حين يشيخ النظام

د. حمزة الحسن

ثمّة وفرة غير عادية في الأخبار والمقالات والتعليقات التي تنشرها المؤسسات الإعلامية السعودية الكبرى في الداخل والخارج، عن قضايا كان يجري التعامل معها، حتى وقت قريب، بالتعتيم. وتتعلّق هذه الأخبار بالفقر وحجمه في السعودية (ربع السكان تحت مستوى خط الفقر)، وبالبطالة (ذكر وزير العمل في 13/ 7/ 2008 أن هناك 3.2 ملايين سعودي يبحثون عن وظائف وما زال الرقم في تصاعد)، وبحالات الانتحار المتزايدة بين الذكور والإناث؛ وتزايد معدلات الجريمة، وظاهرة الارتداد عن الدين، والتحوّل نحو المسيحية بسبب ضغط التطرّف السلفي/ الوهابي؛ وتهالك البنية التحتية التي كشفت عنها سيول جدّة وبعدها سيول الرياض، التي أودت بحياة مئات المواطنين وما كشفت عنه من فساد غير مسبوق في تاريخ الأمم؛ وضعف مستوى التعليم ومخرجاته في كل مستوياته (نحو 70% من المدارس الرسمية هي عبارة عن بيوت مستأجرة، وهناك اليوم نحو 70 ألف طالب سعودي يدرسون في الخارج)، وكذلك تردّي الخدمات الصحية، وغيرها.

وبديهيّ أن يكون التساؤل على النحو التالي: هل يعقل أن يحدث كل هذا في بلد مثل السعودية، أغنى دولة في المنطقة، وواحدة من أغنى دول العالم؟

المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والخدمية التي تؤدي بدورها إلى مشكلات سياسية، لا تعود إلى نقص في التمويل، بل هناك فائض في المال ذهب ليحل مشاكل آخرين (أعلن في نيسان/ أبريل الماضي عن استثمار تريليون ريال مع شركات أميركية، وفي أيار/ مايو الماضي قدّم الملك مليار دولار إلى البحرين، وقبلها بنى مدينة سكنية في الأردن كلّفت مليارات، فيما 22% من السعوديين فقط هم من يمتلكون مساكن، والنسبة نفسها في الإمارات تبلغ 91%، وفي الكويت 86%). وبلغ فائض الميزانية بين عامي 2003 و2008، أكثر من 1.4 تريليون ريال (أكثر من 373 مليار دولار). إذاً أين تكمن المشكلة؟

القضية أكبر من مسألة سوء إدارة، وأبعد من حصرها في قطاع واحد من قطاعات الدولة. كما تتجاوز القضية مشكلة الفساد الذي يجعل من المصروفات الحكومية كأنها مجرد أرقام على ورق. فقد قدرت خسائر السعودية نتيجة الفساد، وحسب يونايتد برس في 22/2/2007، بنحو ثلاثة آلاف مليار ريال (800 مليار دولار). وكشف رئيس ديوان المراقبة العامة، أسامة فقيه، عن أن المشاريع الحكومية التي لم تنفَّذ إلى الآن وصلت إلى أربعة آلاف مشروع، بلغت قيمتها 6 مليارات ريال ذهبت أدراج الرياح (الجزيرة، 10/5/2010).

جذر المشكلة يعود إلى الترهّل العام في الدولة ورجالها ومؤسساتها وأفكارها. في كل اتجاه ذهبت يمكن أن تلاحظ الانحدار في الأداء، وأنّى وقع بصرك تجد فقدان الحسّ بالمسؤولية وغياب المبادرات الخلّاقة.

