من الابتزاز السعودي الذي يتطور ويتخذ اشكالاً مختلفة، منها قطع العلاقات الدبلوماسية تماماً، كما حدث عندما عرضت الصحافة البريطانية قصة موت أميرة سعودية لها علاقة مع أحد العامة. فكان فيلم 'موت اميرة' الذي عرضته القنوات التلفزيونية البريطانية سبباً في تأزم العلاقة بين المملكتين، بعد فشل بريطانيا في الضغط على صحافتها ومنع عرض الفيلم. لذلك تتستر بريطانيا على الفضائح السعودية دوماً خاصة اذا كانت مثل هذه الفضائح تطال المسؤولين الكبار.

ومن هنا جاء قرار بلير عندما كان رئيساً للوزراء بإنهاء الجدل حول الفساد في صفقة اليمامة ومنع تطور البحث في القضية الى درجة كشف ارصدة كبار المسؤولين السعوديين وفضح اكبر عملية رشوة وفساد في تاريخ العلاقات التجارية المرتبطة ببيع الاسلحة والمعدات والطائرات الى السعودية.

ورغم ان بريطانيا تحتفظ بعدد من المعارضين السعوديين على أراضيها، الا انها حاولت التخلص من بعضهم عن طريق النفي الى بلد ثالث. تماما كما حصل للمعارض محمد المسعري في التسعينات. ولكن موقف المحاكم البريطانية ضد هذا القرار أوقف عملية النفي دون أن يؤدي ذلك الى البت في قضايا اللجوء السياسي بشكل صارم يجعل من إقامة هؤلاء على الاراضي البريطانية حالة شرعية ومنظمة وفق القوانين الدولية المتعلقة باللاجئين حسب الاتفاقيات العالمية ومواثيق الامم المتحدة.

أعطت المحكمة التي بتت في قضية الاميرة السعودية الحامل رسائل واضحة وصريحة، أولها أن حكمها سيكون حاسماً في القضايا الاخلاقية والتي تهدد حياة الجانح كالزاني والشاذ، أما في القضايا السياسية التي على أساسها قد يتعرض الانسان للقتل او السجن ان عاد الى بلاده فسيكون الحسم فيها للقرار السياسي البريطاني وليس القانون.

ورغم ان بريطانيا تعلم مصير هؤلاء في بلادهم تماما كما تعلم كيف يعامل سجناء الرأي في السعودية الا انها تفضل حسم قضاياهم سياسياً تبعاً للمصلحة البريطانية فتتم المماطلة في البت في ملفاتهم بل حتى التحفظ على اصدار الاحصاءات تماماً كما هو متبع ازاء اللاجئين من دول عربية اخرى. فلا تتردد الاجهزة المعنية البريطانية في نشر اعداد هؤلاء بينما يظل السعودي اللاجئ رقماً مجهولاً بعيداً عن الاضواء لما في ذلك من حرج قد يقع على النظام السعودي هذا الطفل المدلل في أجهزة الحكم البريطانية لما يملكه من قوة شرائية وثقل تجاري حيث التعامل معه يبدأ بالدلال والاحتضان وينتهي بإخفاء تقصيره بل حتى فساده وقمعه الذي يطال شرائح كبيرة من المسؤولين في الداخل السعودي.

وظهر ذلك بوضوح في حوار مع احد المسؤولين البريطانيين عندما قال بالحرف الواضح والصريح ان قضية تعذيب المساجين حتى البريطانيين في السجون السعودية تظل قضية هامشية لن تعكر صفو الود بين المملكتين. وعند بريطانيا ملفات مطولة عن هذه القضايا لكنها تظل مخفية ويفضل التعاطي معها بسرية حتى لا تتأزم العلاقة بين البلدين نتيجة خروج مثل هذه القضايا الى العلن.

الرسالة الثانية التي توجهها الحكومة البريطانية مفادها ان سجناء الرأي والحراك السياسي لن يجدوا ملاذاً سهلاً في بريطانيا حيث سيظل هؤلاء في حالة متأرجحة وان لم يتم طردهم الى جهة ثالثة. الا انهم لن يحصلوا على حق اللجوء وسيظلون معلقين لا يحملون وثائق رسمية تمكنهم من العمل كمواطنين يتمتعون بحقوق كحقوق اللاجئين ولن تمنح لهم وثائق رسمية ولو بعد عدة سنوات رغم شعارات حقوق الانسان التي ترفعها بريطانيا والتغني بكونها ملاذاً تاريخياً للمنادين بالحرية والعدالة في بلادهم. حيث تتوقف هذه الشعارات وتسقط على عتبات الخزينة السعودية وقدرتها الشرائية الكبيرة. ولن تفتح بريطانيا أبوابها للمنادين بالتغيير السياسي او الاصلاح في بلد كالسعودية لأن هذا بالطبع سيؤدي الى احراج السعودية وتأزم علاقتها مع بريطانيا. فما اسهل ان تحتضن بريطانيا حالات الزنى والشذوذ من ان تمنح حق اللجوء لمناضل سياسي او ناشط حقوقي.

