د. مضاوي الرشيد

الـسـعـوديـة..

حلف السلطة مع علماء استحضار (الجنّ)!

د. مضاوي الرشيد

مهما تغيرت المعطيات والحقب التاريخية، يظل حلف السلطة السعودية مع ما يصح تسميته بعلماء الاستحضار الذين تربوا على حفظ القيل والقال، مستبعدين أي عملية استنباط او استخراج للمعاني المرتبطة ببيئة النص، وحقبته التاريخية، واعتباره قائماً كصرح عتيد تركبه السلطة وتمتطيه ساعة، تشاء وحسب اهواء السياسة المتأرجحة، فهي لا تقلم أظافره إلاّ اذا كان بعض القيل والقال يمسّ سلطتها المطلقة، واستبدادها المستشري، عندها فقط تكشّر السلطة عن أنيابها لتستأصل بعض فروخ الجان الذين استحضروا من القيل والقال، ما يحرجها أو ينغصّ عيشها.

وما عدا ذلك يظل الحلف قائماً تماماً كما يحصل اليوم على الساحة السعودية، حيث تستغل السلطة علماء الاستحضار في معاركها الطائفية، فيظهر أحدهم ويعتلي منابر الوعظ والخطب، ليستحضر رصيده القيّم من مصطلحات العنف اللغوي، وموسوعته القديمة، واسطوانته المشروخة، ليفسق ويبدّع ويكفّر من يوصف بالزندقة والعقيدة المغلوطة، والإيمان الفاسد، على خلفية حرب سياسية، وصراع نفوذ بين السعودية وجاراتها من اليمن الى العراق، مروراً بلبنان، وانتهاءً بالمعضلة الكبرى التي واجهتها السعودية منذ عام 1979، بعد أن برزت إيران كمنازع على الهيمنة في المنطقة.

ليس بالغريب أو الجديد أن تتنازع الدول على النفوذ السياسي والهيمنة والمواقع الاستراتيجية والموارد الاقتصادية. فالصراع هو سنّة كونية، قد يحلّ بالحرب والقوة تارة، وتارة بالدبلوماسية والحوار والتفاهم على تقاسم النفوذ. ولكن العجيب الغريب في المسار السعودي، هو زج علماء الاستحضار في كل معركة، وفي كل غزوة، سواء كانت إعلامية أو حقيقية. ليس هذا لأن السلطة تعتمد على شرعية دينية، وهي لذلك مضطرة لأن تستخدم علماء الاستحضار عند كل شاردة وواردة.. بل لأنها مفلسة في هذه الشرعية إفلاساً تاماً. لذلك هي مضطرة لأن تزج بهم في كل جولة وصولة، ليعطوها تلك الشرعية المفقودة. منذ زمن بعيد وهي تدرك الدور الكبير الذي يلعبونه في إصباغ خطاب القيل والقال وإسقاطه على متحركات السياسة ورمالها التي تأبى أن تخضع لمنطق واحد أو وتيرة معروفة. خذ مثلاً حرب التحرير الكبيرة الدائرة رحاها في الجنوب الغربي حيث (المجاهدون) (الموحدون) يحمون ثغراً من ثغور الإسلام، فيفرد الجنرال ذراعيه في إيماءة ذكوريّة مفضوحة، ويميط عالم الإستحضار اللثام لينطق بكلمات العنف اللغوي.

ومؤخراً، تخوض المرأة المتلبسة بزي عسكري مزيف غمار المعركة، لتنقل أحداثها ودقائقها، بعد أن احتمت بتمويه البدلة المرقطة.. وكأن طائرات العدو تهدد الساحة من الأعلى، وتسقط قذائفها يميناً ويساراً على الجبهة. هذه الكوميديا الساخرة هي زيف خاضته السلطة وتخوضه حتى هذه اللحظة. وقد ذهب بأرواح أناس كثر، وهجّر من هجّر، وجعل النظام السعودي يسقط في فخ كبير سيجره في المستقبل الى عواقب وخيمة.

وليت النظام كان صادقاً مع شعبه عن طبيعة الصراع، وهو بالدرجة الأولى صراع سياسي مهما حاول علماء الاستحضار أن يصبغوا عليه صبغة الحروب العقدية أو الطائفية المقيتة. هو صراع سياسي يمني داخلي بالدرجة الأولى، مهما تدخلت القوى الإقليمية فيه بما فيها إيران والسعودية. ودخول السعودية على الخط لا يمكن أن يكون جهاداً ضد من كانت عقيدتهم فاسدة، أو عبادتهم فاسقة أو شعائرهم متزندقة. ورغم أن الجنرال يحارب بمساعدة عربية أو ربما باكستانية إلاّ أن علماء الاستحضار (إنتاج محلي عريق وقديم) تم استهلاكه وإعادة صياغته في حقبات تاريخية سابقة. وسيظل سلوك القيل والقال.. الأهمّ، والركيزة الرشيدة لسلطة تترنح في سبيل ايجاد خطاب يسوغ مغامراتها السياسية البحتة، ويجيش عساكرها على ثغور الأمة المزعومة. الكل يعرف أين هو الثغر الحقيقي الذي يحتاج الى التجييش، ولكن مع الأسف، يبدو ان الثغور الميكروسكوبية الجديدة قد تضاعف حجمها بعد عملية تكبير مشوهة.

ستنزل السلطة السعودية ومعها علماء الاستحضار في أرشيف التاريخ كقوة سلبية، ساهمت في تفكيك المجتمعات العربية والسلم الاجتماعي بين المسلمين ذاتهم. تصاعد وتيرة العنف الطائفي وتطييف السياسي بالشكل القبيح الذي ظهر على منبر خطبة الجمعة، ستكون له أبعاد خطيرة تفتك أول ما تفتك بالداخل السعودي.. عندها سنكون على حافة انهيار كبير، وتمزّق عنيف، وعمليات إبادة جماعية، تجعل من تصفيات البوسنة والهرسك، والهوتسي والتوتسي، ومجازر العراق هوامش صغيرة في تاريخ الصراعات والإبادات الجماعية.