الدولة السعودية (شاخت) فانحدرت، كأننا نعيش الحقبة الأخيرة من الدولة الخلدونية، أو كأنها تذكّر البعض بالأيام الأخيرة للدولة السوفياتية، كما قال البروفيسور الراحل فرد هاليداي بعد زيارته للسعودية منتصف التسعينات الماضي. لذا ترى التراجع في السياسة الخارجية، كما في السياسة الداخلية: في الأمن الفالت من العقال، في غياب النظام والقانون وعدم احترامه، في الثقافة المبرّرة للفساد، في فساد القضاء والقضاة، وحتى في ميدان الترفيه والأندية الرياضية؛ والأهم في انعدام الحسّ الوطني بسبب ضعف الهوية والثقافة الوطنية، وفي غياب الفكرة والمشروع اللذين يمكن أن يكتّلا الجمهور ويحفّزاه على النشاط والعطاء. لا توجد فكرة سامية، وطنية أو إسلامية، تمثّل عنواناً للجهد الحكومي يتحلّق حوله الشعب ويسعى من خلاله إلى تحقيق منجز على الأرض.

ورجال الحكم معمّرون يقتربون من التسعين عاماً، والشاب منهم يكاد يصدم عتبة الثمانين عاماً. الفاصلة بين ذهنية هؤلاء وبين شريحة الشباب الذين يمثلون نحو 35% من السكان، كبيرة جداً وحادّة. عالم الحكم يدير الدولة بعقلية النصف الأول من القرن العشرين، وهو عالم لا يعتمد الدراسات والأبحاث (التي لا يوجد أيّ منها في السعودية)، وإن وجدت لا يوجد من يقرأها، فضلاً عمّن يستفيد منها. هذا العالم يعتمد (البركة) في إدارة الدولة، كما يقال، وقد أطلق الجمهور السعودي على أجهزة الدولة قولاً مأثوراً (اتركوها فإنها مأمورة)! وهو قول يُفهم منه أن حالة التسيّب بلغت مداها.

ترهّل الجهاز الحكومي وضعف أدائه على الصعيدين الخارجي والداخلي، يعكسهما ترهل الحاكمين أنفسهم بسبب السنّ، وعدم القدرة على مواكبة التطوّر. أي إنّ واقع الدولة السعودية اليوم تحكيه صورة حكّامها وواقعهم. لهذا فقدت السعودية تأثيرها وحيويتها في محيطها الإقليمي، وأخذت مواقعها تتهاوى الواحد تلو الآخر، وأصبحت معظم سياساتها مجرد ردود أفعال أكثر من كونها أفعالاً مخطّطاً لها وذات مدى استراتيجي. ولهذا أيضاً، أمكن لبضع قطرات من مياه الأمطار أن تزيل الطلاء عن واقع التنمية والبنية التحتية البائسة التي صُرفت عليها مئات المليارات من الدولارات.

لا عجب إذن، في أن يشيخ المجتمع السعودي رغم شبابيته، وأن يُشغل بقضايا الطائفية والمحاججات ذاتها التي سادت في القرن الرابع الهجري، أكثر من انشغاله في كيفية إصلاح نفسه وتطويرها، فيما العالم ـ حتى الخليجي منه ـ صار يسبق السعودية بمراحل في الميادين الإنمائية والسياسية. إنّ مجتمعاً أُشغل بمناقشة حق المرأة في قيادة السيارة، وفي السفر بدون محرِم، ومن هو الممثل الصحيح للفرقة الناجية، والاختلاط العارض وغيره، وتكفير المخالف... لا يتوافر لديه الوقت حتى لإصلاح وضعه السياسي، وتحسين مستوى معيشته، والنظر إلى من حوله في مقارنة تبعث على الألم والحسرة أحياناً.

السعودية بحاجة الى أكثر من هزّة في بنائها الإداري، ونظامها السياسي، وثقافتها المجتمعية. وإلّا فإن مشاريع ومؤسسات مكافحة الفقر؛ ومكافحة الفساد؛ ومكافحة التطرّف الديني؛ ومكافحة العنف؛ وتطوير وضع حقوق الإنسان؛ والتغنّي بـ (الحوار الوطني)، ومفاهيم التعدد والمساواة واحترام الآخر عبر مركز الحوار الوطني.. لا تجدي شيئاً، وهي لم تجدِ شيئاً حتى الآن.

مقوّمات النهضة ـ ولو في جانبها المادي الاقتصادي ـ متوافرة في السعودية وممكنة لو توافر لها وضع سياسي مختلف.

* عن الأخبار اللبنانية، 5/6/2010

الصفحة السابقة