هذه رسالة واضحة وصريحة لطيف كبير من السعوديين الذين يضطهدون في بلادهم نتيجة انخراطهم في عمل سياسي كالدعوة لمظاهرة او عملية احتجاج سلمية او كتابة عريضة اصلاحية يجدون انفسهم بعدها في سجن طويل الأمد دون محاكمة ويعللون النفس بمكرمة ملكية تنقذهم من انعدام المحاسبة والقانون في بلادهم. وان استطاع احدهم ان يخرج من البلاد ويأتي الى بريطانيا فسيجد امامه سلسلة طويلة من الاجراءات البيروقراطية والمماطلة السياسية والتعتيم الاعلامي على قضيته الانسانية. يبقى حق اللجوء السياسي معلقاً على المصالح الاستراتيجية وليس على سيادة القانون والمواثيق الدولية كما هو مفروض. وتستغل السعودية ثقلها النفطي وقدرتها الشرائية لابتزاز أقدم الديمقراطيات في العالم كبريطانيا وتجبرها على التعاطي مع الشأن السعودي بالسرية والمراوغة حيث تقارب المصالح يمنع المملكة البريطانية من فتح الملف السعودي والتعامل معه بشفافية واضحة وصريحة تعلم بريطانيا ان لها اكثر من ثلاثين ألف عامل في السعودية ومصالح تجارية وأمنية تقدر بالمليارات وهي غير مستعدة لأن تقوض هذه المصالح بسبب قضايا اللجوء او انتهاكات حقوق الانسان. وتمكن مقارنة الموقف البريطاني من هذه القضايا بموقفها من قضية اللاجئين العراقيين في التسعينات عندما تغيرت العلاقة بين بريطانيا والعراق بعد غزو هذا الاخير للكويت حيث لم تكتف بريطانيا باحتضان المعارضة العراقية في المنفى، بل كانت توفر لهم الحماية الأمنية خلال مؤتمراتهم في فنادق لندن الشهيرة والدعم المعنوي والمادي بالاضافة الى وثائق السفر التي تمكنهم من رحلات بطوطية بين لندن وواشنطن خلال اكثر من عقد مهدّ لغزو العراق واعادة لاجئين ليحكموا بلادهم بعد غياب دام نصف قرن او اكثر.

المنفى للسعودي في بريطانيا عملية صعبة تحكمها المصالح السياسية الا اذا كان المنفي اميرة جانحة تخاف من اقامة الحد وفضيحة تطال النظام. عندها سيهرول الدبلوماسيون البريطانيون لانقاذ هذا النظام تحت شعار حقوق الانسان او اذا كانت القضية تتعلق بكشف حسابات بنكية تتكدس بها اموال الرشوة والفساد عندها تقف شعارات الشفافية امام جدار الصمت والتعتيم.

سيظل النظام السعودي محصناً في الخارج البريطاني ومحمياً من النقد من قبل المؤسسات الرسمية البريطانية. ولولا الجهد الذي تبذله بعض الصحف البريطانية المستقلة والمحاكم النزيهة والتي تخرج عن سلطة المؤسسة السياسية لبقيت السعودية وشأنها مجرد عملية سرية تتكاتف الجهود لابقائها خارج النقاش والنقد. وسيستمر الوضع كذلك حتى اشعار آخر او تغيير المصالح البريطانية السياسية. وهذا امر مستبعد خاصة وان بريطانيا تمر بحالة اقتصادية عصيبة وعجز مالي كبير مما يجعلها تتطلع لعملية انقاذ قد تساهم الأموال السعودية في تحسينها. وهذا بالفعل ما حصل عندما طاف غوردون براون على العواصم الخليجية ومنها السعودية طلباً للانقاذ وحصة من الفائض المالي الذي تراكم بسبب زيادة اسعار النفط والاستثمارات التي لا تستوعبها السوق المحلية.

نأمل ان لا تتحول بريطانيا والتي تفتخر بحرياتها وسيادة القانون الى ملاذ لهاربات من مجتمعهن على حساب المناضلين الذين يطمحون الى تغيير جذري في بلادهم ويعانون بسبب مواقفهم السياسية من الاضطهاد والقمع. وان تتعاطى مع قضية اللاجئين السياسيين بشفافية وعدل بعيداً عن المماطلة. إذ ان انتظار هؤلاء قد طال وقضيتهم يجب ان تحسم من منطلق انساني وليس سياسياً. يحصل هذا عندما تتحرر المملكة البريطانية من ابتزاز النظام السعودي وعملية الضغط التي يمارسها مقابل استمرار حالة التعتيم والسرية المفروضة على العلاقات بين البلدين. لقد نجح النظام السعودي بفرض نفسه كنظام محصن على الجميع احترام ما يسمى بخصوصيته، وما هذا الا شعار مستهلك فارغ، فهو كغيره من الأنظمة القمعية يفرز لاجئين سياسيين ومعارضين لمسيرته، وحتى هذه اللحظة لا يلقى هؤلاء سوى مصير المنفى في مملكتين.

عن القدس العربي، 27/7/2009

الصفحة السابقة