تلعب السلطة السعودية بالنار عندما تسكت على خطاب الاستحضار الذي يشعل نار الفتنة، ورغم أن السلطة تسرع لإقالة عالم انتقد سياسة الاختلاط في جامعة جديدة، نجدها تصمت على خطاب القتل الذي يتردّد على شفاه علماء الاستحضار. بل هذا الصمت هو سياسة مدروسة تتبناها السلطة. فهي من جهة تطلق العنان لمن يريد أن ينفّس عن احتقانه، فيدخل في منافسة مع أقرانه المتخرجين من مدرسته ذاتها، ليزايد هؤلاء على بعضهم البعض، ويكسبون بذلك تصفيق جمهور محتقن هو الآخر. وبين الحين والحين يسقط بعض اللاعبين ليبرز آخرون، وتبقى السلطة تتفرج على هذه الكوميديا المقيتة. وهي وإن أقالت موقظ فتنة في السابق على تبعية تصريح او مقابلة تلفزيونية، فهذا يكون دوماً استجابة لحالة سياسية، ومحاولة لإصابة هدف آني، سرعان ما يزول ويتلاشى، وتعود المسرحية الى فصولها المعروفة.

تمر المنطقة العربية بما فيها السعودية بأسوأ حالة احتقان طائفي وتكتلات على معابر هويات ضيقة، وذلك لعدة أسباب، منها ما هو داخلي وآخر خارجي.

بعد اندحار خطابات سياسية وحدوية سابقة، وبروز السلطات الفئوية القمعية، وربط التنمية الاقتصادية بالولاء وليس المواطنة، بالاضافة الى عمليات التهميش الجماعي لفئات معروفة، ومناطق كبيرة وشاسعة داخل كل دولة، نجد أن المجتمعات الضيقة بمساعدة علماء الاستحضار، وكثيراً بمباركة السلطات، استنفرت واستحضرت هي الأخرى ولاءاتها الطائفية الضيقة التي بدت وكأنها تحميها من الآخر، ومن السلطة، وتوفر لها بعض الضمان الإجتماعي. لقد أصبحت الطائفة ـ مع الأسف ـ مجتمعنا المدني المنقوص، وفي بعض المناطق تحولت الدولة الى طائفة تماما كما حدث في السعودية وعند بعض الجيران العرب. هذا التحول الخطير دخل المرحلة الثانية التي نعيشها هذه اللحظة، وهي ترتبط باندلاع العنف الذي بدأ منذ أكثر من عقد في بعض جهات من العالم العربي، وكانت فصوله الدامية قد تبلورت في العراق، ومن ثم انتقلت الى لبنان، والآن تقلّب صفحاته على ثغر الأمّة في جنوب السعودية.

نستطيع أن نجزم اليوم أن العربي لا يتحرك ولا يتظاهر ولا يحرك ساكناً ان كانت لقمة عيشه مهددة، أو أرضه محتلة من قبل عدو خارجي، ولكنه مستعد للاستماتة في سبيل الدفاع عن حدود طوائف وفرق، وبين الحين والحين نجد أن صراع الطوائف الداخلي قد يكون أشرس وأكثر ضراوة، لأنه صراع على من يسيطر على كل كتلة، ومن له الحق أن يمثلها. وهذا الوضع هو حالنا اليوم.

ومع الأسف، لا يبدو هذا وكأنه تطور اجتماعي منعزل، بل لقد كان منذ البدء مرتبطاً بسياسة سلطات قمعية، تصنّف وكأنها دول حديثة. لقد قامت سلطات كثيرة في عالمنا العربي على فئوية وطائفية مقيتة، وضربنا هنا بالسعودية مثلاً للدولة التي تبنّت خطاباً إسلامياً شاملاً، وطبّقت إقصائيّة فجّة، وممارسة تهميشية عمرها طويل. واليوم قد دخلت هذه السلطة مرحلة جديدة، بدأت في الثمانينات أول ما بدأت حيث تبنّت ونمّت شريحة كبيرة من علماء الإستحضار القادرين على تطييف حروبها السياسية، وصراعها مع الآخرين على مناطق النفوذ والهيمنة. نحن لا ننفي الصراع السياسي والمنافسة من قاموس الشعوب، ولكننا نؤمن بالدبلوماسية أكثر مما نؤمن بالحسم العسكري المستحيل أصلاً وبحقن الطوائف بقيل وقال منتزع من سياقه التاريخي وبيئته السابقة، ومن ثم الصاقه واسقاطه على كل سياسة شاردة أو واردة، وذلك لتثبيت شرعية دينية انقرضت منذ زمن.

أما ما يتردد عن (مجاهدينا الموحدين) وبطولاتهم ضد الزنادقة والمبدعين، أحفاد الطوسي والعلقمي الى آخره... فهو لعب بالنار، وإسقاطات واهية على معارك سياسية بحتة، ليس من مصلحة الجميع أن تتخذ أبعاد الصراع العقدي، والذي قد يفجّر المنطقة بطريقة لن تحتويها خطابات التهدئة والدبلوماسية بعد فوات الأوان. وستحترق بهذه النار السلطة وعلماء الإستحضار معاً. لأن المجتمعات ستستفيق على حقيقة مرّة، وتمويه طويل الأمد، لأنها ستتعب من تبعيات الإنقسام والتحجّر والتقوقع خلف جدران طوائف مهيّجة.

عن: القدس العربي، 11/1/2010

الصفحة السابقة